قراءة في رواية "نهاية الأمس" عبد الحميد بن هدوقة

الأخضر الزاوي من جامعة باتنة
في هذه الرواية ذات الاتجاه الرومانسي والتي يمكن تصنيفها في رومانسية غرابة الأحداث حيث ينتصر الحب أخيرا. على اليد البطل الإيجابي المثمثل في شخصية المعلم "بشير" وما يشوب أحداث الرواية من مؤثرات أجنبية تتجلى مرتسماتها لاحقا. يلاحظ أن الغلاف الزمني في الرواية محدود، وواضح المعالم فالسنة هي سنة 1967 بالتحديد (1)، ويقع الزمن الحدثي في الشهر سبتمبر أي من أول سبتمبر (2)، عندما يصل المعلم بشير ليدرس في هذه القرية ممتطيا سيارة البلدية "لاندروفر" ويستمر هذا الزمن إلى غاية الواحد والعشرين من سبتمبر (3)، وهو زمن بدء الدراسة. وخلال هذا الغلاف الزمني الواضح تدور أحداث الرواية وفي حيز مكاني معلوم. وهو قرية صغيرة تابعة لقرية أولاد حامد (4)، وتقع قرب مدينة سطيف (5). ومن خلال هذين الغلافين الحيزي والزمني تجري وقائع الأحداث الحاضرة، وخارج هذين الغلافين نجد الزمن الاسترجاعي والمكان الاسترجاعي يمتدان إمتدادات مختلفة الطول سردا من التاريخ لتجارب الشخصيات الروائية وما قامت به من أعمال.
وأطول إمتداد في الزمن التاريخي يعود إلى هجرة (بشير)، إلى العمل في مناجم (موزيل)(6) في فرنسا. وإلى زواجه من (رقية) في أول نوفمبر 1954 (7)، وإلى زواجه بمنجية التونسية في (1965) في الجزائر العاصمة، ثم تعيينه كمعلم في مدرسة هذه القرية المعزولة التابعة لقرية (أولاد حامد) بالقرب من مدينة سطيف. وهناك تاريخ صدور هذه الرواية لأول مرة (*) بالجزائر، ثم بتونس.
الأحداث والبناء الروائي في رواية نهاية الأمس:
تنطلق وقائع بمجئ المعلم بشير إلى هذه القرية الصغيرة النائية كمدرس عين في مدرستها الجديدة، المكونة من ثلاثة أقسام، وسكنى وظيفية وساحة واسعة، باعتبار عدد سكان هذه القرية قليل، يقدر بآلف وخمسمائة ساكن.
وهي تابعة إداريا لقرية أكبر منها هي (قرية أولاد حامد) وتقع قرب سطيف، وفي سنة (1967) في شهر سبتمر، يصل المعلم لافتتاح أول مدرسة للقرية، التي كان التعليم السائد فيها هو تعليم القرآن الكريم، وضمن وقائع الرواية يتصارع البطل بشير مع الواقع محاولا نشر التعليم الحديث في هذه البيئة المحرومة، فيستقبل في البداية استقبالا حارا وكريما، ثم ما يلبث أن يجد عراقيل وصعوبات تصرفه عن فتح المدرسة أو التدريس فيها، على غرار مت حدث لمعلمين سابقين عينوا للتدريس في هذه القرية، ولم ينجحوا في البقاء تحت الضغوط القوية. والممارسات الكيدية من بعض عناصر القرية، فغادروا القرية إلى غير رجعة وهكذا بقيت المدرسة الجديدة مغلقة أمدا طويلا.
لكن المعلم بشير يصر منذ البداية على رفع التحدي من أجل نشر التعليم والمعرفة في هذه الربوع، يصل القرية في بداية شهر سبتمبر وفي أول ليلة يقضيها بالمدرسة يفاجأ عند منتصف الليل بقصف بالحجارة على سقف سكناه، كتحذير بوجوب الرحيل، لكنه يقبل الصراع ومما شجعه على البقاء تعرفه على بعض الشخوص المساعدة مثل بوغرارة، كبير القرية وأول مجاهد بها، ولكنه أمي، وأحمد القهواجي صاحب المقهى، كما يجد المنافسين له، الذين يتمنون رحيله عن القرية، وهم ابن الصخري صاحب الملكيات الواسعة من الأراضي، إذ يملك وحده أكثر من نصف مساحات أراضي سكان القرية، وكان قد جمع هذه الأراضي من هؤلاء القرويين، بواسطة القروض ورهن الأراضي منهم، ليأخذها في النهاية مقابل عجزهم عن دفع ما هو عليهم من دين.
ويلاحظ المعلم بشير الوضع في هذه القرية عن قرب ملاحظة متمرس يفهم جيدا استغلال ابن الصخري لأهل القرية وأنه أحاط نفسه ببعض المستفيدين معه وجعل منهم أنصارا وعيونا له يترصدون كل صغيرة وكبيرة بالقرية، ويذكر سائق سيارة البلدية (لاندروفر) للمعلم بشير لدى أول مجيئة أن هذه القرية شديدة الفقر يعيش سكانها من حوالات بريدية تصلهم من أهاليهم المهاجرين العاملين في فرنسا، وخلاف هذا لا يملكون شيئا، يصرح السائق أن قريتهم لم تعرف حياة الاستقلال أما الحرب فكانت دوما حياتهم (8). ويشير إلى مثال واقعي فينادي على صبي يمشي حافيا يلبس ثيابا رثة، يرعى قطيعا من أغنام يمتلكها ابن الصخري، وهو أحد الأطفال الذين سيدرسون عند المعلم بشير، فيتألم المعلم لهذه الحالة، ويسأله عن معلومات عن الصبي، فهو ابن حركي ويعيش مع أخته وهي مريضة وأمه التي تصنع الثياب الصوفية وتبيعها وجدّته أم الحركي، التي تصنع الفخار، يسكنون كوخا أسفل المدينة، ومع هذه المعلومات يزداد عطف المعلم بشير اتجاه في هذه الأسرة، ويفكر في مساعدتها بتوظيف العجوز أم الحركي كعاملة منظفة بالمدرسة رغم معارضات الأهالي.
وعلى هامش هذه المجهودات يعيش المعلم مضطربا في ذكريات الماضي مع زوجته الأولى، مما شجعه على السعي للتعرف على هذه الأسرة الفقيرة، وخاصة على رقية كنة العجوز ربيحة لأنها تحمل نفس اسم زوجته السابقة، التي هجرها بسبب ظروف الحرب التحريرية الكبرى، وإذ تنطلق علاقة المعلم بشير تجاه هذه الأسرة الفقيرة في النمو لتصل إلى نهاياتها وأهدافها وتشده في ذلك إحساسات داخلية غامضة.
نجد الراوي يؤجل ذلك إلى حين، ويغوص بالبطل بشير في أزمنة تاريخية تعري شيئا عن تاريخه الشخصي وتاريخ عائلته وتاريخ زوجته الأولى رقية، ويمتد الزمن التاريخي امتدادات متفاوتة الطول، ولعل أطولها يكون عن الفترة التي ذهب فيها البشير إلى فرنسا للعمل في مناجم "موزيل" (9)، وما تأثر به من مؤثرات متعلقة بهذه البيئة العمالية الفرنسية، وضعت بصماتها على وجهه البطل بشير منذ البداية، وهي فترة سبقت الثورة التحريرية الكبرى، ثم درس في قسنطينة وفي تونس، بعد عودته من فرنسا(10). وحطب رقية وعمرها لا يتجاوز أربع عشرة سنة، وبقيت مدة أربع سنوات مخطوبة ليتزوجها في الفاتح من نوفمبر 1954، وبعد شهر أصبحت حاملا وصار هو يختفي بكونه جنديا في الثورة وعاشت هي في الإنتظار(11).
ويصف الراوي تفاصيل ليلة للعروسين كصورة لعملية جنسية ثم يصف لاحقا عملية الولادة، وسمت المولودة "فريدة" والبطل بشير ما يزال غائبا وفي إحدى العمليات مداهمات القرية من طرف العساكر الإحتلال، في أثر مقتل (شانبيط) أي حارس البلدية، يقوم العساكر باغتصاب رقية زوجة البطل بشير، ويصف الراوي هذه العملية الجنسية بتفاصيلها(12).
لكن العجوز "سعدية" تخبر زوجها "حمودة " بما فعله العساكر بزوجة ابنهما، وينصب الشيخ "حمودة " كمينا لدورية عسكرية ويقتل منها ثمانية عساكر ويستشهد بدوره (13). وتقوم "سعدية " بمحاولة دفن زوجها فيطلق عليها العساكر النار(14)، وهكذا يتخلص الراوي من هاتين الشخصيتين، وتبقى رقية مع ابنتها في غياب زوجها الذي جرح في معركة، ثم اختفى، لكن والدها لم ينتظر طويلا زوجها من رابح بن علي وأنجبت له الولد "سعيد" ثم يموت رابح حركيا انتقاما لوالده الذي قتل خطأ من طرف الثورة.
ويسجل الراوي جانبا من حياة البطل بشير يوم جرح في معركة، ونقل إلى تونس، ثم ألمانيا الشرقية، حيث تلقى العلاج وعودته إلى تونس التي أكمل دراسته فيها. كما نمت أيضا علاقته العاطفية مع منجية التونسية التي جاءته أخيرا إلى العاصمة الجزائر في سنة 1965. حيث تزوجها وكانت إمرأة متفتحة على الطريقة الأروبية، وكان المعلم بشير يقيم مع زوجته منجية حفلات خمرية في منزلهما للأصدقاء، لكن هذه العلاقة العاطفية التي استمرات سبع سنوات عاشت سبعة أشهر فقط في الزواج، ثم انطفأت بسبب كثرة علاقة منجية مع الأصدقاء و مرض المعلم بشير ودخل إلى المستشفى الأمراض العقلية، وشفي أخيرا. ليعين معلما في هذه القرية النائية.
ومع رجوع الأحداث إلى الزمن الحاضر، يحاول المعلم "بشير" تنمية علاقاتة مع أهل القرية وخاصة "بوغرارة" المجاهد، وصراعه الأساسي مع "ابن الصخري" غني القرية كاها، وصاحب الملكيات من الأراضي، الذي يشغّل عنده الولد سعيد في رعي الأغنام.
ويتصارع المعلم بشير مع ابن الصخري، حول مسألة جلب الماء للمدرسة، من نقطة قريبة من أراضي وبساتين ابن الصخري الذي يجند الإمام وكثيرا من الناس ضد فكرة تزويد المدرسة الجديدة بالماء، بحجة البساتين ستجف، لكن المعلم بشير يستعين بمن يعرفهم في الوزارة، وتأتي الأوامر إلى البلدية لنقل الماء إلى المدرسة، وهنا يأتي رد فعل مفاجئ وغير متوقع إطلاقا عندما استيقظ سكان القرية وهم يشاهدون المسجد وقد هدم، عن أخره ويتهم المعلم بشير بتدبير هذه العملية، ويحضر جمع من الناس ويرمون المعلم بالحجارة، ويصاب في رأسه وتسيل دماؤه فتسعفه العجوز ربيحة، ويفتح تحقيق رسمي في القضية يبرأ فيه المعلم بشير، ويجلب الماء إلى المدرسة ويفتح المعلم التسجيل ويكتب أسماء خمسة وأربعين تلميذا من بينهم "سعيد" الذي توقف عن رعي أغنام ابن الصخري، ولدى استدعائه رقية للتوقيع، يتعرف عليها و على أسباب زواجها من رجل آخر، ثم يقرر أخيرا الذهاب مع صديقه "بوغرارة " إلى دار العجوز ربيحة ويخطب منها رقية زوجه له. فتتردد رقية بعض الشيء ثم تقبل في النهاية، ويقرر البطل بشير أنه سيقيم في كل قرية سنة واحدة لإصلاحها، ثم ينتقل إلى غيرها، لإصلاح أكبر عدد ممكن من القرى، دفاعا خن المبادئ الاشتراكية التي يؤمن بها. وبفضل هذا العمل ينتهي الأمس في هذه القرية، ويبدأ اليوم الجديد مع أول مدرسة فيها.
وهكذا تنتهي عذابات الماضي بالنسبة لرقية ويبدأ أول يوم جديد ينتصر فيه الحب وتبتسم فيه الأيام.
الرؤية والرواية لنهاية الأمس
تنتسب رواية "نهاية الأمس" إلى الرؤية غير المحدودة " Vision Illimité" وإلى نمط الرؤية من الخلف " Vision par Derrière "، حيث تنعكس العلاقة بين الشخصية والراوي في سيطرة هذا الأخير على الشخصيات فهو عارف بكل شيء يخصها وبالأحداث ومحيط بها أي أن "الرواي › الشخصية"، وإن القص يسير بصيغة ضمير الغائب المفرد "هو" فلا يمكن للبطل بشير ولا لباقي الشخوص أن تسبق الراوي في العلم، أو تفوقه فهي تقتفي آثاره وتستنير بمرتسمات خطواته.
يقص الراوي عن المعلم بشير وهو يمتطي سيارة "لاندروفر" إلى جانب سائق البلدية، وهو ينقله من القرية المركزية " أولاد حامد" إلى القرية التي سيدرس فيها، ويضيف إلى القص بصيغة ضمير الغائب التعليقات والشروح: "سكت البشير، ولم يرد أن يدخل في حديث لا يفيده شيئا مع السائق الذي اختلطت فيه روح المرح بالنزوع إلى الثرثرة والفضول المنفر، والذي ما انفك يجاذبه الحديث منذ أن أقلعت بهما السيارة من القرية المركزية. ولكن سكوته لم يمنع السائق من الإسترسال في الحديث الذي تثيره في نفسه شتى المناظر العادية والالتواءات الكثيرة التي تسلكها السيارة..."(15).
ويقرأ الراوي ما في نفس البطل من أفكار وما يدور في خلده من تساؤلات ويقدمها للقارئ دون أن يعلم بذلك باقي الشخوص " تحركت السيارة في طريقها الملتوية، ولم يبق بينها وبين القرية إلا حوالي ثلاث كيلومترات، وراح المعلم يستعيد في نفسه ما دار بينه و بين الطفل من لحظات، وأخذت تلك النظرة القاسية الحاقدة تنفذ إلى أعماقه، مثيرة في نفوذها آلاف التساؤلات"(16).
ويسترجع الراوي ما دار منذ سنين طويلة بين المعلم بشير وأتاذه في قسم علم الاجتماع عندما كان يتابع دراسته في تونس. "وإن ينس ذلك الموقف الذي وقفه مع أحد أساتذته، كان الأستاذ يصر دائما على أن نظريات "دوركهايم" في الإجتماع والأخلاق والدين هي أصح النظريات فرد عليه: وإن دوركهايم نفسه يقول بتطور الحقيقة فكيف يمكن أن تكون نظرياته أصح النظريات؟ ثانيا: إن تقدمية دوركهايم منبعها إسرائيليته فهو كان عندئذ في صف الضحايا... فهو جاء بعد تأسيس إسرائيل وصار بحكم إنتمائه في صف الجلادين فماذا ترى سيكون موقفه من نظرياته؟
فجمع الأستاذ كراريسه فوق المنضدة ووضعها في محفظته وقال: " كامو" تافه واستعماري! و "دوركهايم" إسرائيلي..فلمن تريد أن تنتسب إذن إلى هتلر أم إلى سطالين؟"(17). وهكذا تبدو المؤثرات الأجنبية الفكرية والفلسفية التي تعلق بها البطل بشير، منذ أيام دراسته الجامعية، والتي تركت بصماتها على فكره وتوجيه الأيديولوجي الاشتراكي.
الطرق العرض في رواية نهاية الأمس:
السرد في رواية نهاية الأمس
يمتاز السرد في الرواية "نهاية الأمس" لعبد الحميد بن هدوقة بأنه ينفصل عن الحوار ويستقل كل منهما بذاته للكشف من ناحيته وبطريقته عن جوانب الشخصية الروائية وأسرارها.
أ- فجاء السرد بصيغة ضمير الغائب الأمر الذي جعل الراوي يسيطر على البطل بشير ويحيط بمعلومات الشخوص جميعا، ويسرد الراوي بطريقة هادئة، وواضحة. فبعد أن جاء المعلم بشير ومعه "بوغرارة" إلى منزل ربيحة لخطبة رقية زوجة له، يسرد الراوي القص ربطا للحوادث: "بعدما أدخلت العجوز ربيحة الرجلين إلى الحجرة عادت إلى الحجرة العائلية حيث تقيم رقية وطلبت إليها أن تعد القهوة وكانت الزيارة مفاجئة لكلتا المرأتين، فرقية توقعت أن المعلم جاء ليقول لحمياتها أنه لا يمكنه أن يستبقيها عاملة بالمدرسة، نظرا لاحتجاج السكان... أما العجوز فكانت أميل إلى التفاؤل منها إلى التشاؤم. ولم تفكر بالمرة فيما فكرت فيه رقية. لأنها كانت كامل الصبيحة بالمدرسة..."(18). واتبع الراوي هذا السرد بقراءة ما في نفس الشخوص الروائية، والتعليق عليها.
ب- واستخدم الراوي الاسترجاع للحوادث الماضية المتعلقة بشخصية المعلم بشير، وزوجته السابقة منجية التونسية، التي تزوجها في مدينة الجزائر العاصمة، في أواخر سنة 1965. حيث كان يعيش معها حياة أروبية متفتحة على العالم، وكانت تراه مترددا، فأرادت أن تفتح له المجال لأعلى المناصب يسترجع لنا الراوي عن علاقتهما قائلا: " قالت له ذات يوم:
" إنك رجل يخجله ظله، دعني أفتح لك المجال لأعلى المناصب...
كان فتح المجال عندها يتمثل في إقامة الحفلات الخمرية الساهرة في بيتها!! لم تمض أيام كثيرة حتى كثر أصدقاء الزوجين الحبيبين، وصار بيتهما ملتقى لكل البورجوازية الإدارية في الجزائر، ولكثرة من المتعاونين، وعرف البشير في هذه الفترة من حياته كثيرا من أنواع الخمور والكحول، وأسمائها والفروق الدقيقة بين لون ولون، فمن الكونياك ذي النجوم الخمس إلى الويسكي الأسود إلى الشامبانيا، وما اشتق منها من أمزجة رفيعة...حتى الفودكا وجدت مكانها في مخمرة الزوجين، لم تكن السهرات كلها مجونا وخمرا. :ان يتخللها في كثير من الأحيان نقاش أدبي رفيع يتناول الأدب في أمريكا وأروبا وروسيا...(19). وهكذا لا يخلو هذا الاسترجاع للماضي من مؤثرات أجنبية متمثلة في سلوكات بعض العائلات الأروبية.
جـ - ويوظف الراوي في فقرات السرد قراءة ما يجري في أعماق الشخوص الروائية، وها هو يقرأ ما يدور في ذهن رقية وما تحس به في أعماق كيانها، من إحساسات غامضة ومن سرعة في خفقان قلبها كلما سمعت اسم المعلم بشير يقول الراوي: " سكتت رقية لحظات مفكرة، وكانت كلما كان الحديث عن المعلم شعرت بخفقان قلبها يزداد بسرعة، لا تعرف لماذا، ولكن تجد في إحساسا غامضا نحوه...(20). وهكذا تسجل هذه القراءة نفحة من نفحات الرومانسية التي تشد المعلم بقوة إلى هذه القرية رغم ما يلاقيه.
د- يدرج الراوي أسلوب الاستطراد لأجل إدخال تنويع في النسيج السردي، والخروج بالقارئ من متابعة الأحداث الحاضرة إلى مشاهد ولوحات في شتى أنحاء العالم ثم العودة به إلى اللحظة الحديثة الحاضرة. فمن سرد موقف الشيخ حمودة من الماضي الاسترجاعي لعائلة البطل بشير الذي يستعد فيه الشيخ لتنفيذ الكمين الذي وضعه لفرقة عسكرية وكانت حينئذ الساعة السابعة في الجزائر، وباريس والساعة العاشرة في موسكو، والساعة التاسعة في القاهرة، والساعة الثانية في واشنطن. ومن خلال هذا التوقيت يبرز الراوي قدرته في الإطلاع على لوحات عديدة في مختلف هذه البلاد ليعود في نهاية الاستطراد إلى اللحظة الحديثة قيد المعالجة مع الشيخ حمودة، وفي كل ذلك يستعرض الراوي قابليته لاستيعاب مؤثرات أجنبية عديدة في العالم، يقول الراوي: "فتاة فرنسية في ضاحية من ضواحي باريس تسرح شعرها أمام المرآة. روني كوتي في حمامه المنزلي يتأمل شيخوخة جسمه... إزينهاور في فراشه تغطي وجهه ذراعه اليسرى.. كروتشوف أمام نافذة زجاجية مغلقة يتأمل أغصانا يابسة في شجرة باسقة، رجل يتناول قهوة في أحد مقاهي القاهرة ويطالع جريدة، في أعلى الصفحة عنوان ضخم يتحدث عن النجاح الذي لقيته أغنية أم كلثوم الجديدة. ملك عربي يستقبل وفدا لشركة بترولية ويقترب.."(21). والصورة الأخيرة "مجاهد في الجبل" خاصة بالشيخ حمودة قبيل إطلاقه النار على دورية فرنسية، فالراوي يطيل تشويق القارئ عما سيحدث بعد إطلاق النار...
هـ - ويطعم الراوي النسيج السردي من حين لآخر بالأمثال الشعبية مثل "يد الزائر في يد المزار"(22). و"انساه ليلة ينساك عام"(23). وبالحديث الشريف " قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اطلبو العلم ولو بالصين"(24).
الحوار في رواية نهاية الأمس
يعد السرد خلفية جيدة يقوم عليها الحوار منطلقا لما سيقدم من مشاهد، عبر الأقوال والأفعال والأفكار التي نحسها من خلال المشاهد المعروضة. لكن الحوار في هذه الرواية غني بالتقنيات الفنية التي جعلت منه حوارا منوعا.
أ- يحاور المعلم بشير بادى ذي بدء السائق الذي أوصله وهو من أهل القرية المركزية القريبة ويعرف المنطقة والظروف البيئة، يشير السائق إلى " سعيد بن رقية" الذي يسرح غنم ابن الصخري حافيا، قائلا: "- انظر.. هذا أحد الأطفال الذين جئت لتعلمهم، أتراه يتخلى عن حياته هذه، المنطلقة ويستبدل بها جدران المدرسة؟ فالغنم تعطيه الحليب إن جاع، أما المدرسة فماذا تعطيه؟.فقال المعلم:
- المدرسة تعطيه السلاح الذي يحارب به الجوع.
فرد السائق:
- إنه جائع الآن! من عيشه حتى يمتلك هذا الذي تتحدث عنه؟
فكر المعلم هنيهة، ثم قال:
- تضمن عيشة المدرسة.
ضحك السائق مليا وقرر في نفسه أن سكان المدن، أ، أن سذج ولذلك فهم طيبون وقال لرفيقه:
- إنك رجل طيب! من أين للمدرسة أن تعول أطفالا والأحجار التي بنتها جمعها آباؤهم؟ لو تعرف قصة هذه المدرسة وكيف بنيت لعدلت حالا عن قرارك ورجعت معي من هنا، إلى القرية المركزية حيث يعيدك القطار إلى مدينتك الجميلة"(25).
هكذا يسير الراوي الحوار الموجه في جزء منه إلى المشاهد إذ يستهله بفعل (أنظر) وما يتخلل ذلك من للشخوص وتعليق على الأحداث وقراءة أفكار الشخوص لربط الوقائع وسلسلتها في انسجام وتتابع سببي.
وفي حوار بين المرأتين: العجوز ربيحة ورقية، حول المعلم بشير وما قام به من جميل نحوهما منذ قدومه إلى هذه القرية وكيف أنه ضاعف اهتمامه بهما حيث وظف ربيحة كعاملة في المدرسة وسجا "سعيد" في المدرسة، ووقف معهما في مواقف كثيرة، وها هي رقية تبدي تفانيا كبيرا واستعدادا غير عادي، لخدمة المعلم بشير بصناعة برنس وزربية له إكراما له، تقول ربيحة: "- نعم أصنع له ستة كؤوب للحليب وعشر صحاف وجفنتين إحداهما للعجن وقدرين وفوارين للكسكسي، وأصنع له جرتين واحدة للزيت وأخرى للسمن.
فأضافت رقية مقترحة
- ومن مزبدتين أو ثلاثا ومزهريتين
- من أين تأتيه الزهور هنا؟
- لا يملك من أين تأتي، ما دمت تريدين صنع كل ما تحتاجه من اواني فلا بد من أواني الزهور. سكان المدينة يحبون ذلك.
- وأصنع له شمعدانات فإذا احتاج شيئا صنعته له.
- ماذا
- إن اشترى لنا الصوف فاخدم له برنسا أو زربية أو ما أراد
- سيسره ذلك كثيرا. لاشك في ذلك."(26).
ويعكس هذا الحوار نموّ العلاقة بين هذه العائلة والمعلم بشير بعد أن بدأت بمجرد عطف على ظروف هذه العائلة، ومحاولة مساعدتها، لتأخذ منحنى آخر، وهكذا يتطور الحدث عبر الحوار.
ب- ويدخل الراوي على أسلوب الحوار تقنيات عديدة منها المونولوج"Monologue" ، أو الحوار الذاتي الداخلي الذي تكلم فيه الشخصية نفسها. فهذه رقية تسرح مع نفسها في مونولوج داخلي طويل تقلب ذكرياتها وعلاقتها الماضية بالمعلم بشير عندما كان زوجها لها، وكيف سمعت به بأنه مات في أحد المعارك، ثم تزوجت من "رابح" زوجها الثاني الذي مات بدوره، وها هي اليوم تفاجأ بأن زوجها المعلم بشير ما يزال حيا يرزق، وما يشير كل ذلك في نفسها من مشاعر وما يثير فيها من كوامن كانت حبيسة، إنها تسقط مغمى عليها لأول مرة تراه، وبعد زوال لحظات المفاجأة والصدمة ها هي تسائل نفسها يقول الراوي وهو يقرأ كل ذلك.
".. هو حي وأنا أبكي عليه! تركني للضياع وأشاع في الناس أنه قتل لكي لا يعود إلى! .. لكن ماذا أقول له؟ أيصدق أنني كنت أحسبه ميتا؟ أيصدق الحركي لم أدر أنه كان حركيا، وأنه أنقذني من الموت المحقق أنا وابنتي بعد أن قتل الأهل والأقارب؟ أيصدق أني ذقت كل أنواع العذاب لإنقاذ ابنتي من الموت؟ ليبقى ذكره حيا في الدنيا؟ أيصدق أنني بكيته اناء الليل وأطرف النهار؟ أيصدق أنني أحببته وحده في هذه الأرض ولم يخفق قلبي بحب سواه؟.. وشهقت شهقات علية بالبكاء..."(27).
يكشف المونولوج جوانب ماضية من حياة شخصية رقية وعلاقتها بالمعلم بشير، بعد أن شعرت بشيء ينمو في داخلها إليه أكثر فأكثر دون أن تراه، ولكنها تفاجأ وهي تراه بأنه الحب القديم الذي عاد. واليأس الذي أصبح أملا، فالمونولوج الداخلي يكمل ما قبله من تقنيات الحوار والسرد على حد سواء. لكنه حوار فلسفي موجه إلى السامع بالدرجة الأولى.
جـ - يدرج الراوي حلم اليقظة في خدمة تقنيات الحوار لضمان التنويع الفني للأسلوب، ولسبر أغوار الروائية وكشف أعماقها للقارئ، خدمة لنمو الحدث الروائي، وتطويره نحو النضج والإكتمال. يسبح المعلم بشير في خواطره المشدودة أبدا إلى مؤثرات أجنبية فكرية وفلسفية وثقافية راسخة في تكوينه الثقافي يتذكر قوله قالها "لامارتين" الشاعر الفرنسي يتأملها في أعماقها يقارنها بوضعه الجديد في هذه القرية يقول الراوي: "... وتذكر المعلم وهو يسبح في هذه الخواطر قوله مشهورة قالها "لامارتن": "يكفي أن تفقد إنسانا واحدا تحبه ليصير العالم في نظرك خرابا" فقال في نفسه: "يكفي أن لا تجد الفكرة الصحيحة في الإبان ليضيع عالمك من بين يديك" الفكرة الصحيحة هي هذه: "أعن من في حاجة إلى إعانتك ولا تقل: لا تعن من ليس في حاجة إلى إعانتك. اكتف بالأولى، هي الأساس، وهي سر حياتك في هذا الوجود". وابتسم ساخرا من نفسه "صرت فيلسوفا" وأردف قائلا في نفسه: "رويدا أية التفاؤل!.."(28).
يتدخل الراوي ويرتب أفكار حام اليقظة الذي يعيشه البطل بشير بكل مؤثرات "لامارتن" وذكرى الحبيبة رقية، وأما رقية فمن ناحيتها تحلم حلم يقظة آخر متعلقا بالمعلم بشير، الذي تحلم به وهي جالسة بالقرب من ابنتها "فريدة" قبل وفاتها وقبل أن ترى المعلم بشير وتكتشف أنه ما يزال حيا يرزق، تسهو رقية لحظة من الزمن لترى في حلم اليقظة، زوجها الأول بشير يعود إليها ويشتري لها الهدايا ويتزوجها من جديد وتحلم بليلة الدخلة جديدة بتفاصيلها ينفدها لها المعلم بشير، لكن الراوي هذه المرة هو الذي يقدم الحلم بصيغة ضمير الغائب يقول: "... وتغيرت الصورة في مخيلة رقية فوجدت نفسها في البيت بالمدينة، فخم الرياش رائع الزخرفة، يشبه القصور التي تحكي عنها القصص الشعبية. ,إذا بالبشير يدخل حاملا تحت إبطه قرطاسا ملفوفا على شيء، فيفتحه بين يديه فأذا فيه قماش من القطيفة الممتازة مطروز طرزا رفيعا خيوط من الفضة، ويعطيه اياها، ثم يحتضنها برفق، ويضع رأسه على كتفها، ذراعه اليسرى تمسكها من خصرها، ويده اليمنى تعبث في شعر رأسها فتشعر بغبطة ولذة، ثم يقبلها بحنان وشوق قبلة لم تعرف ألذ منها في حياتها. يقفان كذلك مدة ملتصقين في هيام لا ينتهي. ثم يجرها جرا رفيقا إلى السرير قريب هناك، ويأخذ في تقبيلها على شفتيها، على خديها، على عنقها. ثم يمد يده إلى صدرها فتستحي. لأن نهديها لم يبقيا ممتلئين كما كانا. بارزتين، يتحديان ضيق القميص. فيحسب يده في رفق إلى مكان آخر، فيفعل كما لو شعر بندائها الداخلي ... وتضطرب تحته اضطرابا محموما لذيذا وتتشنج أجزاء جسمها الحساسة ويصير جسمها كله شبكة عصبية متوترة وتشعر بحاجة بالغة إلى استقباله. فينزع عنه ثيابه السفلى ويرتمي عليها بليعة العاطش الضمآن. وإذا بالعجوز ربيحة تدخل عليها فتصرخ في وجهها وتدرك أنها كانت في حلم"(29).
ويسجل أن هذا الحلم يعد بمثابة استيباق ما سيحدث والذي يسرده الراوي بما يقدمه من وصف لبيت المدينة الجديد وللهدايا، وما يقرأه في نفس رقية من مشاعر وأحاسيس ليلة الدخلة، ومن ناحية أخرى فهذا الحلم صورة أخرى بتفاصيلها للعملية الجنسية، إذ سبق للراوي أن قدم سابقا صورتين مختلفتين للعملية الجنسية مع شخصية رقية ذاتها.
د- يزخرف الراوي ثنايا الحوار بأبيات شعرية لتفجير الحدث بصورة مؤثرة. فعند وفاة ابنتها " فريدة " واكتشافها لزوجها السابق " المعلم بشير" والذي كانت تظن بأنه مات. وفي هذا الموقف يرتفع صراخ رقية بالبكاء فيرتاع سعيد لهذا البكاء وهو ينظر إلى أمه، وهنا يورد الراوي أبياتا شعرية يقول فيها:
"من لم ير طفلا حزينا
لا يعرف الحزن
أيها الطفل الحزين
لحزن أمك
ليتمك
لقسوة الحياة عليك
إني أحبك
لم أملك في هذه الدنيا
إلا قلما
حروفه هي دموعي
وجراح قلبي
لا تلمني
عيناي لا تحسن البكاء
مثل قلبي
أيها الطفل
الذي يحزنني حزنه
ولا أعرفه
إنني أحبك"(30).
ويورد الراوي أبيتا شعرية أخرى لدى استشهاد الشيخ "حمودة " الذي نصب كمينا لدورية عسكرية انتقاما لشرف عائلته، الراوي الحجر الذي استشهد فيه الشيخ وبجواره زوجته "سعدية " التي حاولت دفنه فأطلقت عليها النار. يخاطب الأرض يخاطب الجبال:
"لكن حجر الصلاة لا يتكلم
الصلاة لن تقام منذ اليوم فوقه
سيتبدل اسمه
سوف تناده الأجيال المقبلة: "حجر الشهداء! "
حدثي من مر من الأجيال
إن الثمن كان باهظا
وأن وجهك الطيب
كان ذات يوم أحمر قانيا
بدماء الأبرياء
حدثي من يأتي من الأجيال المقبلة
إنك شربت من دماء أبناءك البررة
مالا يدع العطش يمتد إلى عروقك
أبد الآبدين"(31).
الوصف في رواية نهاية الأمس:
تتناثر في الرواية عديد من لوحات وصفية وزعها الراوي لشد انتباه المشاهد إلى صورة بيئة الأحداث الروائية المتميزة بمسحة رومانسية مؤثرة تصف الطبيعة على علاتها، لكن هذا الوصف لم يكن مجانيا بل مرتبطا برؤية البطل والراوي، فإذا الطبيعة محمرة وعادية كناية عن فقر أهلها وبؤسهم، فالطبيعة إذن لا تبتسم، والطريق تلتوي وتنقبض كأنها شخص، والسيارة " لاندروفر" تشخر شخيرا والقرية أكواخ، والجبل عار من النباتات والمدرسة تبدو غربية. فكأن بالوصف يرمز إلى أن السكان ينقصهم كل شيء وليس المدرسة وحدها..."الأحجار الجاثمة هنا، وهناك، على حفافي الطريق محمرة في سواد الأرض المحاذية، لا يربط بين أتربتها إلا عروق سوداء أو بيضاء كالأفاعي، العري هو الكساء الوحيد الذي تلبسه الأرض! كأن ريحا ذرية نسفتها فإن كل شيء عار وإذا كل شيء كئيب وإذا الشمس تفتقد أشعتها فتضيء بلا حنان ولا جمال، وإذا الأرض تعطي للناظر صورة من صور هرمها الفظيع!
كانت الطريق ملتوية محدبة، فإذا ما انبسطت فلتنقبض أكثر، وإذا ما امتدت فلتلتوي أشد، وكانت السيارة " اللاندروفر" تشخر شخيرا حديديا ملوثا بالغبار ورائحة البنزين، وكانت القرية تبدو حينا وتختفي أحيانا، وفي بدوّها لا يمسك النظر منها إلا أكواخا ودوارا هنا وهناك قابعة في حجر جبل عار، لكل بناية واحدة من بينها جعلها بياضها الناصع وموقعها المتطرف تبدو غربية..." (32).
وقد راعى الراوي في هذه اللوحة الوصفية ما يتطلبه الإنسجام مع حالة البيئة التي سينتقل إليها البطل بشير، وكيف ينظر إليها، وما يزمع القيام به من مخطط إصلاحي للأرض وتحسين ظروف القرية، وتوعيتها لتواجه الإقطاع والجهل والتخلف، وتواكب التطور والنماء والحداثة.
ب - ينتقل الراوي ليصف للقارئ أحد بيوت هذه القرية من الداخل، وهو بيت المجاهد "بوعرارة " الذي دعا المعلم للعشاء عنده، باعتباره كبير القرية. وكأن الراوي وهو يصف في مشاهد سابقة القرية بالعراء الطبيعي، والجفاف والجدب، أراد أن يكشف عراء البيوت من الداخل وفقرها المدقع، ويتناول هذا الوصف الساخر الزاخر بالتشابيه، شخصية معلم الصبية تمهيدا لإسقاطها وتقديمها للقارئ في هذه الصورة. ولم تسلم لغة الوصف من بصمات المؤثرات الأجنبية التي انعكست على شخصية الراوي: "حجرة الضيوف دائما خرجية في القرى، وكذلك كانت الحجرة التي تناول فيها المعلم طعام العشاء، كان الفراش حصيرا من حلفاء، وحنبلا قديما من صوف، ومسندا، في زاوية البيت بردعة، وبغل، ومحراث عتيق من خشب، في الحائط الأيسر وتد معلقة به سكة حراثة.في الحائط الأيمن ضربت لوحة صغيرة، فوقها مشكاة غاز زجاجية، اسودت قصبتها، فكان نورها خافتا باهتا، ليس هناك ما يعكس ذلك الضوء القليل، حتى الحيطان شهباء دكناء مرشوشة بجبس محلي، أما السقف فهو عيدان بنية من شجر العرعر، تلحفت بثوب كثيف من الأدخنة المتصاعدة إليها. عندما توقد النار أيام القر، وعلى ذلك النور الخافت الباهت كانت الأيدي تمتد إلى الكسكسي الموضوع في مثرد (صحن) من خشب يشبه بعنقه الطويل وقائمته كأسا ضخما من كؤوس الشمبانيا!..
لم تكن حركات الأيدي متساوية فحركات المعلم كان يبدو عليها الكسل في منتهى ثقله... أما يد "إمام" القرية ومعلم صبيتها القرآن، فكان انطلاقها إلى المثرد ورجوعها إلى الفم تمضي في سرعة آلية منتظمة كميزان الموسيقى... !"(33).
جـ - ويورد الراوي وصف الطبيعة وتعلق المعلم بشير بها على طريقة هيام الرومانسيين بها والتغزل بها، فهذا المعلم يتعلق بالقمر وضوئه الهادئ الذي يعطي لوحة فضية بديعة للطبيعة العارية، مما يجعل الأحاسيس والمشاعر ونيران الشوق المحرقة تضطرم في نفس المعلم بشير، مما أدى إلى أن يرى السماء تتصل بالأرض فهما متعانقان: ".. وكان القمر حينئذ قد طلع من وراء الجبل العاري الشاهق الذي كساه الليل قطيفة سوداء، طلع يبتسم ابتساما فضيا بالغ الروعة، وأخذت أشعة المتلألئة تنتشر فوق أجزاء من القرية فإذا هي ترتشفها في هيام ابتسام، وإذا المنظر العام يشكل لوحة بديعة الأضواء والظلال، لم تصل بعد ولن تصل إلى رسمها يد إنسان، لوحة بعثت في وجدان المعلم ألاف المشاعر والأحاسيس، تقصر الكلمات عن تصوير آمادها وأبعادها، ومتعلقاتها. ووقف لحظة متأملا حواليه ذلك المشهد الفريد الذي اتصلت فيه السماء بالأرض فإذا هما متعانقتان متحدتان في خشوع وهيام قدسي تعرفه الطبيعية ويعرفه من صقلت الأيام روحه، وأرهقت الأحداث حسه، ورسخت في نفسه صورة لكل تجربة، ومذاقا لكل أمر"(34). وهكذا، يلاحظ كثرة اللوحات الوصفية على نمط هذا النموذج في هذه الرواية"(35).
ومن المميزات العامة لهذا الوصف اعتماده على وصف التفاصيل الصغيرة، فهو وصف جزئي، يعتمد على الدقة في الملاحظة. كما مزج الوصف في بعض اللوحات بأسلوب ساخر مثير لضحك عميق، مستمدا من سخرية البيئة المحلية، ووسط الجماعة الشعبية حول بعض نماذج الشخصيات الشعبية المعروفة، على نطاق واسع. وما يقال لها وما يقال ضدها، بهدف الفكاهة، كما عمد الراوي إلى توظيف الأسلوب الساخر معتمدا علي كثرة التشبيهات التي يوزعها في ثانيا الوصف، ولم ينج أسلوب الوصف من مؤِثرات أجنبية بها أشياء محلية، أو انعكست في طريقة البطل السلوكية وطريقة عيشه على النمط الأروبي.
ويسجل أن الوصف كان متماشيا مع الحالة الملائمة لطبيعة الحدث، فإذا كان الحدث مشدودا إلى قطب الحزن مثل الموقف عندما توفت "فريدة" ابنة رقية متأثرة بمرض السل. كانت رقية حزينة وكان البطل بشير حزينا لأجل ذلك على الأقل. فجاءت اللوحة الوصفية حزينة أيضا وحزن بشير وحزنت الطبيعة يقول الراوي: "سوبعات قلائل، وأقبل الصبح ... لم يكن صبحا جميلا، كأصباح القرية السابقة لدى البشير... أما رقية فلم يكن صبحها حزينا فقط بل كان مظلما.."(36).
وعندما يكون الحدث مشدودا إلى قطب الفرح والسرور يأتي الوصف متفائلا، فعندما جلست رقية تفكر في المعلم بشير وكيفية الوصول إليه جاءت صورتها متفائلة كما يلي يقول الراوي: " كانت رقية جالسة على عتبة الباب، يدها اليسرى على خدها واليمنى في حجرها، ورجلها اليسرى تسند مرفقها واليمنى ممدودة على الأرض. تربط رأسها بمنديل أسود قديم، وترتدي فستانا أزرق حال لونه إلى الشهبة. في ذراعيها سواران قسنطينيان من الفضة. تنظر غلى الباب الخارجي النصف المفتوح ل ايقابلها من مكانها ذاك إلا الربى الجرداء والشعاب.."(37).
وعلاوة على الحالة النفسية التي يراعيها الوصف، نراه يتلزم بميزة الالتحام بالطبيعة والتغزل بها وتشخصيها وخلع صفات بشرية عليها(38). كما امتاز الوصف بجرأة خاصة، إذ قدم لوحات تفصيلية للعملية الجنسية متعلقة بشخصية رقية مع شخوص مختلفين(39). وهكذا نقلت اللوحات الوصفية كثيرا من المؤثرات الأجنبية السلوكية أو اللغوية أو الثقافية.
الهوامش:
(1)- عبد الحميد بن هدوقة، نهاية الأمس، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، للطباعة والنشر والتوزيع، تونس، ط3، 1989، ص169.
(2)- المصدر السابق، ص51.
(3)- المصدر السابق، ص51.
(4)- المصدر السابق، ص55.
(5)- المصدر السابق، ص57.
(6)- المصدر السابق، ص30.
(7)- المصدر السابق، ص80.
(8)- المصدر السابق، ص8.
(9)- المصدر السابق، ص30.
(10)- المصدر السابق، ص79.
(11)- المصدر السابق، ص80.
(12)- المصدر السابق، ص89-90.
(13)- المصدر السابق، ص101.
(14)- المصدر السابق، ص105.
(15)- المصدر السابق، ص8.
(16)- المصدر السابق، ص12-13.
(17)- المصدر السابق، ص38.
(18)- المصدر السابق، ص254.
(19)- المصدر السابق، ص132-133.
(20)- المصدر السابق، ص154.
(21)- المصدر السابق، ص101.
(22)- المصدر السابق، ص25.
(32)- المصدر السابق، ص26.
(24)- المصدر السابق، ص27.
(25)- المصدر السابق، ص10.
(26)- المصدر السابق، ص159.
(27)- المصدر السابق، ص171-172.
(28)- المصدر السابق، ص21.
(29)- المصدر السابق، ص189-190.
(30)- المصدر السابق، ص172-173.
(31)- المصدر السابق، ص105-106.
(32)- المصدر السابق، ص7.
(33)- المصدر السابق، ص24.
(34)- المصدر السابق، ص31-32.
(35)- المصدر السابق، ص15، 49، 168، 197، 206، 82، 89، 90، 239، اللوحات الوصفية.
(36)- المصدر السابق، ص168-169.
(37)- المصدر السابق، ص206.
(38)- المصدر السابق، ص31-32.
(39)- المصدر السابق، ص82، 83، 84، 89، 90، 91، 189، 190، اللوحات الوصفية.
وقد صدرت هذه الرواية "نهاية الأمس" لعبد الحميد بن هدوقة. لأول مرة عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر، في 1975، وصدرت في طبعتها الثالثة، عن المطبعة العربية بتونس، في 1989.
Le Dialogue, La représentation.
La description