قراءة في المجموعة ذكريات وجراح لعبد الحميد بن هدوقة

آمنة بلعلا من جامعة تيزي وزو
انطلاقا من المجموعة القصصية الاخيرة "ذكريات وجراح" لعبد الحميد بن هدوقة، يمكن التنبؤ الى حد ما بطبيعة مكونات خطابها السردي، كالمنظور والصيغة وانعكاساتها على الكيفية التي تقدم بها الشخصيات والأحداث، والطريقة التي يستعيد بها الكاتب صوته الذي ضاع بين الاصوات السردية في رواياته المختلفة.
ولعل أول ما ينبئنا به العنوان "ذكريات وجراح " أنه يقدم لنا صيغة قائمة على التذكر، حتى وإن كان كل عمل حكائي قائم على هذا الاساس إذ لا يمكن لإنسان في الغالب أن يحكي إلا ما قد حصل أو تخيل حصوله. غير أن الذكريات هنا تؤكد حضور الذات نظرا لطابعها الرومانسي مثل كلمة "جراح" التي تضيف شيئا للذكريات من الناحية الدلالية، وتعكس بدورها العودة الى الذات من خلال لحظات التأمل في أقسى، أوضاعها، والاشتغال في فضاءات تدخله قسرا في عملية التذكر، والتخيل، كالسجن والحلم والحانة وغيرها.
تنطلق (ذكريات وجراح) إذن من داخل السارد الشخصية، فيهيمن ضمير المتكلم كشكل من أشكال هيمنة الانا على استراتيجية الحكي والتأثير على مسار القصص، ووسمه في أغلبها بالثبات نظرا لمكوث السارد في تلك الفضاءات الثابتة التي تسهم في خلق حركة داخلية تتأرجح بين الحاضر والماضي، لكننا ندركها دائما من وجهة نظر افلسارد وموقعه من القصص باعتباره مشاركا فيها (NARRATEUR MOMODIEGITIQUE) وإن التغيرات التي تقع لا تتم إلا بصوت السارد الداخلي (INTRADIEGEITIQUE).
يقوم السارد الشخصية، مهما اختلفت هويته باختلاف موضوعات القصص، بعملية الحكي، حيث يسرد حالات يعجز أحيانا عن ضبطها وتحديد زمن وقوعها حيث يقول: كم مضى علي من الوقت وأنا مرمي هكذا على الرصيف، كم قضيت وراء القضبان، ساعة؟ ليلة؟ىسنتان؟ (2).
امتزج هوسي بأحلامي..صرت أسمع نفسي، مرة نغما موسيقيا يملأ الفضاء عذوبة وحنانا، ومرة أراني روحا خرافية في سماء ملكوتي، بنفسجي الافاق مرة أحسني، تحولت الى حب صاف (3) مالي أرى الحانة خلت من الذباب؟ أين ذهب الشرب؟ لعل الجميع ذهب في خبر كان.
أنا أذهب في خبر كان.
بقايا حلم أو بقايا دن؟ لم أعد أرى ما يراه الشاربون، لعلني انتقلت الى عالم سوف يكون، لعلني الآن أحيى في هذه الجنة المغرية التي وعد بها المتقون، لكن مالي أرى الانهار جافة، لا خمر فيها ولا سكارى ينعمون (4).
فالسارد في هذه الامثلة يبدو ذات السرد وموضوعه في الوقت نفسه، وتبعا لذلك يكون الشكل السردي هو ما سماه "جيرار جنيت" HOMODIEGITIQUE، حيث يكون السارد مشاركا في القصة كواحد من الشخصيات، لكن علاقته بها تختلف بحسب موقعه الذي يحتله في السرد (5).
فكل شيء في هذه القصص يبدو لنا من منظور الفاعل الذاتي، حيث يقوم بالسرد والتبئير (focalisation) ومعظمها ينفتح أو يختتم على الرؤية الجوانية الذاتية، حيث يبئر السارد ذاته وحالاته المختلفة، وهو في الحانة أمام زجاجة الخمر، أو على الرصيف في الحلم، أو حيث لا يدري، ويفتح أفق القارئ على الافق نفسه ودائما ضمن الرؤية الذاتية، حتى وهو يبئر الماضي القريب أو البعيد، أو المحيط من حوله. فهو في قصة "رسالة من حائر" يقول: "قبل 1988 كانت الامور تسير عادية، أبي يعود إلينا من المسجد بعد كل صلاة، حاملا فاكهة أو شيئا ما في يده، كنا سعداء بعودته وبصلواته، طبعا لم يكن ينفق من مهنته، كان الى جانب الامامة يكتب العقود المختلفة بين المتعاقدين، يكتب الحروز للمرضى، يقرأ خطبة النكاح بين المتصاهرين" (6).
ندرك وضعية السارد وماضيه العائلي من خلال رؤيته هو، وحكمه على هذه الوضعية بالاستقرار والتوازن الظاهري الذي يخفي بباطنه تمزقا أنتجته اختلافات وجهات النظر والسياسة، وهو إذ ينتقل من تبئير ذاته الى أفراد العائلة كموضوع ندركها من خلال رؤيته الداخلية، ونراها من منظور هو وليس هناك ما يسمح لأي شخصية بالتعبير عن وجهة نظرها، وبالتالي فالمظهر الذي تظهر به والمعالم التي تبدو بها، تتحكم فيها وجهة نظر واحدة، هي وجهة السارد المشارك، وهي لا تدخل مسرح الاحداث بمواصفات معينة اتسهم في ملأ بطاقتها الدلالية، بل إن السارد يدخلها الحدث ويبقيها بنفس الوضعية التي تحددها وجهة نظره. ويعود الى ذاته بعدما يجعلها تضيء جانبا من حالته هو، ويتركها ويمر، رغم أنه يضيف من خلالها ما يؤكد حالته. ذلك ما نراه من خلال صورتي الساقي والحاناتي في "المنفى الخمري" حيث يقول:
"أرى الساقي، الحاناتي، الزبائن، فحما حجريا،
يا ساقي دع الخمر عندك.
يا ساقي إن العلو ليس أحجارا تبنى، وإنما بناة الاحجار.
الحاناتي يضحك على شعري، يضحك على مقبرة الزجاجت الفارغة على الخراب الذي تركناه في حانته، يضحك على شاربي الخمر، وهو يبيع الخمر.
الحاناتي يضحك، نحن نشرب وهو يغسل الكؤوس ويضحك" (7).
فالحاناتي والساقي لم يأت بهما، إلا لإضاءة حالة الشرب التي تبدو هنا أقرب الى الحكمة كرد فعل على ضحك الحاناتي الذي خلق مساحة أخرى لإعطاء أحكام قيمة على الرغم من أنها تريد من استقرار الحالة وتغيب الفعل، لأن الضحك لا يغير شيئا وذلك مثل قوله: يا ساقي: إن العلو ليس أحجارا تبنى، وإنما بناة الاحجار وهي طريقة لاشك أرادها ابن هدوقة لتزويد القارئ بأكبر قدر من المعلومات التي تعبر عن وجهة نظره، وغالبا ما عبرت عن المواقف الصدامية بين المثقف والسلطة مثلما توحي به أغلبية القصص حيث خلقت اتجاها يقوم على تبرم من السلطة السياسية والدينية، على حد سواء.
ولذلك يغيب الزمن بالمفهوم السردي، ويبدو كما الشخصيات غير واضح المعالم، ولذلك سرد الراوي بضمير المتكلم وتخلو النصوص من موضوعات القيمة، وتهيمن الحالات، وتبقى الذوات عند حدود القول أو الرغبة، بل لقد بدت بعض القصص وكأنها مقطوعات شعرية مثل قوله في قصة "ذكريات وجراح".
"لا أقسم بجروح قلبي، ولا بذكريات حبي
أقسم بأيامي الباقية، وهي قليلة وعليلة
أقسم بأفق بنفسجي، بعشق قريتي الجميلة وبأيامها الطويلة.
وبطفولتي التي أحبت القمر وعشقت النجوم وبأصوات ناغمة كانت تغنيها لي أمي عند النوم أنني كنت أراك قبل أن أراك
في أحلامي المشتاقة لرؤياك يا أنت" (8).
تسهم شعرية هذا المقطع في خفوت الحركية النصية، ويصبح الفعل القصصي في الدرجة الصفر تماما، حيث لا نقف إلا عند تموضع الذات ضمن القول أو الحالة والرغبة وهي وضعيات "رغم اختلافها لا تسهم في أي حركة حديثة، ولا تمهد للتحول الفعلي رغم أنها قد تبرز أحيانا انزلاقات وتباينات على مستوى الحالة" (9).
وهنا تصبح الحالة هي موضوع السرد لارتباطها بالسارد الذي هو موضوع السرد كذلك، ويصبح السرد مجازا وليس عرضا للأفعال التحويلية، مما يحدث تضخما نصيا، ويغدو الفعل التحويلي في درجة الصفر مثل قصة "الأب البندقية".
لا نستطيع أن نفصل تأملات الذات حتى في أحرج الحالات اتي تعيشها عن الموقف الذي يسفر عنه التأمل، ولذلك سوف نلاحظ أن الرؤية الجوانية للحكي أسهمت بفعل هذه التأملات التي تحمل مواقف وآراء في إقصاء الحركة، بل إننا نرى السارد وهو يحيل الكلمة الى إحدى الشخصيات في إحدى القصص التي تحمل موضوعا قيما وتحولا يسقطها في المسار نفسه، فيجعلها تمارس عملية التأمل بالطريقة التي يمارسها حيث يقول الشاعر في قصة "أطلقوا النار على الكلمات": "البلد مشوه، جدرانه شوارعه، حقوله، رماله، آثاره القديمة، مشاريعه الجديدة، إنسانه، ثقافته مشوهة، مشوه، مشوه! لابد من فعل شيء، أيدي البشر متساوية هنا وهناك، لا توجد يد بأربعة أصابع وأخرى بستة، خمسة أصابع لليد هنا، خمسة أصابع لليد هناك.
هناك كل شيء مختل، أيد تعمل وأخرى تكنز، بطون تزداد اكتضاضا وأخرى تزداد طوى.
لابد من فعل شيء، لابد من أن يمشي كل إنسان برجليه، أن ينظر كل واحد بعينيه، أن يفكر كل رجل برأسه" (10).
هنا نلاحظ أن الشاعر، على الرغم من الرغبة العارمة التي يمتلكها في التغيير، إلا أن كلامه يبقى سردا لأقوال، استعمل فيها السارد كل الامكانيات الاسلوبية لجعل موقفه من الواقع موضوعا للسرد كالمعاودة اللفظية والمعنوية التي تبدو بارزة.
وإن التعليقات التي ترافق رغبة الشاعر من خلال قوله: "لابد من فعل شيء" جعلت القارئ ينتظر كثيرا لكي يحدث الاثر. وبين قول الشاعر وخروج الناس مسافة من التراخي تجلت على مستوى النص قد تعادل مدة مرور قول الشاعر الى الآخرين واستيعابهم له.
وهو الشيء نفسه الذي نلاحظه في قصة "الأب البندقية" حيث يحتل معظم مساحة القصة تصوير ذات القول، "الأب"، وتحيط أقواله بجميع الصفات الممكنة التي تدل على الحالة أكثر من الفعل.
تبدو قصص بن هدوقة بمثابة القصائد التي تتخلى عن الزمان والمكان، ولا يبقى إلا الزمن النفسي والمكان الحالة، فتنحدر الى مستوى المناجاة والتداعيات الداخلية التي تعبر على الرغم من اختلافه بعض الشخصيات إلا عن انشقاق النفس عن نفسها وخلقها منها ذاتا أخرى تعارضها وتناجيها كقوله في نص " ذكريات وجراح" مناجيا حبيبته:
"كنت كإبراهيم، أتخيلك كوكب إلهي المفضل،
ويطلع النهار وأجدني وحدي بلا إله!
ومع كل الكوابيس والخيبات والظلمات،
كنا نحن الاطفال ونحن الشباب لنا أفكارنا وآفاقنا البنفسجية ولنا آلهتنا المفضلة.
يقولون الحب أعمى، وأنت كنت إلهتي!
حبي أنا كان مبصرا أيما إبصار.
يا حبيبتي" (11).
تنطق هذه المقطوعة بطابعها الشاعري الذي يعرض فيه السارد الى العالم الداخلي المفعم بالذكرى والحلم، ويتمفصل السرد حول عرض الحالة. وإن تواتر الملفوظات الذي لا يخضع لأي تواتر حدثي يعطي السيطرة للمشهد الذي غالبا ما يخرج القارئ الى عوالم خارجية في شكل قناصات، كإشارته الى قصة سيدنا ابراهيم والبحث عن الله أو بالإحالة الى آية مباشرة كقوله: "كل يوم يمضي كان حبنا يكبر أكثر، وأقرأ لك آية قرآنية عن الزوجية، و"من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا تسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (12).
إن بحث الكاتب عن سلطة الغنائية الانفعالية جعله يأخذ من بعض أنواع السرود الصغرى كالمذكرة جانبها التقريري، حيث تتوجه الى ذات صاحبها، ومناجاة روح التوحد بالذات العارفة والمتعرفة على نفسها. إنه حوار مغلق على الرغبة والعقل القاهر كما أن لجوء الكاتب الى محاكاة قوالب الحكمة، محاولة لإيجاد سلطة رمزية تتجاوز منطق الاشياء في الواقع، وهي في هذه النصوص تأتي لتعمق اللفظات التأملية.
وقد توعز المنحى التأملي الذي بدت به هذه النصوص الى الظروف الخارجية التي أنتجتها، إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة التي كتبت فيها الممتدة ما بين (1988-1996) وهي فترة اختلطت فيها كل التوقعات وعاد بعض الكتاب الى ذواتهم فمنهم من صمت ومنهم من هاجر.
إن الاغراق في الذاتية في هذه النصوص لا يعني عدم حضور المتلقي فيها، لأن التعبير بضمير المتكلم يخلق وضعا للمتلقي، ولأنه كما يقول التداوليون ما إن يشرع المتكلم في الحديث حتى يدمج الآخر معه، يوجه إليه الكلام ويفترض ردود أفعاله، وقد يضطر الى تضمين أقوال لا يرغب في التعبير عنها مباشرة، وهذا يذكرنا بوظيفة جاكوبسون التأثيرية المرتبطة بالمرسل إليه والتي لا تتجلى بوساطة استراتيجية للفعل والتحول يسهم المتلقي في الكشف عنها فحسب، بل تتجلى كذلك، وهذا هو شأن هذه النصوص حين يتم المرور من مستوى الى آخر، أي من مستوى التعبير بالحدث الى التعبير بالصورة"، وهنا نرى كيف أزاح الكاتب القيود بين الاجناس وكأنه أدرك أن "الجنس الادبي الذي تديره القواعد بشكل أقل، والأقل خضوعا للرقابة الحتمية للكتابة، أي الخاضع لمصادفات الذاكرة والأشد تحررا في أن ينخرط في ابتكارات الخيال" (13)، هو الذي يعود للكاتب صوته الحقيقي، وهل يحق لنا بعد هذه العجالة الذي نمارس فيها على هذه النصوص المنهج النقيوي، فنزيل عنها صفة القصة القصيرة، ونعتبرها نصوصا وكفى. أن نقول أن الذات أصل والايدولوجيا إدعاء، وأن الايدولوجيا لا تعير صوتها للكاتب إلا حين يكون هو فوق الظروف.
الاحـــالات
1-Gérard Genette, Figures p139-256.
2- عبد الحميد بن هدوقة، ذكريات وجراح، ص 34.
3- م ن ص 39
4- م ن ص 6
5- سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، ص 309.
6- ذكريات وجراح ص 77
7- م ن ص 109
8- م ن ص 125
9- سعيد بوطاجين، الحالة والحركة في مجموعة ذكريات وجراح، الملتقى الثاني بن هدوقة
10- ذكريات وجراح ص 60
11- م ن
12- م ن
13- جمال الدين بن الشيخ، ألف ليلة وليلة والقول الأسير، ص 81.