عبد الحميد بن هدوقة والفن القصصي

بقلم الاستاذ ابراهيم عباس
إن الرجال العظماء هم أولئك الذين يعرفون كيف يصنعون قوتهم بمفرد إرادتهم، هم أولئك الذين يجابهون ظلم الناس لهم، وتعسفهم، بإرادة لا تلين، وصبر لا ينفذ، ويتصدون لطغيان الذات ويتنكرون لها، كما يحتقرون مآمرات الحاقدين، بانجازاتهم التي لا تنضب ولا تفنى بفناء أجسادهم.
الشهيد الراحل عبد الحميد بن هدوقة أحد هؤلاء، لقد جابه الرجل ظلم المنتقدين المتشدقين القاعدين الذين لا يعملون، ويؤذيهم أن يتفوق الاخرون. لقد صمد الرجل لكل تلك الفعال وقاوم بإرادة تدك الجبال، وبعزيمة لا تلين ولا تهتز، قاوم المكائد بالعمل الجاد، والإخلاص للماضي المقدس الذي عاشه بكل دقائق بمعية شعبه الادبي.
لقد قابل الاديب عبد الحميد بن هدوقة الجحود والنكران، بالعطاء السخي وبالتفاني في حب الوطن الى النخاع. دفعه ذلك الاحساس الى تخليد الذات المكبلة، وتتبع مراحل ثورتها، بإرادة قوية، وفكر واع وبصر ثاقب. يضحي ولا ينظر المقابل من أحد، لأنه يؤمن أن ما يخلد الرجال أبد الدهر هو التنكر للذات المفردة والذوبان في الذات الجمعية، هو تفتيت الذات وتوزيعها على ذوات الواقع الوطني، دون أن ينعزل عن الواقع الإنساني، الذي لا تحده حدود جغرافية بما لها من دلالات وأبعاد ومواقف.
إنه كان يؤمن بأن الكتابة في الحقيقة ليست تشبيها بريئا، ولا هي مراء، بل هي نضج فكري ورؤية ثاقبة تتولد عن الإنسان عن طريق معاناة شاقة، وتجارب مريرة، مؤلمة.
تلك هي شخصية الاديب عبد الحميد بن هدوقة الذي نحن بصدد قراءة بعض أعماله في هذه العجالة إكراما لذكرى وفاة هذا الرجل العظيم أولا، ولكرم الدعوة الموجهة إلينا من طرف ولاية البرج المضيافة.
في هذه المداخلة محاولة لاستشراف آفاق القصة القصيرة عند عبد الحميد بن هدوقة الذي يعد من الادباء المخضرمين، لكنه يظل أديبا معاصرا عرف حق المعرفة ما يمليه عليه واجب المعاصرة، (الثورة، والاستقلال) من مواكبة ورصد وتوثيق لكل أحداث تلك المراحل التي كتب له معايشتها.
وإذا كانت المحاولات الجادة لكتابة القصة القصيرة لديه، قد بدأت مع نهاية الثورة، حتى وإن ظلت حبيسة التقليد، قد لا يرقى إلى فن القصة القصيرة بالمعنى الفني المتعارف عليه (ظلال جزائرية) فهي تدخل في إطار القصة بمعناها العام. كما أن واقعيته لا يمكن البحث عنها إلا في تلك الاحاسيس والمشاعر التي تصور مشاهد حية مؤلمة قاسية الأثر، نابعة من قساوة الواقع الموبوء برائحة المستعمر الغاشم.
إلا أن هذه المرحلة الابداعية لدى الاديب لم تدم طويلا وسرعان ما أشرقت علينا المجموعة الثانية (الاشعة السبعة) حاملة بوادر النضج الفني وعمق الرؤية والبعد الدلالي، تضم هذه المجموعة أحد عشر قصة تحمل تواريخ متباعدة تمتد على مساحة الثورة التحريرية (على أن هذه الفترة الزمانية التي تغطيها هذه المجموعة القصصية، تعتبر قصيرة في أعمار الشعوب والآداب. لكن الادب الجزائري الحديث، استطاع أن يقف أثناءها وقوف الند الى جانب شقيقه العربي، ويمتد يده، باعتزاز الى الادب العالمي، لبناء إنسان جديد لا يستغل ولا يستغل وإنسانية مثلى، تؤمن بالكرامة والحرية والمساواة بين جميع بني الانسان)(1) هكذا يحدد الاديب الغاية من هذه القصص.
وفيها جميعا يلجأ من الناحية الفنية، الى أسلوب السرد في مواصفاته الشائعة: الاسترسال والاستطراد ووصف البيئة، والميل الى العرض وتفسير الحالة الانسانية.
ويلاحظ أيضا تعمد الكاتب لتطوير أدواته في هذا الإطار: المفارقة والتجنيح، والتطوير جلي بالمقارنة بالمجموعة الاولى.
ولعل هذا ما جعل الدارسين والمتتبعين لأعماله يضعونه في مقدمة المبدعين، بل يقلدونه وسام الريادة، إذ يعد من القلائل الذين تصدوا للإبداع في هذا المجال في وقت مبكر. وله من الاعمال ما غطى المراحل الثلاثة لحركة تطور هذا الفن.
غطت أعمال ما غطى المراحل الاولى لظهور القصة القصيرة الفنية، والتي امتدت من بدايات الثورة الى فجر الاستقلال. وعرفت تفاوتا موضوعيا وفنيا فيما بينها، حيث تراوحت بين التجنيح في الحدث وتفاصيله، بقصد تنشيط الخيال، مما جعل هذه القصص في النهاية عالما يكاد يكون مغلقا، ذاتي، وين احتدام العلاقة التي يخلقها تضافر العناصر الفنية، لا الاكتفاء باستعراض منطق المفارقة، وتعميم لهجة الانتقاذ فقط كما في المجموعة الاولى، ولكن التصدي لمواضعات الناس وإدانة التمايز الطبقي والدفاع عن عدالة غائبة لا أمل بدونها للإنسان.
والمرحلة الثانية وتمتد من فجر الاستقلال الى مطلع السبعينيات، أين تحول الكاتب عن كتابة القصة ال كتابة الرواية(2).
أما المرحلة الثالثة؛ والتي تبدأ من مطلع السبعينيات الى وفاته. وقد ترك خلال هذه المرحلة الطويلة تراثا قصصيا كبيرا قياسا بالحركة الادبية الجزائرية في مجال القصة والرواية. إذ ترك ثلاثة مجموعات قصصية؛ ظلال جزائرية، الاشعة السبعة، الكاتب وقصص أخرى. وخمسة روايات(3)
كما يعد عبد الحميد بن هدوقة أحد المجددين في مجال الفن القصصي، لإطلاعه على الروائع العالمية في هذا المجال، وتأثره بأقطاب الادب العالمي والعربي، ولثقافته المزدوجة باللغتين العربية والفرنسية. ويصنفه الدارسون ضمن قائمة الكتاب الواقعيين (4) لارتباطه الشديد في كل أعماله الابداعية بقضايا وطنه وأمته، وهذا تطور نوعي لدى الاديب من معالجة للحالة الفردية الى تركيبية الوضع الانساني المعقد للجماعة الفقيرة، التي التزم بمشكلاتها، وهذه التركيبة بحد ذاتها موضوع اعتبار وتقدير. زيادة عن امتلاك القصة لموضوعها ضمن رؤية انسانية صريحة.
وحرصه، بل إلحاحه على الموضوع، يستشير في المتلقي خبايا خبرته ويستعرضه ضمن مدارك التاريخ، أي مباشرة غاية القصة القصيرة إزاء ما يدور في الواقع ضمانا لتحقيق وظيفتها، وفي ذلك خروجا عن زمن القصة نفسه واللجوء الى ما يسعف الموضوع عبر تراكم الهموم والشواق الساخنة في من يكتب عنهم.
ولا يمكن أن نفهم أسباب هذا التوجه إلا من خلال فهم الاتجاه العام للأدب الجزائري بمراحله المختلفة – وخلال الفترة التي عاشها الاديب – حيث اعتمدت الواقعية مذهبا واتجاها فنيا أطر الادب الجزائري – وللملاحظة فقط – إن أنضج ما كتب عن الثورة جسدته مرحلة ما بعد الثورة أي مرحلة الاستقلال.
وقد حاول الاديب عبد الحميد استقطاب الواقع الجزائري بكل ما يعج به من متغيرات (اجتماعية سياسية ثقافية واقتصادية) من ناحية، ومواكبة الادب العربي من ناحية أخرى، فقد كان يحز في نفسه ذلك التخلف الذي يعانيه الادب الجزائري في مجال القصة والرواية والمسرح، بنفس المستوى الذي كان يحز في قلبه ما يعانيه الشعب الجزائري، من ويلات الاستعمار، كما كان لبعده عن الديار أثره الكبير، فأبدع قصصا كثيرة في هذا المجال، كما واكب بقلمه الحداث المؤلمة التي كان يجتازها أشقاؤه بالبلد الشقيق تونس، يقول الاديب "لقد عشت هذه الاحداث من الداخل، كما عاشها الشعب التونسي، وأحسست بها كما أحسها رجل الشعب البسيط، باعتبارها قضية تحرير قبل كل شيء. وعايشت رد الفعل الذي أحدثته في أوساط الشعب الجزائري من عذاب وآلام ومحن، وهو يخوض حرب التحرير...فجمع قصص تعالج مواضيع جزائرية وتونسية في مجموعة واحدة لكتاب جزائري إذن، إن عبر عن شيء فإنما يعبر بالدرجة الاولى على أن وحدة العروبة، سواء على المستوى الاقليمي أو مستوى الوطن العربي الكامل، هي أمر مصيري" (5)
ونشير بذلك أعمالا قصصية كثيرة هناك، حيث رأت النور ثاني مجموعة قصصية؛ الاشعة السبعة سنة 1961 حيث أعيد طبعها بالجزائر المستقلة سنة 1962 سبقتها مجموعة ظلال جزائرية، والتي طبعت ونشرت ببيروت سنة 1960. ثم المجموعة الثالثة "الكتاب وقصص أخرى" سنة 1972. كما نشر الاديب قصصا متنوعة في مجلة "الشهاب" التي كانت تصدرها وزارة الداخلية للحكومة الجزائرية المؤقتة، كما تشير اليه مقدمة الطبعة الثانية لمجموعة "الاشعة السبعة".
وبذلك يكون الاديب وبعض رفقائه في الدرب والآلام وقد قدموا للأدباء الشباب دعما معنويا وفنيا عند هذا الموضوع البيوغرافي، لأن الاديب – في اعتقادنا – لم يعد نكرة بل يكنها مطلقا على الساحة الادبية الجزائرية والمغاربية، والعالمية، إذا ما علمنا أن أكثر أعماله ترجمت الى أزيد من أحد عشر لغة أجنبية (الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الروسية، البولونية، الهولندية، التشيكية، الصربية، السلوفينية، الصينية، الاسبانية) (6)
وكما سبقت الاشارة الى ذلك، صنف الدارسون عبد الحميد بن هدوقة ضمن كتاب الاتجاه الواقعي، وذلك لاهتمامه والتزامه بقضايا الوطن اليومية؛ وواقعيته هذه يمكن تقسيمها الى قسمين، وفق التلاحق الزمني وإطراد العمل الفني لديه، واقعية تقليدية في بداياتها الاولى وبخاصة معظم المجموعة الاولى وقصص المجموعة الثانية ونذكر منها على سبيل المثال: "ظلال (7) و"عاشقة القيثار"، "ثمن المهر" و"عمري الحقيقي" (8) وقد صنف بعض الدارسين هذه القصص وغيرها ضمن الاتجاه الرومانسي (9)، إلا أننا نرى أنها لا تخرج عن الواقعية التقليدية لأنها لا تعدو أن تكون تصويرا لأحداث واقعية بطريقة تسجيلية، يغلب عليها في بعض الاحيان الوصف والتهويات الخالية والإطناب حول الذكريات (10) والماضي المكبل بالأحزان والأسى. ثم تلت هذه الأعمال، أعمالا أخرى تتسم بالنضج الفني من الناحية الشكلية (الفنية) واتسمت بواقعية فنية؛ تارة نقدية تشاؤمية لا تكاد تتخلص من الاجواء الرومانسية، وتارة أخرى واقعية تفاؤلية (واقعية اشتراكية).
والأديب في كل ذلك لم يشذ عن المسار الادبي العربي عموما والجزائري على وجه الخصوص، فارتباطه بواقع مجتمعه المتأزم جعل قضايا هذا المجتمع وواقعه مادة خام ينحت منها أعماله فيصور الاوضاع المزرية التي يعاني منها الفرد كما المجتمع، ويعبر عن الظروف القاسية، والتفاوت الطبقي، وهو في كل ذلك يحاول أن يكون واقعيا، حتى وإن اختلفت مستويات الطرح والمعالجة، بين واقعية عادية ترصد الحياة، ويغلب عليها الحياد، فلا تحسم برأي (المغترب، الاغنية اللعينة، الاغنية القديمة (11)، ثمن المهر) (12).
وواقعية تنحو الاشارة اليه هنا أن أهم ما قام به الاديب في هذه المرحلة – وعلى غرار زملائه الطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة عبد الله الركيبي، زهور ونيسي، أبو العيد دودو – هو تحديد لملامح القصة الجزائرية، وترسيخ جذورها في الساحة الادبية من ناحية – وبعيدا عن كل مبالغة، يعتبر ذلك عملا عظيما في حد ذاته – من ناحية أخرى أي من الناحية الموضوعية، أرخت قصصا لقضايا مشتركة بين المجتمعين الشقيقين (تونس والجزائر) ولم يخالف مستوى التأثر في تلك الأعمال، لدى الأديب؛ بل كان بدون تلك الاحداث دون تمييز وبدرجة كبيرة من التأثر. لإيمانه الراسخ بوحدة الصبر وحتمية الوحدة.
إذا، لقد أسدى الاتجاه الواقعي – في مرحلتيه – للأديب خدمات جليلة ولفن القصة أيضا. حيث استفاد الاديب من تاريخ بلاده، ومن زخم الثورة، والوضع العام للمجتمع الجزائري، فعالج ركام السلبيات التي ورثها عن التقاليد البرجوازية الفرنسية.
كما استفاد من متناقضات مرحلة البناء والتشييد التي أعقبت الاستقلال، وإن كانت الخلفية الفكرية لديه كثيرا ما تدفعه الى توجيه الاتهام للمجتمع، وكأن هذا المجتمع هو الذي اختار لنفسه مستقبل البؤس، والوضع السيء، والاستغلال، ويعيد بعض الدارسين ذلك الى كون الاديب لم يستطع أن يحدث قطيعة فعلية مع الحس الرومانسي، فكثيرا ما نجده يتحول من ناقد واع بمشاكل المجتمع وهمومه، الى مجرد مشاهد أصيب بخيبة أمل، كما جاء في قصة (الفراغ) وكذلك (الاغنية اللعينة).
نقول ذلك وإن كنا ندرك أن الواقعية النقدية مذهبا أدبيا لا ينفصل عن غيره من المذاهب الاخرى كما يقول جروج لوكاتش: "إذا نظرنا الى الواقعية على أنها مذهب وجب علينا أن ندرك أنها وغيرها من المذاهب الادبية لا يستقل بعضها عن بعض تماما، فالمذاهب الادبية وجدت متداخلة يقوم كل واحد منها على أنقاض الأخرى، وقد ينمو من طيات المذهب السابق له..."(13)
وإذا كان هذا الاتجاه قد وجد امتداده بين تلك التناقضات والمواجهات اليومية للسلبيات التي تعرقل مسيرة الثورة بالأمس والبناء والتشييد بعد ذلك، فإنه يجد امتداده الايديولوجي عند عبد الحميد بن هدوقة عبر اقترانه بالوعي الاجتماعي وارتباطه بالحركة الاجتماعية عامة. هذه الحركة التي عمقت الايمان بالطبقات الشعبية وهذا ما نجده يتجلى بشكل أكثر وضوحا في النقلة الواقعية الثانية لدى الأديب؛ أي في الاتجاه الواقعي الاشتراكي الذي هو – في الواقع – انتماء حقيقي للتركيبة الايديولوجية التي قامت عليها أهداف الثورة الجزائرية، وهذا ما ساعد هلى وضوح الرؤية الفكرية وتماسكها في أعمال الاديب الابداعية، قصة ورواية ومسرحية والتي واكب بها مرحلة الاستقلال.
لقد ظلت هذه الاعمال تحمل في ثناياها حلما جماعيا بالتغيير، ورفع الستار على مناطق التعاسة البشرية، وعلى مساوئ الماضي، المتمثل في قوى الشر والطغيان والنفوس الجشعة التي لم تترك مجالا لهذا الحلم أن ينمو بشكل طبيعي، لينتج ثمارا طالما انتظرها المقهورون. كان عبد الحميد بن هدوقة ورفقاؤه يرعونها بدمائهم ومشاعرهم وسعادتهم.
وإذا كانت القصة عنده في بدايتها عكفت على دراسة العلاقات بين الشخصية والمجتمع ومصيرها في نزاعها بين واقعها، وما تبع ذلك من حماس واندفاع وطابع التسرع، والتعامل مع الشكل الظاهري للمشكلة فإن الامر نجده قد اختلف مع المرحلة الواقعية الاشتراكية وخاصة في أعماله الروائية.
لقد استفاد الاديب كثيرا من تجربته الاولى، وتتبع أخطائه الفنية والإيديولوجية كان لهذه الاستفادة أثرها البالغ في مسار القصة الجزائرية بشكل واسع مع هذه المرحلة، فصار بذلك معلما فنيا اقتدى به كثير من كتاب هذه المرحلة، حيث طرح في أعماله البديل الثوري للمجتمع الذي يمنع وجود العلاقات الاجتماعية الجائرة. والتي سمحت لشخوص قصص أمثال المرحوم عمال بلحسن والعيد بن عروس، وواسيني الأعرج، حرز الله محمد الصالح وغيرهم أن تعبر عن نفسها بعيدا عن كل التهويمات سواء كانت خيالية أو ايديولوجية.
ويمكننا تصنيف أعمال بن هدوقة وفق الموضوعات المعالجة على النحو التالي:
1-موضوع الثورة وهذه الاعمال تتوزع على: أ: موضوعات كتبها أيام الثورة
ب: موضوعات كتبها بعد الاستقلال
2-موضوعات اجتماعية: منها ما كتبه وهو يعيش في القطر التونسي وعالج فيها مشاكل المجتمع التونسي، كما عالج مشاكل المجتمع الجزائري، صور فيها أثر الحرمان على الافراد في الريف البائس والمدينة القاهرة، وما ينجر عن ذلك من أزمات نفسية واضطرابات اجتماعية، وما كان لتلك الاضطرابات من آثار مدمرة للحياة الاسرية.
3-نقد الاختلالات السياسية ومنهجية التسيير بعد الثورة في (تونس والجزائر).
4-موضوعات فلسفية (قصة: الانسان).
5-القصة السيرة (قصة: الكاتب).
وفي كل هذه الموضوعات ينصرف الاديب انصرافا كليا الى الواقع يغرف منه مشكلاته، فيعالج تجارب تنحت مادتها من حياة الفراء وهمومهم، والملفت للانتباه أن فضاء هذه الاعمال لا يغادر الريف وبخاصة أيام الثورة، وحتى البدايات الاولى للاستقلال والأمر يبدو طبيعيا إذا علمنا أن ما يقارب ثلثي سكان الجزائر يومها يقطنون الارياف النائية والمناطق الجبلية القاسية التي تعشعش فيها جميع أنواع الأشقاء، كما أن الثلة القليلة من المثقفين يومها خرجت من صلب الريف والكاتب أحدهم، ولهذا لا نعجب أن تكون مرجعيته الاساسية ومنبعه المعرفي، هو تلك الثقافة الريفية الصافية، في لغتها وحتى خيالها. فهي المادة الخام التي ينحت منها الاديب تلك القصص، في الوديان والسهول والجبال والتضاريس الصعبة والمناخ القاسي، "فتاة ريفية شبت في قرية تطوقها الجبال. كالشجرة مسها الحر والقر، في أيام ظهور الشمس وبزوغ القمر كيف يمكنها أن تتصور أن بلادها لم تخلق وهي تحيا بين أحضانها، وتمشي فوق أرضها؟ لكن ماذا يهمها أن تفهم؟ ...إنها ترى أشجار اللوز وقد تلحفت بلحاف أبيض شفاف من الزهور الصغيرة الجميلة، وتسمع الاغاني العذبة التي لا تنتهي..."(14)
نلاحظ هنا أن الوصف لا يحرك دخيلة المتلقي أو يندغم بها، ولكنه يسهم في إضاءة الصور الادبية لرجل يتألم لواقعه، ويئن تحت وطأة الحرمان وشظف العيش.
لا شك أن عبد الحميد موهوب ويتمتع بحساسية ثقافية أهلته لخوض موضوعاته الاجتماعية، إلا أن ضغط ذاكرته يجعل من الصعوبة بمكان انتقاله من توتر الماضي الى وحي المستقبل، يقول في مطلع قصته "ابن الصحراء": "لا.لا أستطيع أن أنام في بيت من حجر. لا أطيق أن أنام في الظلام، وأستيقظ في الظلام. بيت لا ترى من خلاء السماء، لم يبن لحي وأنا لست ميتا. يجب أن أرى السماء...رجل من الصحراء لا يكره الموت بقدر ما يكره الظلام، ولا يؤلمه العذاب مثلما يؤلمه القيد، ولا يضيق بالسير حافيا ظامئا على العقارب والنار، كما يضيق بالحدود والأوامر، يفضل الحرية على الماء.
رضعت عيناه النجوم وارتوى بنورها قبل أن يرتوي بحليب أمه، وشرب الحرية في أحضان الصحراء الحنون قبل أن يعرف اسم الماء. يختار أن ينام في خيمة تطوقها الافاعي والعقارب، أو في معركة تحوط بها المدافع والألغام على أن ينام في بيت من حجر. لا شعاع يقتحمه ولا نسمة تتسلل إليه" (14).
نعتقد أن هذه الصورة الادبية هي أقرب الى مقاطع من سيرة ذاتية، وإن كان حرص الاديب على نشاط الذاكرة وقوة المجاز جعلها تبدو في النهاية مرثاة لحياة المقهورين، كانت لهم أحلام الحياة كبيرة فتبددت، وخابت بسبب قهر الاستعمار، وانقلاب الحال. وقد حرص الاديب عبد الحميد على تكريس هذه المرثاة في معظم قصص هذه المجموعة، والمجموعة التالية "الكتاب وقصص أخرى"، حتى وإن غلب عليه نوعا من الجانب الاجتماعي على قصص هذه المجموعة، والتي جاءت على شكل مقاطع من خطاب طويل ناقم على الاوضاع السائدة، مفعم بروح الأمل، يفضح المظالم ويدعو للعدالة.
على أن قصصه الاخيرة، تحتوي جميعا على اختمار الموقف، ويقرأ المرء في هذه القصص حوارا مطولا للفقراء والمعوزين وأصحاب الرغبات المكبوتة، وتغلب على هذا الحوار صفات المناجاة المؤسية، وسرد يطول في بعض الاحيان أكثر مما ينبغي لقصة قصيرة، والأديب يريد من وراء كل ذلك أن تستوعب الظرف التاريخي.
يمكننا الآن الوقوف عند بعض الاشكال القصصية، أو المتميز منها عند الاديب عبد الحميد بن هدوقة كـ: قصة الحدث، وقصة الشخصية.
أ- قصة الحدث:
من المعروف أن الحدث في القصة يخدم الغرض الذي يرمي اليه الكاتب من تأليف قصته. فبقدر ما يساعد على تحقيق وحدة الانطباع التي لابد من تحقيقها في العمل الجيد، بقدر ما يكون حدثا فنيا. فالحدث عنصر هام من عناصر القصة القصيرة، لكنه لا يمكن أن يكون كل شيء فيها، لأن المؤلف لو ركز عليه وحده لتحولت القصة الى مجرد خبر، مما يؤثر تأثيرا كبيرا في الانطباع لدى القارئ.
ولذا كان الاهتمام ببقية عناصر القصة أمرا ضروريا، كاهتمام الاديب بالشخصية (المحرك الفعال للحدث) وعدم إغفالها تماما كإبراز جوانبها النفسية، أو موقف من مواقفها، وكل ما يساعد على بلورة الحدث وإحداث الانطباع (15).
والمقصود بقصة الحدث هنا، تلك القصة التي تركز على الحدث عرضا وتقديما وتعقيدا وحلا. ويأتي الاهتمام بالحدث عند أديبنا عبد الحميد بن هدوقة في المقام الاول، إن لم نقل أن قصص الحدث تمثل القسط الاوفر من أعماله القصصية، وهذا راجع للوضع العام الذي يشغل بال الأديب، والأحداث الخطيرة التي كان يمر بها المجتمع الجزائري وهي أحداث – حسب اعتقادنا – تستدعي العمل الجماعي لتغيير الواقع، وتنأى عن البطولات الفردية والشخصية، ونأخذ على سبيل المثال في هذا المقام "ثمن المهر" من مجموعة الاشعة السبعة، وهي قصة تدخل ضمن المحور الثاني من التقسيم السابق حسب الموضوعات. تصور ظاهرة اجتماعية أعاقت استمرار الحياة بشكل عادي مما اضطر كثيرا من شبابنا الى الهجرة والترحال المستمر من أجل ضمان العيش وقليل من الشرف، وخلال هذه المغامرات يجابه المهاجر أحداثا وأهوالا في غربته.
"عابد" "شاب من عائلة سيئة الحال وكان يحب زليخة حبا كأعمق ما يكون الحب، ولكن أبو زليخة اشترط في المهر، فلم تبق هناك طريق يسلكها للحصول عليه والفوز بزليخة إلا طريق البحر وهكذا ذهب الى فرنسا باحثا عن المهر في أحد المعامل الفرنسية" (16).
وبدلا من أن يصل الى غايته بعد أن رضي بكل أشكال القساوة والعذاب والمهانة باغتته علة السل ولم تمهله الى اكتمال سعادته، فلم ياء القدر إلا أن يحول بينه وبين زليخة فحضر المهر وغاب عابد الى الابد.
وتشبه قصة "منتصف النهار"(17) القصة السابقة من حيث الموضوع.
حميد "شاب تونسي مهاجر عاد الى تونس بعد فترة طويلة قضاها في الغربة كما ذهب فقيرا معوزا، يجر وراءه زوجة فرنسية حاولت بدورها أن تبقيه الى جانبها في فرنسا، لتحافظ بذلك على كيانها ومكسبها ولا تضيع بذلك المكسب ولا الانتماء إلا أنها عندما أجبرت على الخيار بين مكاسبها وأصلها والجمع بين الشيئين، فضلت الخيار الثاني، وفرت عائدة الى وطنها دون علم منه. هو الذي ظن أنه كسب شيئا من غربته وشقائه فأصبح: "يرى كل ماضيه مسترسلا في خط زماني له نهاية هي يوم الاحد 22 جويلية في الساعة الحادية عشر عندما رجع الى داره، بعد أن هجرها ثلاثة أيام بلياليها، من أجل تحرير بنزرت فوجدها أنقاضا وركاما"(18) "فرت من الدار... خشيت أن يلحقها العار إن وجدها أبناء عمها في دار تونسية" (19).
ففكر ثم قرر أنها "لن تعود ولن أسمح لها بالعودة إليه، سأعيد بناءه من الاساس وأجعل بابه شرقيا، هي التي أرادت في الماضي أن يكون الباب غربيا في اتجاه البحر ولكن في هذه المرة لن يتجه باب بيت أسكنه الى الغرب"(20).
احتفلت القصتان بالحدث بطريقة تقابلية بين مواقف الشخصيات، فالأديب يقابل بين موقفين ليصل الى المغزى والهدف المنشود من القصة، فالسعادة والهناء يقابلهما الشقاء والتعب والغربة، في زمن الاستعمار. وما دام المر أو الدافع يظل قائما لابد أن تكون النهاية تراجيدية مؤلمة، وهو نوع من الحث على المقاومة ورفض الواقع ورفع التحدي. الشاب "عابد" أراد أن يتزوج وهو عمل إيجابي مثمر، إلا أن واقع الجزائر المزري الذي فرضه المستعمر الغاشم، يقف حاجزا أمام تحقيق هذه الرغبة مما يضطره الى ركب الصعب. لكن عنصر القهر كما هو هنا، فهو هناك أشد فيظل الهدف بعيد المنال بل مستحيلا.
والشاب حميدة التونسي اضطرته نفس الظروف الى الهجرة وحاول أن ينهي الامر الذي هاجر من أجله الشاب "عابد" هناك ويقصر الطريق الى الهدف، فتزوج هناك فتاة فرنسية وعاد الى بلدته بنزرت وقد حقق ما عجز عن تحقيقه الشاب عابد، ولكن الامور التي اضطرته الى الهجرة لم تتغير، فلا يمكن للسعادة أبدا أن تكون بجانب المقهور وعاد الشاب حميدة في نهاية المطاف من حيث انطلق من أول مرة. وفرت أسباب السعادة من بين يديه لأنها أصلا كانت وهما وسرابا واكتشف الحقيقة بل السر الابدي بأن: "ساكن الكراء الاجنبي في وطنه والمتزوج بأجنبية غريب بين أهله وذويه وقد عشت غريبا ما فيه الكفاية، ويجب أن أعيد بناء بيتي من الاساس مهما كلفني ذلك، وأحيا حرا، في بيتي" (21)
هكذا يرفع الحدث من درجة التأزم لدى الفرد. فيصل الى القرار السليم الذي يخرجه من دوامة البحث عن الحقيقة. وفي نفس السياق نجد قصة الصداقة...وهي كلها قصص كتبت على أيام الثورة، وعايش الاديب أحداثها عن كثب.
أما قصص الحدث التي كتبت على أيام الاستقلال فنجد قصة "الفلاح"(22) الذي حلم كثيرا بالسعادة بعد أن بدأت بوادر الخير تلوح من بعيد تضيء كوخه الحقير وتبشره بزوال زمن الجوع والفقر "نظر الفلاح مليا الى الحقل المكتظة سنابله محلولا أن يقدر كم يغله من صاع، ثم خاطب زوجته قائلا في اعتباط:
-مات قتلته هذه السنابل ! فردت زوجته سائلة في حيرة:
-من الذي مات ؟ ! فضحك ضحكة خفيفة والتفت اليها قائلا مطمئنا:
الجوع...الجوع هو الذي مات! لن نراه في هذه السنة. فقالت الزوجة ضاحكة وقد زالت عنها الحيرة: -ظننت أ أحد السكان مات" (23).
إلا أن ظروفه القاسية وقلة عتاده وحاجة أمثال هؤلاء الى اصلاح زراعي عاجل من أجل اقامة فلاحة عصرية منتجة، وقفت حاجزا دون اتمام الفرحة، وكمال السعادة عند هذا الفلاح الفقير وأسرته، لم ينعم ولو لوقت قصير فقط بالشبعة التي ظل يحلم بها أيام الاستعمار وهو في حماس حقير، وحتى بعد الاستقلال وهو ينعم بالحرية لأن: "الافق الغربي تراكمت عليه الغيوم. أخذت أشعة الشمس تصل الى الارض في اصفرار. بدأ الجو يثقل. الحرارة اليابسة أخذت تندي، الغيوم في الافق الغربي بدأت تتكثف، اللون الرمادي مال الى السواد.
الفلاح ينظر الى الافق الغربي، الزوجة تلمح على وجه زوجها علائم الحيرة فتتساءل:
-أظن أن هذه الغيوم تتحول الى مطر؟
-أخى ذلك إن سحب الغرب لا ترحم.
-اللهم احفظنا واحفظ فلاحتنا"(24).
وما هي إلا لحظات حتى "صار الحقل كله هشيما ملطخا بالطين. لم تبق فيه سنبلة قائمة، انتهى الصيف في يومه الاول وانتهى الامل وعاد الفلاح الى الخيمة خائر القوى يملأ الحزن نفسه والمرارة قلبه" (25).
هكذا يأخذ الكاتب القصة عن واقع وأحداث واقعية طالما جرت، في الواقع، فتتحول هنا وفي السياق الى منظومة متواليات فنية لعب الخيال فيها الحافز الدرامي ويمتاز بن هدوقة عن سواه من القصاصين بخصوبة خياله وفي قدرته على استحضار موضوعه وتنظيمه في سرد ايقاعي وتشكيلي في آن واحد.
ب- قصة الشخصية:
عندما نتحدث عن الشخصية تحت هذا المحور، لا نقصد بذلك فصلها عن الحدث "فمن البديهي أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها إلا وكان نتيجة لوجود شخص معين أو عدة أشخاص معينين، كما أن وجود شخص أو أشخاص معينين، يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة" (26) وعندما يعمد عبد الحميد بن هدوقة الى هذا النوع من القصص، فهو يهدف من خلالها الى التركيز على تلك الذوات المهزومة، المتألمة، الحالمة.
قد لا نخطئ إذا قلنا أن اهتمام عبد الحميد بن هدوقة بقصص الشخصية – حتى وإن كانت قليلة – يرتبط أساسا به كشخص، وقد لا نخطئ إذا قلنا أن الآلام التي عان منها عبد الحميد بن هدوقة على أيام الهجرة زمن الاستعمار وحتى بعد الاستقلال وعودته الى أرض الوطن،كل تلك الآلام كانت النبع الذي غرف منه والمادة الصلبة التي نحت منها شخوص أعماله. وقد لا نجدتفسيرا منطقيا لذلك إلا أننا نجزم بأنه كان يعاني من زلم نفسي داخلي ظل يلاحقه منذ بزوغ فجر الاستقلال، وهو شعور غامض لا يكاد يتجلى حتى وإن حاول الاديب في بعض الاحيان الاستعانة بالوصف الخارجي كما هو الشظان في قصة عزيزة في مجموعة "الكاتب وقصص أخرى" وكذا قصة "الانسان في نفس المجموعة وقصة الاوجه الخلفية" من مجموعة "الاشعة السبعة" إلا أنه سرعان ما يعود الى الغوص في أعماق ذاته المهزومة (27) حيث يفسح المجال لتأملات الشخصية الرئيسية بشكل يوحي بتأزم شديد، تأزم لا يبرره إلا شيء واحد هو أن الاديب أصيب بخيبة أمل كبيرة أحدثت شرخا عميقا في نفسه الى درجة أنه "أحس لأول مرة في حياته براحة وهو يفكر في الموت" (28) ما يحدث عادة في المأساة وهو تجريم الذات. يراجع الادب أحلامه في هذه القصة ويمعن في مواجهة ماضيه بحثا عن المعنى المأساوي في الحياة، مما جعل قصته في النهاية تأتي على شكل محاكمة صدر فيها الحكم بالانتحار، لكن الرافعة الاخيرة، وبعد غوص عميق في أغواره النفسية، ينتقل الحكم من الاعدام الى السجن الابدي في سراديب النفس الحالمة الحلم الابدي.
لغة عبد الحميد بن هدوقة
لقد سبق أن تحدثنا عن واقعية الاديب الملتزمة، وارتباطها بالمظهر العام للأدب الجزائري وواقعيته. ونرى أنه من الضروري الحديث عن لغته في ضوء ما سبق قوله.
حيث آثر الكاتب أن يختار شخصياته من الطبقات الكادحة كما حرص على أن تعبر عن أمالها وطموحاتها من مطلق واقعها.لكنه لم يلجأ الى غير اللغة العربية الفصحى وسيلة لاستنطاق شخصياته، حتى وإن كنا نلاحظ أن استخدامه للغة لم يكن مبتذلا سواء في الحوار أو السرد إلا نادرا عندما تشتد به العواطف الجياشة وبخاصة على أيام الثورة، ولا نجده يستعمل العامية إلا ما ندر، بل أنه يتجنبها إلا درجة التعسف في بعض الاحيان في بنية النص، ولعل هذا ما جعل بعض الدارسين يصنفون بعض قصصه ضمن الاتجاه الرومانسي لإغراقه في بعض الاحيان في الوصف الدقيق لجزئيات المكان وكان الشخصية – كما سبقت الاشارة الى ذلك آنفا – وكما يشير اليه هذا المقطع السردي على لسان الروائي "كان في يوم ما سيء الحال لا يملك بيتا ولا وطنا كان مع غيره ممن جمعت بينهم التعاسة من أبناء شمال افريقيا. وقضى غيرها بمدن أخرى من البلاد الفرنسية حيث في كل مدخنة من شمال افريقيا تدخن. وجهود تصهر بالنار، وأمال تحترق. وطوال غربته الطويلة لم ينس يوما أنه تونسي من شمال افريقيا"(29).
وكما اهتم بلغة السرد اهتم بلغة المونولوج لما هذه اللغة من دور كبير في تحديد داخلية الشخصية وسبر أغوارها "عدت من الغربة لأعيش غريبا لو تزوجت بتونسية لوجدتها هنا ميتة، ولكنت الآن أبكي عليها بكاء له معناه وله قيمته ولو كان أمرا. ولكنني عدت من الغربة لأعيش في الغربة...أليس الزواج بأجنبية غربة...وأخيرا فرت من الدار..."(30).
ويبلغ استعماله اللغة في الحوار حدا من الإتقان، حتى وإن كانت بعض القصص تشكو نقصا في هذا المجال إما لطول الحوار في القصة أو لتماديه في استعمال اللغة الفصحى المنتقاة بكثير من المبالغة،فنجد الحوار في قصة حلم الصيف يطول كثيرا فيصل الى صفحات متتالية: " – والدراهم يامرة؟ أتعتقدين أننا نستطيع أن نسافر الى بلاد الناس بثلاثمائة دينار للواحد.
-نستطيع كما استطاع الاخرون!
-الاخرون...الاخرون
-نعم أعمل كما يعمل جارك...
-السفر الى الخارج يحتاج الى إعداد مسبق إننا في الجزائر...
-والذين سافروا هل أعدوا لسفرهم ؟ سافرت في الليل هي وزوجها لم يسمع بهما أحد.
-فائزة وأبوها يستطيع أن يمدها بما تشاء من العملة الصعبة، ألا ترين كم يبدل من سيارة في الاسبوع الواحد؟ إن عددا كبيرا من العمال والتجار والمهاجرين لهم مصالح مشتركة معن أما نحن من أين؟
-العملة الصعبة...العملة الصعبة لماذا لا تعمل كالآخرين تبدل لأحد المهاجرين كما يفعل جميع الناس.
-أنت تريدين أن تكون كالآخرين وأنا لست كالآخرين.
....
-السفر لابد منه
-لم أطلب المستحيل السفر الى الخارج ولو ليوم واحد، ستمائة دينار نحن الاثنان نستطيع أن نقوم بها أسبوعا..."(31)
وهكذا يطول الحوار ويؤثر سلبا في الانطباع لدى القارئ وينكشف الخطاب بل يفقد أثره. وهذا النوع من القصص نجدها عند الاديب في المرحلة الاخيرة من عمره الابداعي، فهذه القصة كتبت على سبيل المثال في أواخر السبعينيات. أين هيمنته الواقعية الاشتراكية على الادب الجزائري، وهيمن الخطاب الايديولوجي على الفني ليس في القصة القصيرة فقط، أين أصبحت بعض هذه القصص لدى الادباء الشباب عبارة عن بوق للثورة الزراعية، والثورة الصناعية، وغابت الفنية، بل تعدتها حتى الى الاعمال الروائية.
إلا أن هذا لا يعني أن ننقص من القيمة الفنية لأعمال عبد الحميد بن هدوقة، بل أننا نقول بأن الاديب كان مدرسة، وهو كان يعي ذلك وعيا كاملا ولدليلنا على ذلك هو أن الاديب من القلائل الذين لم يصمتوا خلال المراحل الثلاث من عمر القصة القصير وزيادة العملية الابداعية وقيادة المسيرة وأحسن مثال على ذلك روايته الاخيرة "غدا يوم جديد" التي أبدعها والعلة تنخر جسده.
ومهما يكن من أمر فإن الاستاذ عبد الحميد بن هدوقة قد استغل عددا لا يستهان به من الادوات الفنية المتقدمة، وخاصة في أعماله المتأخرة (32) فعمد الى تدعيم الحدث الرئيسي في كثير من قصصه بأحداث أخرى ثانوية؛ أي قام بتنمية عدة أحداث في آن واحد وكان يلجأ في بعض الاحيان الى توظيف الاحداث الهامشية مثل الحركات التي تقوم بها بعض الحشرات والحيوانات في نسج أجواء معينة في تصوير الحركة النفسية الداخلية للشخصيات (33) فتبدو وكأنها في إيقاع خارجي لما يدور في باطن هذه الشخصيات.
ويحرص الكاتب في بعض قصصه على إقامة تفاعل عميق بين الاجواء الخارجية والمؤثرات الطبيعية وحركة الريح وبين الاجواء الداخلية للقصة (34) وكذلك فإن الكاتب يوظف الحوار الهامشي الخارج عن نطاق الاهتمام في إلقاء بعض الضوء على مسار الحدث وتفسيره وكشف خباياه أو تطويره وتنميته (35)، ويعمل على الاقتحام المفاجئ لخبر أو حادثة خارجية لا علاقة لها بالقصة (36) مستغلا ما يشبه القطع السينمائي المفاجئ، ويتكأ على التداعيات الخارجية في عملية الاسترجاع الى حد استدعاء مشاهد كاملة من الماضي عبر التداعي.
إن ارتباط معظم القصص التي ألفها الاديب بأحداث شخصية وطنية أيام الغبن والاستعمار جعلته كثير التسلل الى داخل الشخصية ورصد مشاعرها، وسبر أغوار نفسيتها ومنفذا ينتهي به الى تشكيل النموذج الذي قد يعبر عن جوهر المشاعر الانسانية الكامنة "ريح الجنوب دافئة، وريح الشرق حنون، وللبيوت أبوابها على كل حال وأنا أجعل لبيتي بابا يتجه الى الشرق يكفي خيرا أن تتفتح عيناي كل صباح على الاشعة. بدل أن كانت لا تريان في صباحهما إلا ظلا طويلا يمتد الى البحر...
كان جالسا فوق كون من أنقاض بيته المهدم وعيناه تجولان في الركام باحثتين عن ذكرياته المتصلة بهذا البيت الذي صار خرابا. وكانت ملامح وجهه منقبضة فيها شحوب حزين وحزن داكن، لم أكن أدري أنني سوف أملك بيتا ثم أراه خرابا، ثم أفكر في بنائه من جديد إنه جالس في مكان ما بمدينة بنزرت فوق كوم من أنقاض بيته المهدم ولكن روحه سابحة في الماضي وعيناه تبحثان عن الذكريات التي غطاها الردم" (37).
إنه ينصرف الى أشد اللحظات توهجا ويحاول اقتناصها وهو إذ يعمد الى ذلك يحرض على التداخل بين الماضي واللحظة الراهنة، فتصبح اللحظة محرضا يبعث هذا الماضي من مرقده فيؤجج بذلك الحركة الداخلية للنفس، إنه شغوف باستبطان اللحظة وتحري ملامح الماضي "كانت اللحظة مرة مؤلمة وكانت المفاجئة قاسية وعنيفة وكانت الصرخة رهيبة يائسة عندما رأى لأول مرة حقيقته العارية في أبشع صورها كما يراها الناس كل يوم وكما رأوها منذ أكثر من ثلاثين سنة، وأحس لأول مرة في حياته براحة وهو يفكر بالموت...وقال في ذهول وحسرة محدثا نفسه !
-لم أكن أبدا أدري أنني بشع الى هذه الدرجة" (38) هكذا يبدأ قصته "الفراغ" وهو يحاول من وراء ذلك السياحة في ذكريات الماضي بكل آلامها وخيبة الحاضر بكل شقاوتها.
إن الحركة التمثيلية القائمة على تسجيل الايقاع الملموس والمنظور للحدث وما يتبعها من إثارة لدواخل الشخصية واستنهاض لذكرياتها، هو المنهج الذي يكاد يسيطر على كل أعمال الأديب، وساعده ع لى تشكيل القصة فنيا وأعطى لها نفس الاستمرار.
ومهما قيل عن عبد الحميد بن هدوقة الرجل المجاهد الاديب القاص، الروائي المسرحي السياسي، فإنه لا يمكن أن يعطي الرجل حقه، إن أعمال الرجل بصفة عامة والقصة على وجه الخصوص، ستظل نبراسا نيرا ومعلما من معالم الحركة الابداعية الجادة، القدوة عندنا، وعند كل من كتب له أن يطلع على أعماله المترجمة الى لغات أقوام كثيرين.
المــــصـــــــادر
- ظلال جزائرية، مجموعة قصصية، بيروت 1960
- الاشعة السبعة، مجموعة قصصية، تونس 1962، الجزائر 1981
- الكاتب وقصص أخرى، مجموعة قصصية الجزائر 1972
المـــــــراجع
- د.عبد الله الركيبي، القصة الجزائرية القصيرة: المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983
- د.عبد العظيم القط – يوسف ادريس والفن القصصي. طبعة دار المعارف القاهرة 1980
- د. محمد مصايف – الرواية العربية الجزائرية بيت الواقعية والالتزام ش.و.ن.ت الجزار 1983
- عمر عيلان – الرواية والايديولوجيا، دراسة تطبيقية في روايات عبد الحميد بن هدوقة، جامعة قسنطينة 1996
- محجوب عرابي – دراسات في القصة الجزائرية المعاصرة. رابطة ابداع ط 1 1993
- ابراهيم عباس – مقالات في مفهوم القصة القصيرة، القاهرة 1987
- خصوصية الخطاب القصصي في أدب الشباب، محاضرة ألقيت بمقر الجاحظية مارس 1998 الجزائر العاصمة.
- اتجاهات القصة الجزائرية القصيرة بعد الاستقلال، جامعة القاهرة 1988
- من مظاهر التجديد في القصة الجزائرية القصيرة، /لتقى قسنطينة ديسمبر 1995
- د. رشاد رشدي، فن القصة القصيرة، دار العودة بيروت الطبعة الاتية 1975
الهـــــوامش
- عبد الحميد بن هدوقة، مجموعة الاشعة السبعة، الشركة و.ن.ت، الجزائر 1981، مقدمة المؤلف ص 5
- يعد عبد الحميد بن هدوقة أول من كتب الرواية الفنية في الادب الجزائري الحديث وأول عمل له هو رواية ريح الجنوب وهي من أرقى أعماله الروائية. ترجمت الى تسعة لغات أجنبية.
- ريح الجنوب 1971، نهاية الامس 1975، بان الصبح 1980، الجازية والدراويش 1983، غدا يوم جديد 1992.
- انظر دراسات الدكاترة: مصايف، الركيبي، مرتاض في هذا المجال.
- عبد الحميد بن هدوقة، مقدمة المجموعة الاشعة السبعة ص 6-7
- راجع مقدمة روايته "وغدا يوم جديد" ط1 ص19
- المجموعة الاولى "ظلال جزائرية" ص5
- المجموعة الثانية "الاشعة السبعة ص 45، 47، 71
- انظر القصة الجزائرية القصيرة، د.عبد الله الركيبي
- راجع القصة القصيرة د.عبد الله الركيبي م.و.ك.ط1 1983، ص 176،184
- كلها من المجموعة الثالثة ص 60، 82، 97
- الاشعة السبعة
- تدور أحداث هذه القصة حول شاب تونسي من بنزرت هاجر الى فرنسا ليعيد مجرى حياته فتزوج هناك بفتاة فرنسية لكن عندما عاد الى وطنه هجرته.
- دراسات في الواقعية الاوروبية جورج لوكاش، ترجمة أمير رسكندر ص 63
- الاشعة السبعة ص48
- ابن الصحراء، مجموعة الاشعة السبعة ص 39
- راجع كتاب يوسف ادريس والفن القصصي لعبد الحميد بن هدوقة ص 244 وما بعدها
- الاشعة السبعة ص 49
- الاشعة السبعة ص 53
- الاشعة السبعة ص 56
- الاشعة السبعة ص 56
- الاشعة السبعة ص 53
- الاشعة السبعة ص 53
- مجموعة الكتاب وقصص أخرى ص 35
- مجموعة الكتاب وقصص أخرى ص 37
- المصدر السابق ص 44
- المصدر السابق ص 45
- د.رشاد رشدي، فن القصة القصيرة، دار العودة بيروت، الطبعة الثانية 1975 ص29
- انظر قصة الفراغ من مجموعة الكتاب وقصص أخرى ص 70
- الكتاب وقصص أخرى ص 70
- الاشعة السبعة ص 55
- الاشعة السبعة ص 56
- حلم الصيف ص107، 108، 109
- راجع قصة الفراغ من مجموعة الكتاب وقصص أخرى
- راجع قصة الانسان من مجموعة الكتاب وقصص أخرى ص 136
- الاغنية اللعينة
- دمعة قديمة من مجموعة الاشعة السبعة ص 89
- منتصف النهار من مجموعة الاشعة السبعة ص 54-55
- الفراغ من مجموعة الكتاب وقصص أخرى ص 70