وجها لوجه عبد الحميد بن هدوقة وأبو المعاطي أبو النجا

- طه حسين يمثل الحل الصحيح للأصالة والمعاصرة.
- البطل الايجابي عندي ليس هو المتفائل الساذج، أو الذي يبرح، بل هو الذي يثير القلق، ويفشل حين تكون الظروف الموضوعية تحتم الفشل.
- طه حسين يمثل الحل الصحيح للأصالة والمعاصرة.
- البطل الايجابي عندي ليس هو المتفائل الساذج، أو الذي يبرح، بل هو الذي يثير القلق، ويفشل حين تكون الظروف الموضوعية تحتم الفشل.
- المثل الأعلى عندنا ليس نقطة تفصلنا عنها مسافة، بل المسافة عندنا جزء من هذا المثل الأعلى.
- الرواية الحديثة في أوروبا - رغم تقدمها في الشكل - تفتقر إلى قضية، أما أنا فأكتب رواية حديثة تحمل قضية.
- (الأحمر) و (الدراويش) كلاهما منفصل عن واقعه، والجيل التالي الذي يعي هذا الانفصال ويتخطاه هو الذي سيرث الجزائر.
- (الأنظمة) مهما كانت جيدة وتقدمية لابد أن تأخذ في اعتبارها مقومات المجتمع الروحية.
عبد الحميد بن هدوقة، ولد بالمنصورة، بولاية سطيف سنة 1925، وهو واحد من أهم كتاب القصة والرواية في الوطن العربي، ومن أوائل من كتبوا القصة والرواية الجزائرية باللغة العربية.
أما محاوره فهو أبو المعاطي أبو النجا من أسرة تحرير مجلة (العربي).
من أهم مؤلفاته:
- ظلال جزائرية - مجموعة قصص – بيروت سنة 1960.
- الأشعة السبعة – مجموعة قصص – تونس 1962.
- الأرواح الشاعرة من الشعر الحر – الجزائر سنة 1967
- ريح الجنوب – رواية – الجزائر سنة 1971
- نهاية الأمس- رواية – الجزائر سنة 1975
- بان الصبح – رواية – الجزائر – سنة 1980
- الجازية والدراويش – رواية – الجزائر سنة 1983
من كتبه المترجمة إلى لغات أجنبية:
ريح الجنوب: إلى الفرنسية والهولندية والألمانية والاسبانية وغيرها.
نهاية الأمس: الفرنسية والهولندية والبولونية وغيرها.
بان الصبح: الفرنسية والألمانية والهولندية.
الجازية والدراويش: الفرنسية والروسية
- باعتباركم من أوائل كتاب الجزائر الذين كتبوا القصة والرواية الجزائرية باللغة العربية، لعله من المهم في البداية أن نتعرف على أهم المصادر والمؤثرات التي ترون أنها أسهمت في تكوينكم الفكري والفني سواء في إطار التعليم الذي تلقيتموه في الجزائر، أو في إطار الثقافة العربية أو الثقافات العالمية؟
- بالنسبة لنوع التعليم الذي تلقيته في الجزائر فقد درست (كجزائري من الريف من قرية الحمراء بجوار المنصورة) الفنون الأدبية التقليدية والعلوم الشرعية، في ذات الوقت، كانت هناك مدرسة للتعليم باللغة الفرنسية تابعت دروسها حتى نهايتها، ثم في فترة تالية سافرت إلى مرسيليا في فرنسا والتحقت بمدرسة تقنية، وحصلت على دبلوم في تحويل المواد البلاستيكية، وصادفت في هذا الوقت أن كانت هناك مسابقة في فرنسا لتكوين مخرجين إذاعيين للعمل في الإذاعة الجزائرية فدخلت المسابقة، وحصلت على منحة لدراسة الإخراج الإذاعي، وكانت تلك نقطة تحول في حياتي المهنية، حيث أتيح لي بعد ذلك أن أدرس المسرح وأتفرغ للعمل كلية في مجال الإعداد والإخراج الإذاعي والتليفزيوني.
وبعد الاستقلال عملت بالإذاعة والتليفزيون في الجزائر كمدير برامج فنية ثم تطورت من خلال العديد من المسؤوليات إلى أن كانت آخر مسؤولياتي في مجال العمل هي مستشار ثقافي في الإدارة العامة للتليفزيون والإذاعة.
- بالنسبة لأهم المصادر والمؤثرات في إطار الثقافة العربية، فلعله من المهم هنا أن أشير إلى مكتبة أبي في البيت، كان أبي أحد علماء الدين، وكانت لنا مكتبة توارثناها أبا عن جد، زاخرة بأهم كتب التراث في الدين واللغة والأدب.
من أنفس ما كانت تضمه هذه المكتبة خطابات محررة من ملوك الطوائف في الأندلس إلى بعض حكام الجزائر يطلب فيها هؤلاء الملوك من هؤلاء الحكام أن ينضموا إليهم في حروبهم التي لم تكن تنتهي ضد بعضهم البعض، وكانت هذه الخطابات مكتوبة بخط عربي من أجمل الخطوط، ومن المؤسف أن هذه المكتبة القيمة أحرقها الفرنسيون أثناء حرب التحرير لأن منطقة المنصورة التي بها قريتنا كانت إحدى المناطق المحرمة لعنف المقاومة بها.
من خلال هذه المكتبة تعرفت على أمهات الكتب في الأدب العربي القديم والحديث... إلى أن وصلت لعصر النهضة، ومع أنني من كتاب عصر النهضة جميعا سواء في المشرق أو في المهجر، وكنت أقلد "مي زيادة"بخاصة إلا أنني كنت مفتونا بـطه حسين، قرأت كل كتب العقاد والحكيم وغيرهما، وأعجبت بهم ولكن إعجابي الأكبر كان بـطه حسين.
لماذا طـه حسين؟
- لأن طـه حسين هضم وتمثل الثقافة العربية القديمة وهضم الثقافة الغربية الحديثة، وفي داخله تفاعلت الثقافتان من خلال عقل متفتح، وطه حسين بهذه المثابة يعتبر نموذجا للتواصل الفعال بين القديم والجديد في ثقافتنا، بين المحلية والعالمية، ويمثل الحل الصحيح لإشكالية الأصالة والمعاصرة، والذي قام يمثل طه حسين عندنا في الجزائر بالنسبة لتحقيق تواصل فعال بين الثقافة العربية القديمة والثقافة المعاصرة هو الشيخ "البشير الإبراهيمي".
الأدب الروسي كان هو الأهم:
- ماذا عن تأثرك بالآداب الأجنبية؟
- قرأت تقريبا معظم ما كتبه الأدباء الفرنسيون البارزون في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، وتأثرت بهم ولكن إعجابي الأشد وتأثري الأقوى كان بالأدباء الروس في القرن التاسع عشر. لقد قرأت هذا الأدب في مرحلة الشباب ولهذا تأثيري كان عميقا وشاملا، قرأت أيضا لكتاب كثيرين آخرين مثل توماس مان وفرنسوا مورياك وأندريه جيل وهمنجواي وألبرتو مورافيا وجان جينيه وسيمو ديبقوار، ولكن قراءاتي لهؤلاء كانت قراءة ناقدة محللة.. ولا أظن أن تأثيرها تجاوز الجانب العقلي أو النفسي الى الجانب الوجداني والروحي الذي يؤثر عليك دون أن تشعر في مرحلة الشباب!
من هم قراؤك؟
- عندما بدأت تقدم أول عمل روائي لك "ريح الجنوب" باللغة العربية لمن كنت تتوجه بخطابك الروائي؟ للقارئ الجزائر؟ وكم كانت نسبة من يقرؤون بالعربية في الجزائر آنذاك؟ أم كان في ذهنك القارئ العربي بعامة لتقدم له صورا من الجزائر وهي تخرج من حرب التحرير وتواجه مشاكل مرحلة الاستقلال؟ أم كنت تخاطب القارئ في أي زمان ومكان لأنه في داخلك كل الكتاب من كل الدنيا؟ وهل كان هذا الموقف يمثل مشكلة لجبلكم الذي بدأ يكتب بالعربية بعد أو مع جيل كاتب يس، وحداد وفرعون، وبوجدرة، وغيرهم ممن كتبوا (وبعضهم لا يزال) بالفرنسية. وإن كانت أعمالهم تترجم بعد ذلك إلى العربية.
- حين بدأت أكتب بشكل عام كانت نسبة من يعرفون العربية حوالي 6 % من الشعب الجزائري، وحتى تعرف أن المشكلة لم تكن مقصورة على من يعرفون العربية، فغن من يعرفون الفرنسية آنذاك من الشعب الجزائري كانت نسبتهم لا تزيد عن 10 %، وهؤلاء هم الذين كنا نسميهم المثقفين تجاوزا فلم تكن معرفة الكثيرين منهم تزيد عن الإلمام بالقراءة والكتابة والمعارف العامة.
بدأت الكتابة في الخمسينيات بأقاصيص صغيرة في الجرائد، الكتابة الحقيقية بدأت بعد الاستقلال، لماذا لم تصدر الرواية العربية في الجزائر إلاّ في السبعينيات؟؟ لأن وجود مثقفين بالمعنى الحقيقي وكتاب للرواية بمعناها الفني الحقيقي لم يكن ممكنا قبل ذلك، فهؤلاء المثقفون كانوا أساسا قلّة قليلة، وكانوا إلى جوار ذلك مدعوين للقيام بمهام أخرى أكثر إلحاحا أثناء الثورة، ولأن كتابة رواية فنية بالمعنى الحقيقي كان يحتاج درجة من التفرغ والوقت ولم يكونوا يملكونه، ولأن قطاعات عريضة من قراء العربية في الجزائر لم تكن قد وجدت بعد، الكاتب لا يكتب في المطلق أو المجرد، ولكنه يكتب من واقع مجتمع محدد له مشاكله وظروفه، ليسهم في تطويره، ويعمل من خلال كتابته على إزالة العوائق أمام هذا التطور، وهكذا فإنني كنت أنطلق من شعوري بمشاكل الإنسان الجزائري أولا، ثم الإنسان العربي في الوطن العربي، ثم الإنسان في العالم، وفي الواقع فإن هذه الدوائر ليست منفصلة، بل هي متداخلة وفي الرؤية الأعمق هي متصلة، فمشاكل الإنسان الجزائري هي مشاكل الإنسان العربي قد تختلف في الدرجة الأولى أو المدى، ولكن تناولها بصدق وبصيرة يجعلها تعني كل عربي بل كل إنسان في العالم.
ربما يبدأ الكاتب تحت تأثير تفجر الموهبة بتقليد غيره من الكتاب في عصره وفي موطنه، أو لمجرد التعبير عن ذاته، ولكنه حتما ومع الوقت والنضج يصل إلى نقطة الشعور العميق بالمسؤولية، إلى اكتشاف أن الآخرين هم أيضا جزء من ذاته، وأن أي تطور في وعيه بذاته لابد أن يرتبط بتطور وعيه بالآخرين ومشاكلهم، وان عليه لكي يقدم رؤيته الفنية الخاصة لمشاكل وطنه وأمته بصدق أن يتسلح بأكبر درجة من الخبرة والمعرفة الموضوعية بهذه المشاكل.
ريح الجنوب:
- "ريح الجنوب" هي روايتك الأولى، وأظن طبعتها الأولى صدرت في أوائل السبعينيات. وهي تصور أحداثا تقع في سنة 1964 أي بعد الاستقلال بعامين.
حول هذه الرواية التي تمثل كل شخصية فيها قطاعا أو فئة من المجتمع أود أن أبدأ بطرح سؤالين:
أولا: لقد صورت بدقة وفي مساحات واسعة شخصية "عابد" الإقطاعي، وشخصية العجوز "رحمة" و "رابح" الراعي، لكن من ناحية أخرى شخصية "مالك" الثائر أقل مساحة وربما أقل حضورا وفعالية، بل كانت أقرب إلى السلبية إذا قيست بشخصية "عابد" الإقطاعي في إيجابيته وهو يكافح ضد التيار، ولعلنا نسجل الملاحظة ذاتها عن شخصية "نفيسة"، التي عادت في نهاية أحداث الرواية المأساوية إلى بيت أبيها شبه حائرة شبه عاجزة بعد أن فشل مشروع هروبها منه.
ما تفسيرك لهذه الملاحظة إذا وافقت عليها؟
ثانيا: ألا ترى أن فشل مشروع زواج مالك الذي يمثل الثورة من "نفيسة" التي تبدو وكأنها تمثل المستقبل، يمكن أن يوحي بشيء من الخوف، وعدم الثقة في المستقبل...؟
- أردت في هذه الرواية أن أتناول قصتي "الأرض" و"المرأة" الأرض لا تتحرر بمجرد الاستقلال وطرد المستعمر، فبقاء الإقطاع يعني استمرار شكل من أشكال الاستغلال والسيطرة.
وتحرير المرأة لا يتم بمجرد صدور عدة قوانين تعلن ذلك أو بمجرد ذهابها للمدرسة، تحرير المرأة يتم من خلال تغيير الأوضاع الاجتماعية ذاتها، وهذه عملية طويلة وشاقة، أنا أردت أن أوضح العلاقة الجدلية بين تحرير الأرض وتحرير المرأة، وأن ادعاء تحرير المرأة مع بقاء علاقة الإقطاع لا يمكن أن يثمر حرية لا للمرأة ولا للرجل.
مشروع زواج "مالك" من "نفيسة" كان من الضروري أن يفشل، لأنه لم ينبع منهما، وإنما جاءت فكرته من الأب، الذي لم ير في ابنته سوى وسيلة للاحتفاظ بالأرض.
لو جعلت "نفيسة" تنجح في زواجها من شيخ البلدية الثائر لأوهمت القارئ أن قضية المرأة حلت وهذا غير صحيح، ولو نجح مشروع هروبها لخالتها في الجزائر لأوهمت القارئ أن الهرب يمكن أن يصبح حلا، وهذا بالقطع ما لا أريده.
قضية المرأة قدمت على مستويين، مستو العجوز رحمة وهي تمثل المرأة في الماضي، بل لعلها تمثل الجزائر القديمة التي تتعرض للتغيير، وهي شخصية مركبة تجمع القيم الأصيلة المستمرة، مثل تقديس العمل، وحب الحياة، وتحمل كل شيء من اسمرارها، إنها تصنع الفخار وهو مادة الحياة الأولى، ودائما تفكر بصنع آنية لم تصنع من قبل، ولكنها تموت قبل أن تصنعها، ومستوى التلميذة نفيسة التي تفقد بعض صفات العجوز رحمة، قبل أن تتبلور صفاتها الجديدة التي تصطدم دائما بالمعوقات.. مثل زواج لا تختاره مع أنه قد يكون صحيحا، أردت أن أقول أن المستقبل لا تبنيه القرارات العلوية، القرارات يجب أن تنبع من حاجات الناس الذين تعنيهم هذه القرارات وتمسهم...!
أعود إلى سؤالك الأساسي عن المساحة الكبيرة التي أخذتها شخصية الإقطاعي وشخصية العجوز "رحمة".
"عابد" الإقطاعي شخصية متبلورة وقوية وواضحة، ولها جذور، وهي في ذلك مثل شخصية العجوز "رحمة" كلاهما يعرف ما يريد، ويملك وسائله، ويسعى بقوة لتحقيقه وقد ينجح أو يفشل، لكن شخصية "مالك" بعد الثورة كانت تواجه مرحلة غموض في الرؤية، الثوار أثناء حرب التحرير كانوا جميعا رغم اختلافاتهم الفكرية يتفقون على هدف محدد هو تحرير الأرض من المستعمر، بعد الاستقلال مباشرة، اختلف الوضع، فكل مجموعة من الثوار ربما كان لديها تصور مختلف لمستقبل الجزائر.
"مالك" لم يكن يستطيع أن يفعل شيئا، كان يعيش حالة انتظار وترقب بعن الانتقال المفاجئ من ضراوة الحرب إلى هدوء سلام غير واضح المعالم، غير واضح الأهداف، أما بالنسبة لنفيسة فهي أيضا تمر بمرحلة تغير كبير وعجز عن الرؤية، أنها تسافر إلى الجزائر لتدرس فترى حياة جديدة، وتتعلم أفكارا جديدة، وتتوهم أنها قد أصبحت بالفعل حرة، ولكنها حين تعود في الإجازة، وتجد أباها يعد كل شيء لتزويجها من شخص لا تعرفه تكتشف أنها كانت تعيش في وهم كبير.. وتتخبط في كل محاولات الخلاص.. لأنها لا تعرف كيف يكون الخلاص.
البطل الايجابي عندي ليس هو المتفائل الساذج، أو الذي يبرح، بل هو الذي يثير القلق، ويفشل حين تكون الظروف الموضوعية تحتم الفشل.
خلل في الإيقاع:
- لي ملاحظة أخيرة على الجزء الأخير من الرواية، فالرواية تبدأ وتستمر خلال إيقاع هادئ، ونسج دقيق ومحكم، يتم بأناة وصبر، وبربط النتائج بالأسباب وبحكم قبضته على أدق التفاصيل والخلجات، ثم فجأة قبيل النهاية يسرع الإيقاع منذ لحظة هروب نفيسة، وتتوالى الأحداث التي تلعب فيها المصادفات دورا في شكل "ميلودرامي" مثل لدغة الثعبان والظهور المفاجئ للراعي، ثم الاختفاء في بيته، وتهجم الأب عليه، إلى حد محاولة القتل، ويصحب هذا كله تبدل في سلوك الأم الخرساء ضد نفيسة التي كانت تعاملها بحنان مع أنها كانت ضحية مثل ابنها تماما...
ألا ترى أن هذا يحدث نوعا ما من الخلل في بناء الرواية؟
- هدوء الإيقاع في معظم الرواية كان ينسجم مع الحياة في الريف حيث تقع أحداث الرواية، والهدوء في الريف في الواقع هدوء مظهري، مجرد قناع، وحين يسقط القناع تحت تأثير تطور الأحداث يظهر العنف الكامن، لقد كان "عابد" يعرف طوال الوقت كيف يخفي حقيقة أهدافه، ولكن حين أصبحت فضيحة "هروب ابنته" ووجودها في بيت الراعي وحديث الناس تحول إلى وحش غير قادر على السيطرة على نفسه، هذا يحدث حتى الآن في ريف الجزائر.
ربما كان في حادث "لدغة الثعبان" لنفيسة أثناء محاولتها الهروب، شيء من المصادفة، وفي ظهور الراعي كذلك، لكن ألبست المصادفة جزءا من الواقع؟ ألا تحدث في حياتنا فتكون حسنة أو سيئة، على أنني قد مهدت لحادثة الثعبان، بظهور ثعبان في البيت تحت للتنبيه إلى أن المنطقة تكثر فيها الثعابين!
ومهدت لظهور الراعي المفاجئ بأنه قد ترك الرعي إلى مهنة حطاب ليكون في ظهوره تلك اللحظة شيء من الطبيعة، "الراعي" و "أمه" كانا يتميزان برقة القلب والإنسانية بكل مدلولاتها، وكان ذلك يحدث حين لا يتهدد الخطر شخصيتهما، ومع ذلك فلعلك لاحظت أن الراعي لم يصر على مواجهة "عابد" مع أنه أقوى منه جسديا لكن الأم هي التي تحولت إلى ما يشبه الوحش للدفاع عن ابنها، ثم بعد ذلك تحول حتى موقفها من نفيسة.
بالنسبة لنفيسة، أين يمكن أن تذهب بعد هذا كله؟ لم يكن أمامها سوى أن تعود إلى بيت أبيها! كان يمكن أن أجعلها تذهب إلى حيث يجلس أهل القرية، وتعلن لهم كل شيء بشأن أبيها، كان يمكن أن أجعل منها "انتيجونا" العصر الحديث؟ لكن كل هذا يكون ضد الصدق، وما يحتمله الواقع بالنسبة لنفيسة وريف الجزائر معا...!
الجازية والدراويش:
- دعنا نقفز فوق عقد من الزمان لنصل إلى أوائل الثمانينيات حيث صدرت روايتك الهامة "الجازية والدراويش" في هذه السنوات حدثت تطورات هائلة في مجتمع الجزائر، وبطبيعة الحال انعكس هذا على أدبك الروائي، فالغموض الذي كان يحيط بموقف "مالك" الثائر بعد الاستقلال في رواية "ريح الجنوب" يتحول في رواية "الجازية والدراويش" إلى صراع واضح المعالم بين تيارين في الجزائر، التيار الذي يمثله "الدراويش" ومن يلوذ بهم كالزراع والرعاة ومن يستخدمهم "كالشامبيط" ولنقل أنه اليمين، ولقد حدث هذا الصراع في إطار محاولة الدولة بناء سد مكان القرية، وظهور الحاجة إلى إقناع الأهالي بمغادرة قريتهم القديمة إلى قرية جديدة بنتها الدولة.. ليمكن بناء السد.
إن الرواية كما هو معروف تستعرض مراحل وأساليب هذا الصراع بين الأحمر ومجموعة الطلاب من ناحية، وهم من يدعون الأهالي إلى مغادرة القرية بين الدراويش ومجموع الزراع والرعاة وهم من يتمسكون بالبقاء في القرية، وتعبر الرواية أدبيا وفنيا عن طبيعة هذا الصراع، من خلال موقف كل هذه الشخصيات والمجموعات من شخصية "الجازية " التي تمثل الجزائر..
هذه لمحة سريعة عن الرواية ننطلق منها للحوار حولها:
يلاحظ القارئ أن بناء هذه الرواية يقوم على أساس ضفيرة مجدولة من زمنين: الزمن الحاضر ويعبر عنه صوت "الطيب ابن الأخضر" وهو في السجنـ والزمن الماضي ويعبر عته صوت "عابد بن السايح" وهو عائد من المهجر إلى قريته، كل صوت يروي فصلا من الرواية على التعاقب، وقد حقق هذا البناء انجازا فنيا هائلا فقد كنت تدخل بالماضي في وقت معين ليفسر بطريق غير مباشر أشياء في الحاضر، ويكسبها دلالات أكثر عمقا وثراء، وأيضا فإن هذا البناء كان يوحي بأن الماشي يسري في الحاضر وأنه لا فكاك بينهما، وان علينا لكي نتقدم ألا ننفصل عن الماضي تماما بل يكون تقدمنا ارتقاء ونموا من أفضل نقاط الانبعاث في هذا الماضي، هل توافق على هذا التفسير؟؟
- أوافق تماما، علماء الاجتماع يقولون: إن الماضي يشكل 70 % من الحاضر، فأنا حتى قبل أن أولد ومادمت جزائريا من مواليد المنصورة فسأكون عربيا ومسلما، وسيكون مصيري مصير بلد عانى الاستعمار، وينتمي إلى العالم الثالث، وسأنتمي حضاريا إلى العروبة والإسلام وإلى حضارة حوض البحر الأبيض، وجغرافيا إلى الشمال الإفريقي... الخ الخ.
أعود إلى ملاحظاتك على بناء الرواية، قبل رواية "الجازية والدراويش" كنت أكتب بطريقة تقليدية إلى حد ما، مراعيا أن ذلك ربما كان أكثر ملائمة للقارئ الجزائري في تلك المرحلة، وقد كان بعض النقاد يظنون أن ذلك قصور مني، كما أن هناك من يتهم اللغة العربية بأنها لا تمنح الفرصة للأساليب الحديثة في صياغة أو بناء الرواية، ولقد أحببت أن أبرهن أن اللغة العربية يمكن أن توفر قالبا حديثا، لا يقل – أن لم يتفوق – على الرواية الحديثة في أوروبا، لأن الرواية الحديثة في أوروبا رغم تقدمها في الشكل تفتقر إلى موضوع أو إلى قضية أما أنا فأكتب رواية حديثة تحمل قضية، تقرأ مثل روايات "ألان روب جرييه" أو "ناتالي ساروت" ماذا يريدون أن يقولوا ؟ رواياتهم لا تخدم قضية، رواياتهم تعبر عن رفض وملل وعدم انتماء، نحن أبناء ظروف مختلفة، ولدينا طريقة تفكير مختلفة، نحن نعتقد أن الإنسان مسؤول في كل فترة من فترات حياته، مثلنا الأعلى ليس نقطة تفصلنا عنها مسافة لابد أن تقطعها لكي نصل إليه، بل إن المسافة عندنا جزء من ذلك المثل الأعلى وطريق إليه، فنحن مسؤولون في كل المراحل وسعداء بكل جزء نقطعه من تلك المسافة، مهما يكن قصيرا، وفي الواقع أنني أيضا أحببت أنم أشير بطريقة هذا البناء في الرواية إلى هذا المعنى من بعيد إلى جوار الهدف الأساسي الذي أشرت إليه، وهو تفسير الحاضر بالماضي وتداخلهما.
شيء آخر أود أن أشير إليه يتعلق بطريقة بناء هذه الرواية، فهذه الطريقة أيضا تجعل الرواية أشبه بلوحة مكونة من خطوط متوازية، ومتقاطعة وتتداخل الخطوط والألوان مع نمو الرواية حتى تكتمل اللوحة، وكما أن مشاهد اللوحة يراها كلها في لحظة واحدة.. بدايتها ونهايتها فإن قارئ هذه الرواية يلتقي بنهايتها في البداية كما يجد نفسه في نهايتها ومن خلال هذه النهاية يزداد تفهما ووعيا بالبداية.
كل هذا تعبير عن التداخل بين الماضي والحاضر. وقد كان هناك تداخل أيضا بين الواقع والأسطورة، فالجازية التي هي جزء واقعي في تاريخ الجزائر تحولت في الرواية إلى أسطورة، وإذا كانت صورة "الحضرة" التي حدثت خلالها المواجهة بين الأحمر والدراويش من خلال الذكر، ولعق المناجل المحماة قد أخذت شكلا رمزيا وأسطوريا معا، فإن كل عناصر هذا الموقف وأجزائه واقعية، مستمدة من تقاليد القرى، ولكن تجميعها وتوظيفها في لوحة شاملة للتعبير عن طبيعة المواجهة بين "الأحمر" و"الدراويش" هو الذي ارتفع بها إلى مستوى الأسطورة والرمز.
الجيل الذي يرث الجزائر:
- أود أن أشير إلى ما رأيته كقارئ لهذه الرواية من انعكاسات لهذا البناء الفريد على المضمون ذاته، لقد رأيت "الأحمر" من خلال "الدراويش" كما رأيت "الدراويش" من خلال "الأحمر"، وقد أذن لي هذا التقابل أن أكتشف أنه رغم المسافة الهائلة بينهما والتي حولت الحوار الممكن بينهما إلى مواجهة مستحيلة، اكتشفت أن الأحمر يحمل الكثير من سمات الدراويش كما أن الدراويش يحملون الكثير من سمات الأحمر فهم مثله ثوار سمحوا لطاقاتهم الروحية أن تتمرد على اليومي والمألوف ولكنهم تركوا هذه الطاقات تنساب في مسارب خاطئة، ولو يعرفوا ماذا يفعلون بها؟ كما أن الأحمر يصدر عن ذات الطاقة الداخلية الهائلة، ورغم أسلوبه العلمي والعملي إلا أنه كان مثلهم مندفعا أمام هذه الطاقة الهائلة (الدرويش في داخله) حتى انفصل عن قومه وفقد اللغة المشتركة معهم بسبب يقينه القاطع بأنها لم تعد لغة العصر، وفي النهاية يلتقي هو والدراويش في سمة واحدة مشتركة هي الانفصال عن واقع القرية، والعجز عن الحوار مع أهلها، ولقد بدأ بناء الرواية ومن الطريقة التي تتفاعل بها الشخصيات الثانوية فيها أن هذه الشخصيات وهي شخصية "الطيب ابن الخضر" و "عابد بن السايح" و "حجيلة" و "صافية" و "الدراويش" معا، وسوف تصنع مستقبل الجزائر لأن هذه الشخصيات كانت طوال الوقت تزداد إدراكا للهوة التي تفصل بين الأحمر والدراويش وأهل القرية، وتبحث عن اللغة المشتركة، وتدرك أن المستقبل لابد أن يكون ثمرة لحوار حقيقي بين الماضي والحاضر بل إن شخصية صافية التلميذة التي كانت رفيقة رحلة إلى المستقبل وهو الذي كان مخطوبا للجازية في بداية الرواية.
هل توافق على هذا التفسير؟؟
- لا أحب أن أزيد كلمة على ما قلت، فقد تحدثت بدقة عما كنت أرمي إليه، وكل ما يمكن أن أضيفه هو تأكيد لما قلت، فالشجرة لا تهرب من عروقها، والأنظمة مهما كانت جيدة وتقدمية ينبغي أن تنسجم مع المجتمع الذي تعيش فيه، إن قطع مجتمع عن روابطه وصلاته لا يمكن أبدا أن يؤدي إلى الخير، ودعنا نواجه الحقائق، لماذا لم تنجح الاشتراكية بمعناها الماركسي في الأقطار العربية؟ لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار مقومات المجتمع الروحية وتقاليده القومية، المجتمع التقليدي العربي ليس كله رجعيا، نستفيد من تجربة العالم المعاصر دون استعلاء على تجاربنا، فضمن هذه التجارب ما يمثل نقاط انبعاث هامة يمكن أن تنطلق منها، وأن تضيف إليها من التجارب المعاصرة..!