موقف النقد من القصة القصيرة عند عبد الحميد بن هدوقة نقد الاستاذ عبد الله ركيبي نموذجا

عبد الحميد بورايو
عبد الحميد بورايو
يعتبر كتاب الاستاذ عبد الله ركيبي من الكتابات المؤسسة لنقد القصة القصيرة والتأريخ لها في الجزائر. وهو عبارة عن بحث أكاديمي، تقدم به صاحبه لنيل شهادة الماجستير من جامعة القاهرة. تم نشره في شكل كتاب سنة 1967 بمصر. وأعيد طبعه بعد عشر سنوات من قبل دار النشر الليبية التونسية، وهي "الدار العربية للكتاب" (1). وقد لقي رواجا نظرا لكونه يمثل أحد البحوث الرصينة الاولى التي عالجت لونا من ألوان الأدب الجزائري وفق منهجية علمية تقترب من المستوى العام لبحث أنواع الادب في البلاد العربية في تلك الفترة من تطور بحوث الادب العربي.
يرسم الدكتور عبد الله ركيبي كهدف له التأريخ للقصة الجزائرية ونقدها، وهو يقول في المقدمة بهذا الصدد: "اخترت المنهج الذي يجمع بين النقد والتاريخ، فالتاريخ هنا ليس مقصودا لذاته، وإنما هو لبيان خط تطور القصة ومسارها العام. [...] أما المنهج النقدي، فهو الاعتماد على النص وما يصوره من تجربة انسانية ويعبر عنه من مضمون، وواقع معيش" (2).
ما يعنينا في الكتاب، في معالجتنا هذه، هو نقده لقصص عبد الحميد بن هدوقة، وقد درس من خلاله كلا من مجموعتيه "ظلال جزائرية" (3) و"الاشعة السبعة" (في طبعتها الاولى) (4)، وسوف نحاول أن نرصد مجموع وجهات النظر التي قيم من خلالها الدكتور عبد الله ركيبي قصص عبد الحميد بن هدوقة الاولى التي كتبها في مرحلة شبابه، أي خلال الخمسينيات ومستهل الستينيات.
ينطلق الدكتور عبد الله ركيبي في تقييمه للقصة القصيرة الجزائرية من المفهوم الذي يرى بأن الادب وثيقة تعبر عن "تجربة إنسانية" في احتضانها لـ "مضمون واقع معيش" (5). فالنص الادبي وفق هذا المنظور انعكاس مباشر لواقع معيش واحتضان لتجربة حياة الانسان. يقول: "إن الفنان الاصيل هو من يبحث دائما عن الانسان، ويعبر عن قضايا الانسان الخاصة والعامة، عن قلقه، عن طموحه، عن أشواقه، عن حياته المادية والروحية معا" (6). وهو يميز بين تيارين أساسيين توزعا القصة القصيرة الجزائرية التر أرخ لها، وهما التيار الرومانسي والتيار الواقعي. وقد موضع المجموع الاولى لعبد الحميد بن هدوقة "ظلال جزائرية" في التيار الاول، بينما وضع المجموعة الثانية "الاشعة السبعة" في التيار الثاني.
يميز عبد الله الركيبي بين نوعين من الرومانسية:
أ)"الرومانسية الهادئة المثالية التي تحلم بأشياء غير موجودة. تحلم بالحب العذري، "الحب الروحاني"، الحب السماوي الذي لا أثر للجسد فيه. وأسلوب هذا اللون هادئ، والعاطفة فيه لا تجنح للثورة والتمرد" (7).
ب)"الرومانسية الحادة العنيفة أو المادية" – إن صح التعبير – لأن البحث فيها عن الحب المادي الصرف" (8). ويصف كلا منهما قائلا: "فالنوع الاول: الرؤية فيه خيالية مجنحة بينما في النوع الثاني ذاتية منغلقة، موغلة في الانغلاق والذاتية. ومن هنا فإن الاسلوب في النوع الاخر يميل الى الصخب والعنف والى الحدة في المشاعر والعواطف والاحاسيس، ويجنح الى الثورة والتمرد تعبيرا وعاطفة" (9). وهو يقيم الانتاج القصصي الذي ينزع نزوعا رومانسيا قائلا: "والقصص التي تنزع منزع الرومانسية، وإن كانت تتحدث عن مشاكل انسانية، إلا أنها ليست من الشمول والعمق بحيث تكون هي المحرك والدافع لتصرفات الانسان في الحياة إلا من زاوية ضيقة جدا. فحياة الانسان أكثر تعقدا وأوسع أفقا، إذ ليست مشكلة الانسان الوحيدة هي البحث عن الحب أو الجري وراء المرأة، فحب المرأة جزء من حياته ولكنه ليس كل شيء في الحياة" (10).
يبدو جليا من هذه النصوص النقدية أن الدكتور ركيبي ينطلق في دراسته لقصص مجموعة "ظلال جزائرية" من مبدأ حكم سابق على طبيعة الانتاج الرومانسي وهو حكم مبني على نظرة اختزالية للرومانسية في الأدب، فيها شيء كثير من الضيق، ومن التحديد، ابتعد بها كثيرا عن الرؤية الشمولية والتقييم الموضوعي لهذا التيار الذي يمكن رده الى رؤية فلسفية للوجود، ونظرة للحياة لها ما يبررها في الواقع الاجتماعي والسياسي للعصر الذي ظهر فيه انتاجه، وهو موقف ينضوي تحت ما شاع في كتب النقد وتاريخ الادب العربي من تقييم سلبي لوجهة النظر الرومانسية، وهو ما عناه محمد بنيس لما قال: "المتخيل العربي، إذن، يقدم لنا الرومانسية في صورة الاستسلام بدل المناهضة، الانكفاء بدا إعلان حرية الذات ضد سلطة الجماعة والإجماع، العجز اللغوي والقصور الثقافي بدل تفجير اللغة والبحوث في مجهول اللغة والثقافة. هذه الصورة المقعرة للرومانسية في متخيلنا الجماعي تتركنا بعيدين، بكل اختصار، عن الرومانسية، وتتركنا خارج ضرورة الزمن الرومانسي" (11). لذلك كله نجد معالجته التطبيقية لقصص بن هدوقة الاولى موسومة بمجموعة من الاحكام السلبية والاستنتاجات المعتمدة على التعسف في فرض القواعد الجاهزة على الفن القصصي؛ نذكر منها على سبيل المثال نقده لقصة "ظلال" التي وصفها قائلا: "الحادثة مفتعلة: موت هذه الزوجة بسبب "جروة" من الكلاب يصعب تبريره والاقتناع به. ولكن العواطف الرومانسية والمبالغة فيها لا تنظر الى الواقع ولا تحاول تبريره، وإنما تستجيب للتصور والخيال ولو تناقض مع الواقع".
وبسبب هذا الافتعال، وعدم ارتباط الحدث بالشخصية – الامر الذي أفقدها التأثر- نشأ عدم التعاطف مع الزوجة، وهي الشخصية المحورية في القصة ومع الزوج الذي روى القصة.
وزاد من تفكك هذه الشخصية عرض الحادثة بطريقة تذكر الماضي بأسلوب "التداعي". وكان يمكن أن تساعد هذه الطريقة في عرض الماضي عرضا حيا لو استعملت فيها وسائل أخرى كالسرد والاكتفاء وباللمحات المعبرة بدل الاطناب حول ذكريات الزوج، مما أفقد القصة التركيز والتسلسل وكثر فيها الانتقال المفاجئ من موقف الى آخر، فأصبحت عبارة عن حوادث لا رابط بينها إلا شخصية الزوج الذي لا تأثير له في الحدث ليدفعه الى ذروة تعبر عن قلقه أو أحزانه أو تواتره، والحوار فيها منعدم تماما.[...] وبداية القصة تشعرنا بالموقف الرومانسي الذي يعبر عن الحزن والوحدة والأسى. وكان يمكن أن يكون هناك تلاحم بين هذه البداية والنهاية، لأن النهاية فيها رومانسية كذلك. ولكن غرابة النهاية وافتعالها تضعف هذا التلاحم، وبالتالي تضعف بناء القصة. إضافة الى أنها تشير الى أن هذه الشخصية المفرطة في الحساسية والانفعال والتأثر – الى درجة أنها تموت بسبب موت "جروة" لها – هي شخصية بعيدة عن واقع الناس. [...] وهذه النهاية تعبر عن الاتجاه الرومانسي والنظرة البعيدة عن واقع الانسان أقوى تعبير كما تعبر عن امتزاج السرد بالحوار" (12).
إن هذه المعالجة للقصة المدروسة، إضافة الى ما ذكرناه من أنها تنطلق من حكم غير مؤسس للرومانسية، يعبر عن موقف إيديولوجي مسبق، أكثر مما يعبر عن مقاربة موضوعية لهذا التيار الفكري والأدبي، الذي له جذوره في جميع التيارات الادبية المعاصرة في مختلف لغات العالم، تفرض حدودا نموذجية للقصة، هي أقرب الى تلك الحدود المستنبطة من القصة الواقعية، ولا صلة لها بالقصة الرومانسية التي لها طريقتها في تشكيل اللغة، وفي علاقتها بمرجعية العالم الذي تعبر عنه. يظهر هذا جليا من إلحاح الناقد على ضرورة تطابق شخصيات القصة وأحداثها مع الواقع المعيش كما يتصوره.
في تناوله لقصة ثانية من نفس المجموعة، يبدي الدكتور عبد الله ركيبي شيئا من الاعجاب بهذه القصة، غير أنه ينتقدها بسبب رومانسيتها، وعدم مطابقتها للواقع، وهي تقريبا نفس الانطباعات التي أبداها حول القصة السابقة، ويشر الى أن ميزة هذه القصة عن سابقتها تكمن في الاعتماد أكثر على الحوار، والتخلي عن أسلوب التداعيات الحرة. يقول: "وقصة "النافذة الثانية" التي تبدأ من نهايتها هي الاخرى قصة رومانسية [...] تصور جوا قاتما من أولها [...] ولكن شخصية الزوج – التي هي الشخصية الرئيسية في القصة – تبدو أكثر وضوحا من الشخصية القصصية في القصة السابقة، بسبب وجود الحوار الحي الذي يجري بينها وبين هذا الشخص [...] وإذا كان الحوار قد عبر عن حزن هذه المرأة في تركيز وإيحاء في بعض المواقف، فإن شخصية المرأة مع ذلك تبقى باهتة، لأن وسمها غير محدد، يمكن أن تكون أية امرأة حزينة متشائمة.
ثم إن جو الانتحار الذي تنتهي به القصة جو غريب عن البيئة الجزائرية، رغم أن القصة تحدد مكانا بالجزائر.
فكرة الانتحار ليست شائعة في المجتمع الجزائري ولا في المجتمع الاسلامي عامة لأنها في صميمها تنافي روح الاسلام. وكذلك طريقة الانتحار بالقفز من النافذة الى البحر، وقبول هذه الزوجة التي فقدت زوجها وابنها في لحظة واحدة بأن تجالس غريبا وتميل إليه. فهذا موقف بعيد أيضا عن الواقع الذي تتحدث عنه القصة.
ولعل هذا من تأثير الثقافة الغربية والقصص الاوروبي في القصة الجزائرية [...].
والقصة لا ترمي لهدف معين وإنما تصف موقفا رومانسيا من البداية حتى النهاية، فمضمونها لا يزيد عن فكرة الانتحار.
بيد أن أسلوبها يتمتع بشاعرية، فهناك وصف للبحر ولجو الموسيقى وللقاء بين الزوج وهذا الشاب، مما يجعلنا نتعاطف معها رغم غرابة البيئة التي تصفها.
وواقع الامر أن الرومانسية في هذا النوع قد تأثرت في نظرتها للحب والمرأة بالنظرة القديمة للحب العذري الروحاني وهذا من أثر الشعر العربي في القصة الجزائرية القصيرة.
فالفكرة الشائعة أن الحب العذري مثل من المثل التي يصعب تحقيقها إلا من أفراد قلائل، ومن هنا كانت محل اقتداء وتقليد واستيحاء أيضا.
وهذه النظرة المثالية للحب قد أثرت في الشخصية القصصية فجعلت منها شخصية سلبية في معظم الاحيان لا تصارع واقعها ولا تحاول التمرد عليه بل والبحث عن تحقيق هذه الفكرة ذاتها ولهذا تبدو الشخصية منطوية على نفسها قانعة بحرمانها مستسلمة لظروفها. فالحلم هو الذي يسيطر عليها ويجذبها دائما أبدا.
ومن هنا يتضح أن النظرة الرومانسية، في هذا النوع، حتى التي تهتم بوصف الطبيعة والحب المثالي، أو الحب من نظرة واحدة، كما في قصة "عاشقة القيثارة" – إحدى قصص نفس المحموعة – وهي نظرة يتغلب فيها جانب العاطفة على العقل والخيال على الواقع (كما سبق القول) وهي تعبر عن رؤية ذاتية مسرفة في أحلامها وتصوراتها وأحزانها" (13).
يلاحظ على هذه المعالجة النقدية عدم تمييزها بين مكونات العمل القصصي، فتتعرض لمختلف العناصر في نفس الوقت، دون مراعاة مستوياته وأصناف هذه المكونات؛ إذ منها على سبيل المثال ما يعود الى تشكيل الدلالة (المعنى)، ومنها ما يعود الى التشكيلات التصويرية، والى ظاهر النص، ومستواه التتابعي السردي من أفعال، وكذلك ما يتعلق بالشخوص التي تقوم بالفعل. فتمزج الحديث عن مرجعيات المضمون القصصي بالحديث عن التشكيل اللغوي وتقنيات السرد، وعن مدى مطابقة الشخصيات لمرجعياتها في الوقت المعيش.
الى جانب ذلك تجدر الاشارة الى أن المطابقة الحرفية بين ما يصوره النص من أحداث وما يجري عادة في الواقع المباشر، مبدأ يبدو من منظور النقد الحديث أمرا فيه شيء كثير من السذاجة، لأن العمل الادبي لا يمكن أن يكون انعكاسا مباشرا وفوتوغرافيا لما يجري في واقع الحياة، كما أن بناء الشخصية في العمل الفني يجعلها كائنا فنيا له طبيعته وشروطه، التي لا يمكن أن تكون مطابقة تماما للشخصية الانسانية في واقع الحياة. ويجدر بنا هنا أن ننبه الى ما جنته مثل هذه المطابقة من مغالطات نقدية ظلت تعتبر وكأنها مسلمات تقدم للطلبة في الجامعة وتعتمد عليها بعض الكتابات في تقييم الانتاج القصصي الجزائري، وتعتبر كتابات ودروس الاستاذ عمر بن قينة في جامعتي الجزائر وتيزي وزو حول روايات بن هدوقة وغيره من الروائيين الجزائريين نموذجا لمثل هذه التقييمات للرواية الجزائرية بصفة خاصة، لقد أصبح أمرا شائعا أن نجد في بحوث الطلبة الجامعيين في مختلف المستويات مثل هذه المقارنة الفجة بين ما تقدمه الرواية من سلوكات، وما هو شائع في المجتمع من تقييمات، تكون صادرة في أغلب الاحيان عن رؤية أخلاقية ضيقة، لها سندها في الواقع الاجتماعي، وتستعمل البحوث النقدية لتدعيمها، بحيث نجد فيها ازدراء كبيرا لقيمة الاعمال الفنية ومسا بحرية الفنان، الذي عادة ما يرمي من خلال فنه الى تكسير الطابوهات التي تعوق ممارسة الفرد لحريته، والى تحقيق حرية بناء نماذجه التخييلية لكي يستطيع أن يصل الى جوهر الحياة البشرية الذي لا يمكن أن يتم القبض عليه من خلال مراقبة سطح الاشياء والمظاهر السلوكية العامة الشائعة بين الناس، مما يجعله في كثير من الاحيان يولي عناية خاصة بما يبدو شاذا وغريبا وبما قد يخرق معايير السلوك العام المفروض في المجتمع من قبل القوى المهيمنة فيه.
ولابد أن نشير أيضا الى هذا التناقض الذي وقعت فيه التحليلات المقدمة لقصص عبد الحميد بن هدوقة ذات الطابع الغنائي، والتي وقع فيها الاستاذ عبد الله ركيبي لما رد غرابة الاحداث التي تقدمها القصص الى تأثير القصص الأوروبي، ثم عاد مرة أخرى ليبررها بتأثير الشعر العذري العربي القديم، وهو يقصد المضامين المتعلقة بسلوك الشخصيات، وهي المقصودة في عملية المطابقة بينها وبين ما يراه الناقد من معايير مثالية لسلوك الفرد الجزائري المسلم.
تناول الاستاذ عبد الله ركيبي قصص المجموعة الثانية التي أصدرها عبد الحميد بن هدوقة "الاشعة السبعة" مدرجة إياها في ما سماه بالتيار الواقعي؛ وقبل أن نتطرق الى الآراء النقدية التي طرحها حول هذه المجموعة نتوقف لحظة عند تعريفه لهذا التيار. يقول عبد الله ركيبي: "يذهب الدارسون الى أن المدرسة الواقعية جاءت ردا على الاسلوب الكلاسيكي الذي يراعي الاخلاق المثالية ويحافظ على التقاليد المرعية في الأدب، والذي كان يستوحي نماذجه من الآداب القديمة الاغريقية واللاتينية [...].
ولا شك أن الاتجاه الواقعي قد أثر في الادباء العرب وأثر في القصة العربية، فاتجهت الى الواقع والتزمته ولكن بمفهوم يتماشى مع واقع الامة العربية"(14). وكان قبل ذلك قد قال في تعريف التيار الرومانسي: "الرومانسية مذهب أو مدرسة أدبية نشأت في أوروبا في القرن التاسع عشر ردا على المدرسة الكلاسيكية التي كانت تؤمن بالعقل وتميل الى الهدوء والاحتفال بالأسلوب والمثالية في التفكير، وذلك لظروف مرت بها أوروبا عقب حروب متتالية وتقدم صناعي واضطرابات اجتماعية مختلفة ليس هذا مجال الحديث عنها.
كذلك فإن الرومانسية في الادب العربي الحديث – كما يذهب النقاد – سارت في هذا الخط. فكانت هي أيضا رد فعل على المدرسة الكلاسيكية الجديدة، ويظهر هذا بوضوح في الشعر العربي الحديث"(15).
أول ملاحظة تسترعي الانتباه هنا هو هذا التماثل بين هذين التعريفين، بحيث قدم التيارين على أنهما يمثلان معا رد فعل على الكلاسيكية، سواء في الغرب أو عند العرب، وليس هناك أية إشارة الى طبيعة العلاقة بين التيارين المتناقضين، والى الخلفية المعرفية التي صدر عنها كل منهما، من حيث رؤيتهما للفن وللأدب، وكذلك من حيث موقفهما من المجتمع، أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالانطباع الذي يبديه الناقد اتجاه التيارين، فرغم هذا التماثل والتشابه في موقفهما مما سبقهما وفي رد فعلهما اتجاه الفكر المثالي الموروث عن الكلاسيكية القديمة، نجده يعتمد على الانتقائية والتحيز، فهو غير راض عن الرومانسية، يضفي عليها كل صفة سلبية، ويؤكد تبعيتها للغرب، بينما نجد الواقعية عنده ترحيبا، بل يحاول أن يؤكد شرعية وجودها في إطار الثقافة العربية، لكونها استطاعت أن تتكيف معه وتصبح ملمحا أصيلا فيه. نسجل بهذا الصدد هذه الذاتية في التعامل مع موضوع البحث والمتعلق بتيارات القصة الجزائرية، وهي ذاتية تلقي بظلالها على مسار البحث وتبتعد به عن الموضوعية، وبالتالي تجعلنا نتردد كثيرا في قبول آراء الناقد حول قصص عبد الحميد بن هدوقة.
تعامل عبد الله ركيبي مع قصص عبد الحميد بن هدوقة الواقعية بنفس الطريقة التي كان قد تعامل بها مع القصص الرومانسية من حيث عدم التمييز بين المستويات وطبيعة العناصر المكونة للقصة، غير أنه وجدها على عكس قصص التيار الرومانسي؛ فيها استجابة للتقنيات والشروط المثالية المطلوبة في بناء القصة القصيرة، ولاقت من طرفه شيئا من المدح والتمجيد لقدرتها على تصوير الواقع الثوري الذي عرفته الجزائر خلال النصف الثاني من عقد الخمسينيات ومستهل عقد الستينيات.
في معالجته لقصة "المسافر" يرى بأنها: "تتعرض لعدة جزئيات وتفصيلات مختلفة، إذ أن مضمونها متنوع الجوانب. ولكن التركيز فيها واضح رغم هذا التنوع، والحديث عن التقاليد فيه إيجاز يوحي بأثر البيئة وتقاليدها دون ذكر لذلك.
ولكن الاهم هو أن القصة تتحدث عن الحرب وآثارها دون ذكر صريح لهذه الحرب ووصفها وصفا ماديا أو ذكر أضرارها ومعاركها.ونلمس هذا كله من خلال حوار الشاب والفتاة، ومن خلال موقف القرية من الاستعمار، ومن خلال الجو العام للقصة، وأخيرا من خلال الحدث الذي يستعرضه الشاب؛ راوي القصة.
والموقف الذي تبدأ به القصة يشعرنا بالأحداث التي ستقع للخطيبين ويشعرنا بالبيئة التي ستجري فيها الاحداث.
ففي البداية تلميح الى أن هذا الزواج إنما تم بناء على رغبة أسرتيهما ثم التعرض بعد ذلك الى القرية والريف ووصف دار الخطيب ومناسبة اللقاء – التي هي عيد الاضحى – كل هذا يمهد للقاء الشاب الفتاة رغم التقاليد. [...]
وهنا يكون قد تحدد الموقف في القصة ليبدأ التمهيد لأحداثها التي ستتطور بعد ذلك. ويبدأ هذا التطور عندما يخرج الشاب وخطيبته يتجولان حول ادار التي تحيط بها حديقة جميلة.
ويساعد وصف الجو القصصي على تطور الاحداث [...]." (16)
من خلال هذا النقد يتضح لنا أن منهج عبد الله ركيبي في نقده للقصة يقوم على تتبع طريقة بناء القصة من بدايتها حتى نهايتها، وذلك من خلال الاحداث التي تجري فبقوم بتلخيصها وتقديم مقاطع من القصة تصور مراحل صيرورة الحدث القصصي، ينبه في نفس الوقت الى فواصل الوصف وعرض الاشياء والمكان والسلوكات. ومثل هذه الطريقة يعوزها التجريد الذي يمكن من عزل هيكل أو نموذج تجريدي، يتم بناؤه بموازاة التجسيدات التي تقدمها القصة، يسمح بتمييز مستوياتها وبتصنيف مكوناتها، كما يقلل من الاستطراد والتوقف عند بعض العناصر أكثر مما يجب، وإهمال بعضها الآخر. كما أنه يجعلنا نتجنب فرض قواعد جاهزة على العمل المدروس، فيكون تحليلنا نتيجة استقراء لموضوع التحليل.
ينهي عبد الله ركيبي تعليقه على قصة "المسافر" بإثارة موضوع رمزيتها، فيقول: "وفي القصة رمز لأشياء كثيرة. رمز للإرادة الجماعية، التي تتمثل في رفض القرية تحية العلم الفرنسي، ورمز للتغير الذي حدث بسبب الثورة. [...].
ومن ثمة يكون الرمز عاما للجزائر كلها، للدلالة على أن حياة الشعب قد تغيرت" (17).
يفهم من الرمز هنا تأويل الاشارات الواردة في القصة بالاعتماد على الاستعمالات المجازية التي لجأ إليها الكاتب: "ويبدو الرمز أكثر إيحاء في تساقط أزهار الرمان فرادى ومثنى وثلاثا [...] فالرمز هنا أيضا عام قد يشير الى تساقط الشهداء واحدا بعد الآخر" (18).
في معالجة قصة "يد الإنسان" يطرح عبد الله ركيبي خصائص هذه القصة، مثل المزج بين "تيار الوعي" والسرد العادي، وتقديم شخصيات واقعية، لكل منها حضورها المميز في القصة، وحركية السرد وتدفقه وحيويته، واللجوء الى الايحاء والتلميح دون التصريح، والتعرض للتفصيلات والجزئيات التي تخدم الجو القصصي، وينهي تعليقاته بالعبارة التالية: "وتتميز القصة بتركيز وإيجاز رغم هذا المضمون الواسع، وفيها تشويق وسرعة انتقال من موقف الى آخر مع تسلسل وترابط الأحداث".
وتأتي النهاية لتؤكد الفكرة الفلسفية التي تدور حولها القصة وهي أن يد الانسان يمكنها أن تفعل كل شيء، وهي فكرة غير مباشرة تلمح بالهدف دون تصريح.
والنهاية نفسها ترمز بهذا القطار الذي تحطم الى فرنسا واستعمارها، وترمز أيضا بموت هذا الموظف الاناني السلبي الى أن هذه الافكار لابد أن تموت" (19).
يبدو أن هذه القصة استطاعت أن تستجيب لمجموعة من الشروط المثالية التي يطبقها الدكتور عبد الله ركيبي على مدونة بحثه، لهذا نجده لا يسجل أي عيب فني فيها، بل نجده يمتدح خصائصها الفنية.
أما قصة "ثمن المهر" التي هي بدورها من بين قصص مجموعة الاشعة السبعة، فقد اهتم بها الناقد من منطلق إثارتها لموضوع الهجرة، وقد تركز نقده كله حول المضمون القصصي، ولم يتعرض للخصائص الفنية، وانتهى الى أن القصة "وإن تعرضت الى أثر التقاليد ومبالغة بعض الافراد في طلب المهر، فإنها في الواقع تركز على ما يلاقيه العمال الجزائريون في فرنسا من مشقة وعذاب، وما يتعرضون له من أمراض مختلفة كثيرا ما أودت بحياتهم.
وإذا كان الدافع هنا في القصة هو جمع المال من أجل المهر، فإن الدافع الحقيقي لها هو البطالة، وبالتالي فإن الاستعمار هو الذي سد الابواب في وجوه الجزائريين حتى يضطروا الى الهجرة والى العمل بثمن بخس لا في أرضهم المسلوبة فحسب، ولكن أيضا في فرنسا ليرتاح الفرنسي في بلده فيما اغتصب من أرض" (20).
يبدو جليا أن خطاب القصة قد لاقى عناية خاصة نظرا لأهمية الموضوع الذي يطرحه، وليس للقيمة الفنية التي تتميز بها الكتابة القصصية، لهذا وجدنا النقد عند عبد الله ركيبي يتحول الى مناقشة موضوع الهجرة وأسبابها، وقد اتفق في منظوره للمسألة مع الكاتب، لأن كليهما ينطلق من المنظور التحرري الوطني، لذلك جاء حديثه عن القصة شرحا لموضوعها وطرحا له أكثر منه نقدا فنيا.
في نقد القصة "الاشعة السبعة" يعود عبد الله ركيبي الى موضوع الرمز، ويظهر أن الطابع الرمزي لتشكيل الصورة القصصية في هذا العمل القصصي، قد فرض نفسه على الناقد بشيء من الإلحاح، فنجده يسعى الى تأويل مختلف مراحل الحدث القصصي وشخصياته بما يعادلها في الواقع: "وقد يكون الانطلاق من الواقع لتخيل أشياء تمتزج بفكرة أسطورية ثم ترمز في النهاية الى فكرة تتصل بحياة الشعب كما تصوره قصة "الاشعة السبعة". فالواقع هنا يمتزج بالوهم ويمتزج بالأسطورة الشعبية" (21).
بعد استعراض مضمون القصة ينتهي الى النتيجة التالية:
القصة مشحونة بالرموز:
الفتى هنا يرمز الى الجيل الجديد الذي يناضل من أجل الثورة ويؤمن بانتصاره ويحلم بعودة الام التي هي الجزائر، والتي لم يفارقه صوتها أبدا [...] ، وهو يرمز في نفس الوقت الى الشعب الجزائري الذي أصيب "بالخرس" عندما فقد حريته وفقد مقومات شخصيته.
بينما الاب يرمز الى الجيل القديم الذي تملكه اليأس فاستكان للقضاء والقدر نتيجة هذا الخوف من الاستعمار الذي رمز إليه بالعفريت في القصة. هذا العفريت الذي لم يكن إلا وهما وخرافة تبددت عندما اندلعت نيران الثورة التي كانت القنبلة رمزا لها والأشعة السبعة رمزا لسنواتها.
ولاشك أن مدار هذه الرموز حول الصبي طبع القصة بطابع بسيط إنساني، مما جعل السرد يتم بالبساطة والهدوء والتعبير عن مشاعر الفتى ونفسيته الساذجة [...].
واستخدام الاسطورة الشعبية هنا جاء ممتزجا بالواقع. ومن ثمة فإن الرمز فيها لم يكن تعبيرا عن وهم، وإنما كان تعبيرا عن فكرة تتصل بواقع الانسان وبأحلامه بل بواقع الشعب كله. وهذا ما يعطي للقصة والأسطورة معا دلالة عميقة ويطبعها بطابع الواقعية لا الرمزية البحتة" (22).
جاء الحديث هنا عن القيمة الرمزية للقصة ت؟أويلا للإشارات التصويرية الواردة فيها، وتحديدا للمعادل الرمزي لكل حدث وكل شخصية في القصة مثلما رأينا في معالجة قصة "يد الإنسان"، وهو تأويل يبدو مقنعا جدا نظرا لوضوح الصلة بين أدوات الرمز ومرجعياتها في الواقع، غير أن ما يعوز مثل هذا التحليل هو وصف الآلية العملية الرمزية، وبيان طبيعتها، وكيفية التقابلات الحادثة في خطاب القصة، وتمثيلها للعناصر المرجعية في الواقع التاريخي الذي صورته.
في النهاية، نستخلص أن نقد الدكتور عبد الله ركيبي خضع لظروف وحدود النقد التطبيقي الجامعي في فترة ، وهو نقد ذو طبيعة مدرسية، تحكمه قوالب مسبقة كانت تروج لها كتب قواعد كتابة فن القصة التي راجت في أوروبا في الخمسينيات، وفي العالم العربي في الستينيات، وأنه لم يستفد من النظريات النقدية الجديدة وكذلك من مناهج النقد التي عرفتها سنوات الستينيات في أوروبا مثل أعمال مدرسة النقد الجديد الأنجلو سكسوني، والشكلانية، والبنيوية، والشعرية، ونظرية الانواع الادبية الحديثة. لذلك كله نرى أن دراسة المجموعات القصصية لعبد الحميد بن هدوقة وفق هذه النظريات والمناهج يمكنها أن تعيد الكشف عن آليات العمل القصصي بصفة أكثر ثراء وإفادة.
الهــوامــش
- د.عبد الله خليفة ركيبي، القصة الجزائرية القصيرة، الدار العربية للكتاب، ليبيا – تونس، 1977
- المصدر السابق، ص 6
- عبد الحميد بن هدوقة، ظلال جزائرية، دار مكتبة الحياة، بيروت، بدون تاريخ.
- عبد الحميد بن هدوقة، الاشعة السبعة، الشركة القومية للنشر والتوزيع، تونس، بدون تاريخ. صدرت لنفس المجموعة طبعة ثانية أضاف إليها الكاتب قصتين كتبتا على التوالي في سنتي 1980 و 1981. انظر: عبد الحميد بن هدوقة: الاشعة السبعة، قصص، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981
- العبارات الموضوعية بين مزدوجات هي للأستاذ عبد الله الركيبي.
- عبد الله خليفة ركيبي، نفس المصدر، ص 177
- نفسه، ص 176-175
- نفسه، ص 176
- نفسه.
- محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاته الرومانسية العربية، دار توبقال، الدار البيضاء 1990.
- عبد الله خليفة ركيبي، نفس المصدر، ص 181-197
- نفسه، ص 184-181
- نفسه، ص 193-192
- نفسه، ص 174
- نفسه، ص 197-195
- نفسه، ص 199-198
- نفسه، ص 199
- نفسه، ص 216
- نفسه، ص 231
- نفسه، ص 235-234
- نفسه، ص 235-234