غدا يوم جديد لعبد الحميد بن هدوقة في الخطاب النقدي الجزائري المرجعية والآليات

أ-منصوري مصطفى كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سيدي بلعباس
أ-منصوري مصطفى كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سيدي بلعباس
تقديم:
صار ممكنا الآن الحديث، عن خطاب نقدي جزائري، يؤسس مفاهيمه ويضبط آلياته وفق رؤية واضحة، وذلك بعد أن راكم كما معرفيا استمد أصوله مما صار رائجا أو الذي لازال في خطواته الأولى.
لم يكن باستطاعة النقد الجزائري تجاوز انطباعيته التي وسمت بداياته التأسيسية، حين كان يشيد ويقيم وفق إكراهات إيديولوجية، وسلطة اعتبارات ثقافية خاصة، لم تكن دائما في صميم مهامه الكبرى، إلا من خلال استحضار المنجز النقدي الغربي، إما استثمارا تطبيقيا وإما تنظيرا وترجمة بعد بروز جيل من النقاد لا يتنكر للخصوصية الثقافية، ولكنه يسعى لبلورة تفكير نقدي، يتعانق مع الحداثة ليثمن ذلك التراث، فيقدمه بطرق مختلفة، ترغب فيه ولا تنفر، تماشيا مع المتطلبات الفكرية والثقافية للأجيال الجديدة والتحولات الكبرى التي صارت تطبع الكتابة الأدبية.
أتاح هذا الاستدعاء بروز نقد جزائري، لم يعد ظلا لما هو متداول في المشرق العربي، أو نسخة معادة للنظريات التقليدية، بل نقد يجدد أدواته باستمرار وتغلب عليه روح تأصيلية، تمنح له مشروعية الوجود. فصار محط الأنظار يتوقع منه – مع المنجز المغاربي – أن يقترح طرقا جديدة ويفتح آفاقا بكرة، لم يسبق للنقد العربي أن اخترقها وذلك بحجم علاقته الخاصة مع الغرب.
ضمن هذا المساق برزت أسماء جزائرية، لها وزنها في الخطاب النقدي العربي، تباينت مصادر معرفتها وتشعبت، ولكنها تلتقي في ضرورة منح النتاج الأدبي الجزائري حقه من الدرس، لأن مسوغ وجوده مرتبط بالبحث عن خصوصية الكتابة الأدبية في الجزائر، والتحولات الجديدة التي أخضعت للتجريب المستمر.
غير أن هاجس تحديث الأدوات والمفاهيم لازال حديثا مقتصرا عن نخبة أكاديمية، تضطلع بمهمة تثوير النقد ومسايرة الفتوحات النقدية التي طبعت القرن العشرين وما بعده. كما أنها لم تقو بعد على تجريب فعالية أدواتها انطلاقا من المتن العربي الجزائري على تبيان أشكاله، إذ إن غالبية تلك المقاربات خصت الروايات والقصص ولم تتجاوزها إلا نادرا. وتلك مفارقة أخرى، لا يجد له المهتم تفسيرا مقنعا إلا في استناد تلك المقاربات على منجز نقدي، أثبت جدواه مع المتون السردية تحديدا عند مبتكريه.
ولا غرابة بعد ذلك أن يكون ملتقى عبد الحميد بن هدوقة سائرا ضمن الاهتمام نفسه. فالدراسات التي يقترحها تقديم في معظمها عناقا خاصا مع هاجس التحديث، وتستدعي انجازات النقد الغربي على تلون مشاربه واتجاهاته، منطلقة من انجازات المتون السردية الجزائرية.
شكلت آخر رواية لعبد الحميد بن هدوقة معينا لا ينضب، لمجموعة من القراءات، تباينت اتجاهاتها واختلفت مرجعيتها. لكنها تلتقي في اعتبار "غدا يوم جديد" نصا متميزا، كان تتويجا لمشروع روائي أبان فيه صاحبه، عن قدرة فائقة على امتلاك أدوات فنية، يلونها وفق مسار كل رواية، وتجتمع لتجسيد البناء كاملا، ولتحدد المعالم الكبرى لتجربة عبد الحميد بن هدوقة التي ستبقى علامة متميزة في مسيرة الرواية الجزائرية الشاقة.
تستعرض هذه القراءة فيما يشبه "نقد النقد" توجهات أربعة دراسات، تشترك في اشتغالها على متن واحد، "غدا يوم جديد"، وتختلف في طبيعة الأدوات والمفاهيم. مما سيتيح إمكانية الحديث عن ثراء الرواية من جهة، وعن فاعلية القراءة الحداثية من جهة أخرى. وإذا كانت بعض هذه الدراسة قد صرحت بمرجعيتها، وأعلنت عن الأسس التي تستند عليها، فإن بعضها الآخر جمع بين أكثر من مرجعيتين، بشكل لا يخلو من الضبابية واللاضبط.
تسعى هذه القراءة الى تحقيق بعض الغايات المنوطة بنقد النقد التي تحصر في كشف الخلل في طبيعة الممارسة النقدية و((تدعيم هذه الممارسة، تبرير هذه الممارسة، تحديد تشغيل المفاهيم النقدية في ممارسة منهج ما، تحديد تشغيل الإجراءات في منهج ما، فحص النظريات النقدية والأدبية بما هي بناءات معرفية)).1 وهي لا تطمح بداهة أن تحقق كل هذه الغايات، فذلك مطلب عسير يستدعي مجالا أرحب ومقاما أنسب.
2- دلالة العنوان في رواية "غدا يوم جديد":
ينطلق "يوسف لطرش" في دراسته لعنوان رواية عبد الحميد بن هدوقة 2 'غدا يوم جديد'، من تعريف خاص للعنوان بوصفه مفهوما وإجراء، مستندا على الطروحات الجديدة التي يقترحها على العنونة titrologie، إذ يعتبره ((بنية مستقلة تشتغل دلاليا في فضاء خاص بها))3، وحدها القراءة المتفحصة قادرة على استكشاف دلالاته، لأنها تنطلق من خلفية معرفية بعد الفهم الساذج، وتحاول أن تفسره تفسيرا إيحائيا، بعيدا عن المعنى الذي ينتجه التركيب اللفظي 4. وبعد أن استعرض وظائف العنوان، ربطها بقدرته على التحفيز على القراءة وبكونه يقيم علاقات قوية بين مقاصد المرسل، وتجلياته مع بنية النص الدلالية. ووفق هذا التصور رأى أن 'غدا يوم جديد' تشتغل دلاليا للإشارة إلى:
- تعدد الأزمنة.
- تضمنه للامس واليوم.
- الدلالة على الحاضر والمستقبل.
مما أتلح له استخلاص حكم متسرع، اعتبر فيه الكاتب يتبنى رؤية سوسيوتاريخية، تتجسد في تصارع المصالح على عدة مستويات5. ولا يجد القارئ مبررا واحدا يشفع له هذا الحكم، إذ كيف يمكن الحديث عن رؤية سوسيوتاريخية من خلال تقابل الأمس واليوم، والحاضر والمستقبل؟ والحياة قائمة على التعارض نفسه. مما لا يخول الاحتكام إليها للدلالة على الحضور السوسيوتاريخي.
وبغض النظر عن صحة هذا الطرح من عدمه، فإن العنوان لا ينبغي أن بعض القوانين المنظمة، لا تقبل العناوين كلها. وبذلك فمسؤولية العنوان يتقاسمها المؤلف والناشر معا. بل إن العلاقة بين المؤلف والناشر قائمة على العنوان لا العمل الادبيذاته6. واضح إذا أن إصدار أحكام مهما كانت قيمتها على المؤلف من خلال العنوان، ينبغي أن تراعي كل هذه الخصوصيات، لأنها مما يرتكز عليه في علم العنونة.
يفكك 'يوسف لطرش' العنوان إلى وحدته اللسانية الصغرى، ويخلص إلى قضية هامة كانت تجسد مشروع الكتابة لدى عبد الحميد بن هدوقة.
إن الغلاف الذي وضع عليه العنوان، يتسع أيضا ليشمل تنبيهات إجناسية مادام واضع العنوان قد قرر أن يضع عمل في هذه الجنس دون غيره.
وبذلك فالتحديد الاجناسي يستقبل من الجمهور، بوصفه مقصدية تبيح لنفسها أن تسمي العمل برواية أو مسرحية أو غيرهما8.
تثير رواية عبد الحميد بن هدوقة "غدا يوم جديد" مجموعة من الأسماء مختلف عن طبيعة الخط الذي رسم به اسم صاحب العمل، كما أن الصفحة الداخلية للهنوان لم تحو تحديدا إجناسيا كذلك الصفحة الثالثة المضافة. مما يجعل أمر ارتباط العنوان وتنبيهاته الاجناسية بالإغواء séduction واردا. ومن شأنه أيضا أن يتيح إمكانية قراءة السياق الثقافي الذي أنتج فيه العمل، وطبيعة الاستقبال المتوقع أن يحظى به.
3-دراسة تحليلية لـ "غدا يوم جديد":
استهل عبد العالي بشير دراسته لرواية "غدا يوم جديد"9 بمقدمة منهجية، عرض فيها مجموعة من الملاحظات التي رآها ضرورية قبل أي تحليل. أظهر من خلالها حرصه على إبعاد الظروف المصاحبة لإنتاج العمل الأدبي، وتحاشي مناقشة الأفكار السياسية إيمانا بعدم مصادرة الأفكار. كما كشف غرضه من الدراسة وحصرها في الكشف عن تقنيات بناء العمل الفني لـ"غدا يوم جديد" واعتبره نفسه مجرد وسيط بين الكاتب والقارئ10.
ظاهر أن هذه الملاحظات لا ترقى إلى مستوى "مقدمة منهجية"، فهي لا تعرض مرجعية معينة، ولا تحدد نوع الآليات التي انتقاها ولا سر اختيارها. كما أن عنونة دراسته بتحليلية تحتاج إلى كثير من الضبط والدقة، إذ عادة ما يؤتي بمصلح 'دراسة تحليلية' للدلالة على كل شيء، وعلى اللاشيء أيضا.
ومن ثم فلا يمكن لدراسة تسعى للكشف عن تقنيات بناء العمل الفني ألا تقدم مفهوم لهذه التقنيات وعلى أي طرح تستند، ليعرف توجهها ودرجة فاعليته وفق الأسس التي تتحرك فيها.
ينطلق "عبد العالي بشير" في دراسته التطبيقية من أول جملة تصدرت بها الرواية 'رفعت الحجاب' التي تتيح له التنبؤ، بأن الرواية ستعرض أمرا هاما وقضايا خطيرة، على الرغم من أن البعد اللغوي الذي استند عليه في طرحه، لا يشير مطلقا إلى انكشاف أمر هام. فقد يكون حدثا عاديا، وذاك أمر ينضوي على خلفية رائجة، تزعم أن الأعمال الفنية ومنها الأدبية بالخصوص، لا ينبغي لها أن تقول إلا الأشياء الهامة، إذ لا يهم عندهم كيف يقول بقدر ما يهم ماذا قال؟
ضمن هذا اللاضبط والضبابية التي طبعت الدراسة من بدايتها، يصادف القارئ عنوانا مغريا، يكسر النمطية التقليدية التي رسمتها القراءة لنفسها يسميه 'عبد العالي بشير' سيميائية الشخصيات، التي تحيل على منجز نقدي غربي، أرسى قواعده 'فلاديمير بروب' ووطد أركانه 'غريماس'، إلى حد غدا فيه مصطلح الشخصية متواريا وراء مصطلحات جديدة "العامل، الممثل، الفاعل...".
لا يعتني 'عبد العالي بشير' بالمفاهيم ولا بمساراتها المختلفة، فهو يعنون مباحثه بمصطلحات حداثية، ويغوص في التقليدية كلما تقدم في التحليل، إذ كيف يمكن تسويغ تعريف للشخصية يعتبرها ((الكائن الإنساني الذي يتحرك في سياق الأحداث))11 والذي لا يفرق بين الشخص والشخصية. فيما أن الشخصية من الوجهة السيميائية دال بالأساس. واعتباره كذلك يستدعي اختيار وجهة نظر تقييم بناءه، من خلال إدخاله في الرسالة (المرسلة) باعتباره اتصالا/إبلاغا/يحوي دوال لسانية، عوض اعتباره معطى مثل ما يعده النقد التقليدي، حين يدخله ضمن دائرة الكائن الانساني12. ولا عجب بعد ذلك، أن يتتبع 'عبد العالي بشير' شخصيات (مسعودة، قدور، المخفي، الحاج أحمد...) ويرصد طبائعها وبعض دلالات أسمائها التي اعتبر 'عبد الحميد بن هدوقة' قد اختارها عن قصد.
في المساق نفسه، يشير 'عبد العالي بشير' إلى أن النقد الحديث، لم يعد يؤمن بتقسيم الشخصيات، إلى رئيسية وثانوية. ولكنه يجاري ذلك التقسيم التقليدي فيعتب مسعودة صاحبة المقام الاول13، ثم تتوالى الشخصيات الأخرى (قدور، باية، المخفي، قدور...). والحقيقة أن الدراسات التقليدية لا تقوى على تبرير ما تطرحه في قضية الشخصية الرئيسية (البطل) والشخصية الثانوية. فهي لا تملك مفهوما معينا للبطل، فهل هو الأكثر ظهورا أم أنه محدد بمقولة (الفاعل/الذات) المحددين بعلاقة الانتصار على معارض؟ أم أنه الشخصية الأقرب إلى المؤلف أو القارئ؟ هل يحدد بناء على قاعدة الكيفية أم الكيفية؟ وبالتالي هل هو الذي يملك مؤهلات خارقة، أم الذي لا يملكها أصلا؟14.
ينتقل الباحث بعد ذلك إلى رصد الأبعاد النفسية والاجتماعية، ويلحقها بالأبعاد المرفولوجية. ولا يقدم تفسيرا لتقديم هذا على ذلك. أما الذي ينفيه 'عبد العالي بشير' فيثير الاستغراب فعنده 'عبد الحميد بن هدوقة' لا يهتم بالأبعاد الجسمانية، وكأن الرواية ينبغي لها أن تعتمد هذا البعد.
ضمن الخانة الخامسة ينعت الدارس مبحثه 'علاقة السارد بالشخصيات'، ويبدو أن قراءته لا تفرق بين السارد والكاتب، على الرغم من أنه صار شائعا أن السارد ليس ((هو المؤلف أبدا، سواء أكان معروفا من قبل أمن غير معروف، وإنما هو مبتكر ومتبني من طرف المؤلف))15. ومن ثم فالحديث عن ((أن العمل السردي كتابة يكتبها شخص اصطلح على تسمية 'المؤلف' وهذا المؤلف تتغير شخصيته بداخله))16، لا يمكن أن تقود إلى الحديث عن وجهة النظر التي اختزلها 'عبد العالي بشير' في تدخل المؤلف بدون انقطاع على مدى النسيج السردي. مقدما لها بطريقة خاصة، بعيدة عن الطرح الذي انطلق منه.
تطرح 'غدا يوم جدي' تقنية خاصة، في التعامل مع أطوار السارد وأدواره وفق تلوين الضمائر. فإذا كانت الرواية قد افتتحت مسارها بضمير الغائب ((ورفعت الحجاب))17، فإن السارد المتجلي بضمير المتكلم ((تشدني،جذبتني، أدركت..))18 هو الذي يتكفل بعرض 'الوضعية الأولية'، واصفا ومندهشا. ولكن سرعان ما تمنح عملية السرد لـ 'مسعودة' حين تبدأ باستعراض ماضيها وحاضرها بضمير المتكلم ((أبنائي ما عدا الشهيد آباؤهم ليسوا أباهم))19، ولكن ذلك لا يجعل السارد الأول يختفي تماما فقد يختفي وراء بعض العلامات السردية فتح القوسين مثلا وغلقها))20. وفي كل مرة يذكر بدوره الذي يتنازل عنه لـ 'مسعودة' غير أنها تدعو أن ((أكتب ما أمليه عليك وما تعرف أنت))21، بل إنها توصية بأن يحسن الكتابة واختيار الألفاظ 22.
والواقع أن الدورين، الحكي/السرد يشكلان الولادة الفعلية للحكاية. وكأنهما يتضافران لإخراج الحكاية من غياهب الذاكرة التي حفزها أكتوبر على الظهور. ثم يتوالى البوح، حين يستدعي رجل المحطة ساردا جديدا ليتكفل بسرد قصة الحبيب، مرتكزا على ضمير الغائب ((كان مع الحبيب خمسون فرنكا..لم يكن معه ما يشتريه أقلاما ولا أدوات ولا أي شيء))23. ويعود السارد الأول الذي لا يعرف شيئا عن قصة الحبيب، ويبدي اعتراضه على حديث السارد المستدعى ((وإذا شئت الصراحة فإن ما كتبته عن عواطف الحبيب خيبني إلى حد ما..))24. وفي ذلك رغبة في الاستحواذ على السرد، لأن ما يذكره الساردون الموكلون بعرض ما خفي عنها، لا يروقها. واضح إذا أن الرواية تتقن لعبة السرد، حي جعلت الحكي ينطلق من ساردين مختلفين لا يعرف بعضهم البعض أحيانا، ولا يجمعهم إلا خطاب الحكي.
إن بحثا في هذه التقنية ومظاهره المختلفة، وتأثيرات ذلك على الفروق المفترضة بين كلام سارد وكلام الشخصيات التي يتكفل بتقديمها، من شأنه أن يقود الى استكشافات التحولات الجديدة في الكتابات الروائية لدى 'عبد الحميد بن هدوقة'. بدل التركيز على تجريب أدوات أتبت محدوديتها، فهي لا تقدم في أحسن الأحوال سوى صورا مكررة عن مضامين الرواية وعلاقات الشخصيات، ولا تنمي وعيا خاصا يعمق الصلة مع ذلك المتن أو ذاك.
- الاشتغال العاملي في 'غدا يوم جديد' تعد دراسة 'السعيد بوطاجين' 25 من القراءات القليلة الجادة التي استدعت المنجز الغريماسي، لقراءة رواية كاملة. إذ الشائع عند المهتمين بهذا النوع من القراءات اعتماد التنظير، أو اختيار متن لا يتعدى حجمه القصة مع بعض الاستثناءات. ولاشك أن عملا بهذه المواصفات، يقتضي قدرة فائقة على تتبع المسارات السردية وتعقيداتها، لرواية تتعدى صفحاتها الثلاثمائة، ودقة في تحديد البرامج وكشف العلاقات المختلفة التي تنميها. مع السعي الدائم إلى تطويع المنهج وضبط مصطلحه.
يعتبر 'السعيد بوطاجين' بحثه محاولة متواضعة 26، لتفكيك جزء من البنية الروائية الكبرى لـ'غدا يوم جديد'. يصاحبه في ذلك التجرد والحياد. على الرغم من اعترافه المسبق بعدم حاجة "عبد الحميد بن هدوقة" ((لأي كان ليثبت قدراته على التنويعات الأسلوبية والموضوعاتية))27، مما يجعل دراسته تسعى إلى تأكيد ما يشهد به للروائي، أكثر مما هي موجهة لاستكشاف تمظهرات البنيات الكبرى.
حدد 'السعيد بوطاجين' هويته دراسته، يجعلها امتدادا للمحاولات المغاربية المستحضرة لمشروع 'غريماس' (سعيد بنكراد، رشيد بن مالك، ناصر العجيمي..) وهي بذلك تعلن صراحة عن مرجعيتها. فقد انطلق من انجازات السيميائية السردية التي راكمت طروحات الشكلانيين وانتقادات 'كلود ليفي شتراوس' و'تنيير' إلى أن صارت أكثر نضجا ووعيا بمفاهيمها وآلياتها مع كتاب 'غريماس' الدلالية البنيوية.
لكن هذا النجاح لا يتيح الفاعلية دائما. لأن استحضار ذلك المنجز واعتباره كاملا صالحا للتطبيق، من شأنه أن يقود إلى انزلاقات الخضوع لمعضلة التطبيقات المتكررة لأدوات إجرائية بعينها، إلى حد تتساوى في الأشكال الحكائية وتتطابق. ولعل ذلك ما دعى 'السعيد بوطاجين' إلى الكشف عن بنية الرواية، اعتمادا على أدبيتها. ((وذلك قصد تفادي التوترات المنهجية التي تصب في النتائج ذاتها))28.
يستند 'السعيد بوطاجين' على مرجعية محددة، وعلى إجراءات دقيقة وصارمة. تتوخى القبض على البنيات الكبرى لـ'غدا يوم جديد'، مع إغفال البنيات الصغرى التي تتطلب عملا مضنيا ومجالا أرحب. وقد استدعى لتلك الغاية ((نظريات غريماس المتعلقة بالعامل، لأنها جاءت مكملة لما اقترحه كل من فلاديمير بروب و أ.سوريو، كزنهما سبقاه إلى التفكير في مسألة الأنظمة العاملية وكيفية اشتغالها نصيا))29. غير أن ذلك لا يجعل الباحث يستدعي الإجراء دون وعي. فهو يمنح لنفسه فرصة الاختيار بين مفهومين، كلما بدا طرح 'غريماس' ناقصا أو يشوبه نوع من التردد.
لاحظ 'السعيد بوطاجين' في ترسيمة 'غريماس' السردية أن السهم ينبغي أن يمر من المرسل إلى الذات ثم الموضوع، باعتباره أن المرسل يطلب من الذات لا من الموضوع. وأن سهمي المساند أو المعارض ينبغي أن توجها إلى الموضوع لا إلى الذات، إذ إن المساندة أو المعارضة تنطلق من طبيعة الموضوع بغض النظر عن القائم به أو الساعي إليه 30. وهي الملاحظة ذاتها التي يشير إليها المستحضرون لمشروع غريماس*، بعد أن تلقفوها من كتاب Anne Ubersfeld : lire le théatre 31
أما عن الصعوبات التي واجهت مسار بحثه، فيلخصها في إشكالية حركية المناهج، ومعضلة المصطلح الذي وصف واقعه عند العرب بالتشتت والتناقض. فحاول تجاوزها بانتقاء ترجمات خاصة، واقتراح مقابل لها متى انعدم تداولها.
يتخلص الكاتب من مشكلة تقسيم الرواية إلى مقاطع أو فقرات من خلال اهتمامه بالبنيات الكبرى. ولكنه لا يقدم مقياسا معينا للتمييز بين بنية صغرى وبنية كبرى. ولا يشير إلى نوع الاستدلالات التي ضبط من خلالها الفقرات. ويبدو أنه ارتكز في طلك التقطيع على ما يسمى ((فقرات سميو-سردية paragraphes sémio-narratifs، وتعني أن كل فقرة تخصص لمرحلة من الفعل الحكائي، مثلما بإمكانها أن تخصص للتصرفات المتتالية لعامل من العوامل) 32.
وفق هذا التصور المتضمن، رأى أن "غدا يوم جديد" تحتوي على ذوات بينة لخصها في خمس جمل:
- مسعودة تريد الذهاب إلى العاصمة.
- مسعودة تريد تدوين حياتها.
- الحبيب يريد الذهاب إلى الزاوية.
- عزوز يريد الحصول على الأراضي.
- العمة حليمة تريد تزويج خديجة بقدور 33.
وعلى أساس ذلك، حدد الترسيمات السردية في: المدينة – الموضوع، الكتابة – الموضوع، الزاوية – الموضوع، الأرض – الموضوع، المدينة الموضوع.
مع البنية العاملية كما حددها 'السعيد بوطاجين' تغدو الرواية في حركية مستمرة، الأشياء والكائنات، الكلام والصمت. كل منوط بمهمة، ولا وجود لشيء بدون وظيفة. فإذا كان 'قدور' في قراءة عادية ذاتا، فإنه مع الاشتغال العاملي صار كفاءة تسهم في تحقيق رغبة لم تنكشف له، بعد أن صار زواجه بـ 'مسعودة' غايته الأساسية.
إن السعي إلى الوقوف على طبيعة اشتغال البنى العاملية بعيدا عن تجلياتها النصية، أحال العمل الروائي على بنية مشتتة كل بنية كبرى من البنى الخمسة، نبدو منفصلة عن الترسيمة السابقة واللاحقة. مما سيقود في الأخير إلى اعتبار كل بنية تشتغل في مجال تحققها النصي مستقلة عن باقي الجمل، إذ لا نعثر في التحليل على صيغ روابط الانتقال من ترسيمة لأخرى.
تسهم البنية العاملية في تجلية ما كان خفيا، وتجعله ما كان دوره ثانويا لا يلتفت إليه، عاملا فعالا في بناء برنامج سردي أو عرقلته. كما تظهر أيضا، أن العوالم المتخيلة قائمة على إستراتيجية مضبوطة، تنوع الأدوات وتلون الحالات، لتمنح للعمل الروائي بعده الفني.
لم يكن استدعاء 'السعيد بوطاجين' للترسيمة العاملية مجرد تطيق آلي لإجراءات أثبتت فاعليتها فحسب، وإنما سعى إلى إخراجها من ميكانيكيتها التي تسوي بين الجميل والرديء، وبين العادي والمتميز. فقد أضفى على قراءتها مسحة فنية، لم يغد من خلالها 'عبد الحميد بن هدوقة' نسخة مكررة، لنماذج روائية قوربت بالإجراء نفسه. فالباحث لم يكن يسعى لإبراز التطابق وإنما التفرد. وقد بدا 'عبد الحميد بن هدوقة' كذلك.
4- البنية الزمنية في 'غدا يوم جديد':
تستحضر "نبيلة زويش" 34 في تحديدها للبنية الزمنية، في رواية 'غدا يوم جديد' لأقوال "بول ريكور". لتثبت أن أي عمل سردي لا يمكن أن يكون إلا زمنيا. وانطلاقا من ذلك، رأت أن رواية 'غدا يوم جديد' تشتغل أساس على عنصر الزمن. فمسعودة ((أنطقها زمن طارئ وعاشت حياتها في زمن صعب، وهي تفكر في كتابة قصة حياتها لتخطط لزمن لاحق))35. وقد بدا لها العنوان مجسدا لهذه الإشكالية (غدا – يوم – جديد). والملاحظة نفسها حملتها المقطوعة الشعرية التي تصدرت الرواية، فهي عندها ((قصة متقدمة تساهم في الكشف عن مجرة الحكاية، إذ ستؤكد للقارئ أنها تصوغ تجربة عنصرها الرئيسي الزمن))36. وتقودها مقولة 'جنيت' "زمن الحكي وزمن الحكاية" إلى تحديد ثلاثة مقاطع تتمظهر فيها البنية الزمنية:
- الزمن الذي جرت فيه الأحداث فعلا "صبا مسعودة وتنقلاتها بين القرية والمدينة".
- الزمن الذي سردت فيه 'مسعودة' قصتها للكاتب.
- الزمن الذي سرد فيه الكاتب قصة 'مسعودة'، ما علمه منها وما لم يعلم.
وتبرر هذا التنوع، بعدم استقرار النص على سارد واحد37. وكأن النصوص التي تحوي ساردا واحدا، لا تحمل ذلك التنوع.
أدى التنوع إلى تشكل بنية زمنية مكثفة في المفارقات الزمنية. خاصة اللواحق، دون إغفال بعض أشكال السوابق، المرتبطة أساسا بتوجيهات 'مسعودة' للكاتب، قدمت الباحثة نماذج نصية عنها.
لاشك أن رصد البنية الزمنية، في رواية تقيم بناءها على الزمن ذاته، يستدعي كثيرا من التمحيص والاستفاضة. لم يسمح مجال الدراسة وظروفها، إمكانية فعل ذلك. واكتفت بالإشارة العابرة وإصدار الأحكام من خلال نموذج أو نموذجين، يمثل البنيات الكبرى ولا يدقق في الصغرى، على الرغم من ارتباطهما الوثيق.
ولعل السبب نفسه، هو الذي يبرر استدعاء مقولات بعينها ((ريكور، جنيت))، لا تعرف من خلالها إجراء، ولا تبرز فاعليته، وإنما لتبرز جدوى البحث في زمن الأشكال السردية. كما يبرر الطابع التقني للدراسة، بعيدا عن الدلالات، أو السعي إلى إبراز نوع الكتابة التي يتمظهر العمل من خلالها. ولا تكفي هنا عبارات الإعجاب ((غدا يوم جديد من أجمل النصوص))38. ولا يمكن أيضا الاستناد على عفوية بعض النماذج لإقصائها من التحليل 39. فلا شيء عفوي في النص كما قال 'رولان بارث'. ثم إن التحديد الزمني لا يرتبط دائما بالإشارة إلى الزمن صراحة.
ومهما يكن فالدراسة اقتصرت على رصد الأشكال العامة للبنية الزمنية في 'غدا يوم جديد' التي تحتاج إلى بحث مفصل لم يسمح مقام الدراسة بإنجازه.
تلك هي الدراسة التي خصت 'غدا يوم جديد' تعددت لتشير إلى قابلية الرواية، لاحتواء قراءات مختلفة على تعدد آلياتها، ولحاجتها أيضا لدراسات أطول وأعمق. فقد أجمع الدارسون على تميزها عن باقي روايات "بن هدوقة" وعلى استحداثه لطريقة جديدة في الكتابة، منعه القدر أن تتخذ أبعادا أخرى. ولكن هكذا العباقرة يرحلون وهم في أوج عطائهم.
الإحالات:
- محمد الدغومي: نقد النقد وتنظيرات النقد العربي المعاصر، منشورات كلية الآداب، الرباط، مطبعة النجاح، الطبعة الأولى، المغرب، 1999، ص52.
- يوسف لطرش: دلالة العنوان في رواية 'غدا يوم جديد' لعبد الحميد بن هدوقة، ضمن القراءات ودراسات في أدب عبد الحميد بن هدوقة، مجموع محاضرات الملتقى الوطني الثاني، وزارة الثقافة – ولاية برج بوعريريج – الجزائر، نوفمبر، 1999، ص 199.
- المرجع السابق والصفحة نفسها.
- المرجع السابق والصفحة نفسها.
- المرجع نفسه ص ص 190/191.
- Gérard Genette, seuils-ed : seuil, 1987, p 71
- يوسف لطرش: دلالة العنوان في رواية 'غدا يوم جديد' لعبد الحميد بن هدوقة، ص 191.
- Gérard Genette, seuils
- دراسة تحليلية لرواية 'غدا يوم جديد'، ضمن القراءات ودراسات في أدب عبد الحميد بن هدوقة، مجموع محاضرات الملتقى الوطني الثاني، وزارة الثقافة – ولاية برج بوعريريج – الجزائر، نوفمبر، 1999.
- المرجع نفسه ص 169.
- المرجع نفسه ص 170.
- Phillippe Hamon : pour un statut sémiologique du personnage in poétique du récit, ed : seuil, paris, 1977, p 117.
- عبد العالي بشير: دراسة تحليلية لرواية 'غدا يوم جديد'، ص 173.
- Phillippe Hamon : texte et idiologie, ed : Quadrige /PUF, paris, 1984, pp 44/45.
- Wolfgang Kayser : qui raconte le roman? In poétique du récit, ed : seuil, paris, 1977, p 71.
- عبد العالي بشير: دراسة تحليلية لرواية 'غدا يوم جديد'، ص 09.
- عبد الحميد بن هدوقة: غدا يوم جديد، منشورات الأندلس، الجزائر، 1992، ص 09.
- الرواية: ص 09/10.
- الرواية: ص 11.
- الرواية: ص 10.
- الرواية: ص 15.
- الرواية: ص 19.
- الرواية: ص 210.
- الرواية: ص 267.
- الاشتغال العاملي دراسة سيميائية "غدا يوم جديد" لابن هدوقة عينة، منشورات الاختلاف، ط1، الجزائر أكتوبر 2000.
- المرجع السابق: ص08.
- المرجع نفسه والصفحة نفسها.
- المرجع نفسه ص ص 8/9
- المرجع نفسه ص ص 18/19
- المرجع نفسه ص 17.
- ينظر مثلا: سعيد بنكراد: السيميائية السردية، منشورات الزمن، المغرب، ص 83.
- عبد الفتاح الحجمري: التخييل وبناء الخطاب في الرواية العربية، شركة النشر والتوزيع – المدارس، ط: الأولى – الدار البيضاء – المغرب، 2002، ص 31.
- السعيد بوطاجين: الاشتغال العاملي، ص 21.
- البنية الزمنية في رواية غدا يوم جديد، ضمن كتاب الملتقى الخامس: عبد الحميد بن هدوقة أعمال وبحوث، وزارة الثقافة والاتصال، مديرية الثقافة لولاية برج بوعريريج، الجزائر، 2002.
- نبيلة زويش: البنية الزمنية في رواية غدا يوم جديد، ص 21.
- المرجع السابق، ص22.
- المرجع السابق، ص25.
- المرجع السابق، ص 30.
- المرجع السابق، ص 29.