شعرية الفاتحة النصية في رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة

أ.بلعابد عبد الحق (جامعة الجزائر)
"إن للابتداء الكتاب فتنة وعجبا" -الجاحظ-
أ.بلعابد عبد الحق (جامعة الجزائر)
"إن للابتداء الكتاب فتنة وعجبا" -الجاحظ-
أبدا يعني أتكلم، أكتب. أنتهي لا يعني هذا إلا السكوت -أراغون-
عتبة منهجية:
لقد تشعبت اشتغالات السرديات الحديثة، قصد فهم النص السردي وتفهيمه، لتأخذ الآن وجهة بحثية أخرى، وهي الحفر في العتبات النصية التي تحف هذا النص وتحيطه، كونها أمكنة إستراتيجية التنقيب، ومناطق إشكالية للتحليل، ومن بين هذه العتبات، نجد ما اصطلح عليه المشتغلون بالحقل السردي بالفاتحة النصية، حيث ألحوا على درسها والكشف عن كيفيات اشتغالها، وهذا لدورها في تسجيل التحديدات المادية، بين ما هو جاري في كل الحكاية وما تعرفه من تحولات (1).
ولم يأت هذا بداعي المصادفة، وإنما تعضده خلفية معرفية، وبلاغية، لما وجد في البلاغات اليونانية، واللاتينية القديمة، لفرط حبهم بتهذيب البدايات وتشذيب النهايات، واختيار الافتتاحيات وانتقاء الاغلاقات (2)، كما لاحظه "رولان بارث" في قراءته الجديدة للبلاغة القديمة.
أما البلاغة العربية، فلم تك بالبعيدة عن هذه المقولات البيانية، والمحسنات البديعية، فقد نوع فيهما الكاتب والشاعر، على حد قول ابن الأصبع المصري: "...والتي فرع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وخصوا بها ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله" (3)، لأنه "أول ما يقع في السمع، ليقبل السامع على الكلام، فيعي جميعه، وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه" (4)، على ما قاله القزويني في إيضاحه.
وعلى الرغم من أهمية هذه العتبات، لا نكاد نجد لها التفاتا من النقاد بالدرس والتحليل، فهي وإن كانت تطرح صعوبات على المستوى النظري لضبابيتها، وعدم القدرة على تحديدها تحديدا دقيقا...؟ فهذا ليس مدعاة لمجانبة استنطاقها، فهي عبارة عن منجم من الأسئلة، يراد نتق أجوبته، بقراءة مختلفة، لنص روائي درس من ذي قبل، غير أننا سندخل عليه من مداخل أخرى، ونهجم عليه من زوايا لم تر، فكانت رواية (ريح الجنوب، لعبد الحميد بن هدوقة)، التي سنقرأها قراءة نقدية بعيدة عن قتل لذة النص، وكبت متعة القراءة، وخنق إحساسها المرهف، بل سنشحدها قصد جعلها أكثر حيوية ونشاطا (5)، لفهم هذا النص ومحاورته من خلال الإستراتيجية التي تتخذها فاتحتها النصية.
- ما الفاتحة النصية (لرواية ريح الجنوب):
منذ أن طرح "رولان بارث" سؤاله التأسيسي من أين نبدأ؟ (6) حتى جعله الدارسون السؤال المفتاحي لدراسة العتبات النصية، كونه الإشارة الأولى التي ستملأ بحضور النص (7).
إنها الجملة البدئية، أو ما يعرف عند المشتغلين عليها بالفاتحة النصية، فهي ليست كلمة توضع في أول الرواية، ذهب إليه "قولدنشتاين"، بل هي أوسع من ذلك، فقد تكون جملة، أو فقرة، أو حتى فصلا من رواية (*)، بحيث تنقلنا هذه الفاتحة النصية من فعل القراءة الخطي لتضعنا مباشرة في فعل السرد التخييلي.
فقد عرفها الناقد (أندري دال لنقو)، بأنها:"نقطة نصية تبدأ من العتبة المفضية إلى التخييل، وتنتهي بحدوث أول قطيعة هامة في مستوى النص، فهي موضع استراتيجي في النص"(8)، لهذا تتجه النقديات الحديثة إلى دراسة الفواتح النصية الواقعية منها، مثل الفاتحة النصية لرواية ريح الجنوب، كونها مكان إشكالي استراتيجي للتحليل، كما يرو "كلود دوشي"(9)، فيه يتموضع النص ويكتشف.
-
كيفية تعيين الفاتحة النصية في ريح الجنوب:
يصعب علينا تعيين الفاتحة النصية، إذ لم نعرف حدودها من حدود الفواتح النصية الموازية والمتاخمة لها، إلا أنه بفضل ممارستنا التطبيقية، وقفنا على مجموعة من المقاييس الضابطة لها، والفاصلة بين الفاتحة النصية والنص ككل، ومن أهمها:
- بعض العلامات (الإملائية والطباعية)، التي يوجدها الكاتب في نصه، مثل الفواصل والنقاط والرموز الكتابية الموحية بنقلة نوعية من مستوى الافتتاح إلى ما بعده، ومثلما نجده عند عبد الحميد بن هدوقة، بوضعه للنقطة في آخر فاتحته النصية في رواية ريح الجنوب، كعلامة فاصلة بين الفاتحة النصية التي تؤذن بالابتداء السردي، عن ما يأتي بعدها:
"كانت ريح الجنوب قد سكتت منذ أن طلع أول شعاع للفجر مصافحا قمم الجبال ومحيّيا من بعيد ما واجهه من تراب القرية التي قضت ليلتها تلك تحت الغبار والدويّ العنيف.
وكان اليوم جمعة تتوقف فيه غالبا كل الأعمال بسبب سفر السكان إلى السوق التي موعدها في ذلك اليوم (.)" [رواية ريح الجنوب، ص 07]
- تخصيص بياض أو فراغ من شأنه أن يفصل بين الفاتحة النصية وما يليها فصلا ضمنيا، وهذا ما وجدناه بعد الجملة البدئية في الرواية (الرواية، ص 07)
إلى جانب هذه الرموز الخطية المذكورة، يمكن للكاتب أن يلجأ إلى طرائق أخرى أكثر وضوحا:
- لتمحيص بعض السياقات السردية، للإعلان عن نهاية البداية في شكل صيغ أو كلمات لافتة للانتباه من نوع (هكذا إذن، وبعد هذه المقدمة...)، وهذا ما لم نجده في الفاتحة النصية المدروسة.
- وقد تحدث أحيانا تغييرات على مستوى التقنيات السردية، كتغيير في الأصوات السردية، أو حدوث نقلة في التبئير، إلا أن الفاتحة النصية لرواية ريح الجنوب، من الفواتح النصية الواقعية، حيث نجد ساردها قد أخذ بناصية السرد، ومواقع التبئير فيها، مع وجود لخروقات سردية، بخروجه من أسلوب السرد إلى الحوار ثم الوصف، أو المراوحة بينهم، أو تغيير زمنية القص، كقطع مجرى السرد عن طريق الاسترجاع والاستباق (10) ومثال ذلك عن الخروج من السرد إلى الحوار ثم الوصف، من الفاتحة النصية للرواية:
- من السرد إلى الحوار، إلى الوصف:
"كانت ريح الجنوب قد سكتت منذ أن طلع أول شعاع للفجر...وكان عابد بن القاضي وابنه الصغير عبد القادر قرب الدار يساعدان رابحا راعي الغنم على الخروج بها من الممر الضيق...وبعد أن ابتعدت الغنم رجعا إلى الدار. (سرد)
سأله ابنه قائلا:
-"هل أذهب معك إلى السوق؟"
-"إذا أحببت..."
-أنأخذ الحصان أو البغلة؟"
-"البغلة لأننا سنشتري بعض الأدوات الفلاحية."(حوار)
وسافر الأب والابن إلى السوق. أما نفيسة فكانت قد استيقضت منذ فترة من الوقت ولكنها لم تفارق فراشها،...الحجرة ضيقة طولها ثلاثة أمتر وعرضها كذلك، بها كوة خارجية مطلة على جزء من البستان، ارتفاعها سبعون سنتم وعرضها خمسون سنتم، وفي هذه المساحة السرير القديم الذي تنام عليه نفيسة، وخزانة أشد قدما منه حيث حقيبتها وكتبها. وقرب الكوة منضدة ومقعد خشبي" (وصف) [ رواية، ر.ج، ص 7-8].
- إن الفاتحة النصية مكثفة للرواية ككل، بأزمنتها (وكان اليوم جمعة...سفر السكان إلى السوق)، وأمكنتها (القرية التي قضت ليلتها تلك تحت الغبار)، وشخصياتها التي واجهتنا منذ البداية (وكان عابد ابن القاضي، وابنه الصغير عبد القادر قرب الدار يساعدان رابحا راعي الغنم...أما نفيسة فكانت قد استيقضت...)، فالفاتحة النصية تنشط أفق انتظار القارئ، وتساعده على بناء سيناريوهات بدئية للرواية ككل.
- إستراتيجية الفاتحة النصية في رواية ريح الجنوب:
يعتبر "أندري دال لنقو" الفواتح النصية مناطق إستراتيجية يتم منها العبور الى مسالك النص التخييلية (11)، قصد تحدي بروتوكوله القرائي (12)، لذا كثر الاشتغال على الفواتح النصية الواقعية كما يرى "كلود دوشي" (13)، بحيث يمكن للفاتحة النصية أن تكون عنوانا، أو صورة، أو جملة، أو فقرة، أو حتى فصلا من كتاب/رواية، لهذا سنتعرض إلى هذه الفواتح النصية الموازية والمتاخمة، للكشف عن فعاليتها السردية في رواية ريح الجنوب:
* الفواتح النصية الموازية والمتاخمة:
علما أن الفاتحة النصية هي أول لقاء مادي محسوس يتم بين القارئ والنص (14)، بحيث نفترض في هذا القارئ أنه قد حمل فعلا الكتاب/الرواية وفتحها ونظر في شيء منها:
- :
يعد عنوان رواية ريح الجنوب عتبة نصية، لأنه فاتحة الفواتح النصية، وأولى الفواتح الموازية، لاحتلاله الواجهة المركزية للغلاف لما يلعبه من دور كفاتحة مناصية بين الكاتب والنص، في تلك المنطقة التداولية القابلة للانتقال والتعاقد (15).
فعنوان رواية بن هدوقة (ريح الجنوب)، يستمر في الظهور من بداية الفاتحة النصية إلى نهايتها، إما باسم الرواية، أو بمتعلقاتها النصية، مثل قوله في الفاتحة: "كانت ريح الجنوب قد سكتت..."، ثم يذكر متعلقات هذه الريح وآثارها:"...مصافحا قمم الجبال ومحيّيا من بعيد ما واجهه من تراب القرية التي قضت ليلتها تلك تحت الغبار والدويّ العنيف..." [الرواية، ص7]
- :
وهي من بين الفواتح النصية الموازية، لما تلعبه من دور وجاهي كفاتحة مناصية بصرية للكاتب/النص، لهذا نجد أن الصورة الموضوعة على غلاف الرواية (*)، هي لفتاة تضع كفيها على خديها، دليل على حيرة نفيسة، وعلى ما ينتظرها في القرية التي عادت إليها، لتريد الفرار منها من جديد، فشعرها المتموج الذي طالما داعبته ريح الشمال، أصبحت تجتثه ريح الجنوب، التي ما تفتأ تهدأ حتى تثور على القرية التي ترمز لها تلك الحجرة التقليدية (عمة رحمة)، فريح الجنوب تواجهنا من بداية الفاتحة البصرية أو الصورة لتستمر في باقي الروايات.
ج- الفصل الأول/فصل البدايات:
يعد الفصل الأول من رواية ريح الجنوب، بمثابة فاتحة نصية (كبرى) متاخمة للفاتحة النصية الأصلية الموجودة فيه تحديدا، وهذا لمشاركته لها في توجيه لجمهور أقل، ينحصر في المرسل إليه أي القارئ الذي انخرط فعلا في قراءة النص/الرواية (16)، فهذا الفصل البدئي سيعمل كفاتحة نصية تتمظهر على امتداد الفصل الأول ككل، لتعالقه فصول أخرى، كونه من بين محددات الفاتحة النصية كحالة استمرار لبروتوكول الدخول السردي التخييلي، بتعبير "جون دوبوا" (17):
-"كانت ريح الجنوب قد سكتت..." ص07
-"وكانت الريح عنيفة فخشيت أن يتغير الجو وينزل المطر وأبقى بلا عمل..." ص22
-"وكان الطعام لذيذا حقا ومناسبا لحرارة الطقس التي تستعر استعارا في ذلك اليوم" ص 38
لتستمر متعلقات الفاتحة النصية في الفصول التالية مثلا:
-"وكانت ريح الجنوب فعلا قد أخذت تستعد للوثوب على القرية النائمة..." ص74
-"إذا تحركت ريح الجنوب التي يسميها سكان الناحية القبلي..." ص 75
-"لا شك أن الريح تكون أول نذير للناس يوم تقوم الساعة!." ص85
-"القبلي هو سبب خراب هذه القرى، ..." ص192.
-"وتحركت الريح، وأخذ دويها يتصارخ...من غبار...غبار القبلي..." ص 266.
فالملاحظة أن الفاتحة النصية مستمرة الظهور على كامل مساحة الفصل الأول، إلا أنها قد تحاول مراوغتنا سيميائيا، من خلال تمظهراتها في باقي فصول الرواية، لوظيفتها الترحالية عبر مناطق التخييل ومسالك السرد، لتبقى دائمة الانفتاح على النص الروائي وقراءته المتجددة.
-
وظائف الفاتحة النصية لرواية ريح الجنوب:
في البدء كان الكلمة الفاتحة لشرعية النص، ولدقة هذه اللحظة البدئية، اعتنى بها الكاتب والناقد على حد سواء، وعيا منهما بأهميتها، كونها عتبة عالم التخييل التي سيرتادها كل من أراد أن يلج النص قراءة، ليتحدد بذلك أفق انتظارها، إما تكريسا أو تعديلا أو تغييرا من طرف القراء الداخلين في علاقات تفاعلية مع هذه الفاتحة النصية، والمتوثقين بميثاقها، والمنجذبين بوظائفها المنشطة لمناطق التحفيز والإغراء، والإقناع لديهم، المنتظمة في العقد الافتتاحي، ومن بين هذه الوظائف الفاعلة نجد:
-
الوظيفة الاغرائية:
وهي أولى الوظائف وأوكدها، لأن الإغراء ظاهرة نصية، تكشف عن القدرة التغريرية للفاتحة النصية، لذا يعسر علينا حصر أشكالها، وإن أمكن تعيين بعضها كالإلغاز والإضمار في مستوى تعليق بعض الدلالات الرئيسية لفهم المراد، وتنويع عقود القراءة التي ينهض عليها الخطاب، وذلك بالانزياح عن المألوف منها لمفاجأة القارئ (18).
والفاتحة النصية لريح الجنوب غير بعيدة عن هذا الطرح، وإن كان ميثاقها الروائي باد في التحليل، إلا أنها راوغتنا للقبض عليها، بفضل وظيفتها الاغرائية التي تعمل على شدة انتباه القارئ (الوظيفة الانتباهية، ياكبسون) المتواصل ضمن إستراتيجية توجيهية تداولية، يمكنها الحفاظ على الديمومة التواصلية، وتأمين عدم انقطاعها، اعتمادا على قدرة عبد الحميد بن هدوقة الدلالية ككاتب، بحيث يبقينا مشدودين إلى ريح الجنوب وما تأتي به من غبار وخراب للقرية على من فاتحة الرواية إلى خاتمتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كفاءة القارئ التأويلية، التي بدونها يتعذر تجسيد امكانيات النص الاغرائية المتلبسة بنسيجه (19)، وهذه الوظيفة قد وجدنا إلحاحا عليها عند كل من "دوشي وجينيت" (20)، كوظيفة مهيمنة على العنوان، الذي يلعب دور فاتحة الفواتح النصية كما سبق بنا.
-
الوظيفة التنميطية:
إن الدور الوظيفي الذي تلعبه الفاتحة النصية لريح الجنوب، هو افتتاحها للنص/السرد، وهذا الافتتاح يعد بالضرورة تعريفا للخطاب من حيث هو تلفظ مخصوص، يتم إبرامه يبن الكاتب والقارئ، الذي سيحدد كيفية تلقيه، والتعامل معه على مستوى القراءة والتأويل، لهذا عادة ما تتضافر جملة من المعطيات النصية لإيضاح سنن الخطاب وبلورتها، باعتبار أن كل خطاب هو نمط تداولي وتواصلي من نوع خاص، يستدعي تفكيكا معينا، لتصبح هذه المعطيات خطابا شارحا يشرح سننه (21).
لهذا فالدور المنوط بالوظيفة التنميطية في الفاتحة النصية لريح الجنوب، هو البحث عن الميثاق الأدبي/الروائي الذي اعتمده بن هدوقة في روايته، وهو الميثاق الروائي الواقعي، الظاهر في بروتوكول الدخول السردي للرواية: "كانت ريح الجنوب قد سكتت..." ص 07، فهذه من بين الفواتح النصية الواقعية.
غير أننا إذا أتينا للكشف عن البنيات النصية والأسلوبية التي تحدد جنس النص داخل مقولة الأجناس الأدبية، لا نجده ظاهرا في النص الموازي لريح الجنوب، أي لا نجد المؤشر الجنسي لهذا العمل الأدبي (أي هل هي رواية أو قصة أو أقصوصة...) في الطبعات التي بين أيدينا، غير ما ذكره الناشر في كلمته الأخيرة، بأن ريح الجنوب قصة لها مكانتها في الأدب الجزائري، إلا أن النقديات التي عنت بتحليل هذا العمل الأدبي قد رفعت هذا القلق التجنيسي، بأن ريح الجنوب (رواية) من بين الروايات الواقعية الجزائرية (22)، وهذا ما أكدته ترجمتها إلى الفرنسية حيث نجد على الغلاف المؤشر الجنسي (رواية).
ج- الوظيفة الإخبارية:
الفاتحة النصية لرواية ريح الجنوب، ذات طاقة إخبارية (واقعية)، بحيث يخبرنا السارد بسرد خطي يدفع الحدث دفعا، بعيد عن الانزياحات إلا ما جاء من استرجاعات بذكر أيام الثورة، أو ما قبلها بقليل، وما يتطلعون إليه في بلد حديث الاستقلال، والقضايا التي جاءت معه، كالتسيير الذاتي، والإصلاح الزراعي.
فسارد عبد الحميد بن هدوقة، سارد عارف أكثر من شخصياته، ينفخ فيها روحها السردية، ويحدد مصائرها الحديثة، فهو يخبرنا عن ذهاب أهل القرية للتسوق يوم الجمعة، والنساء إلى المقبرة في نفس اليوم، ويخبرنا عن عاداتهم وأعرافهم، وحتى أبسط الأشياء وأدقها من يومياتهم، بوصف جاذب وسرد واقعي.
فهذه التجربة الرؤيوية للعالم الواقعي (المعيش)، ساعدت بن هدوقة من أن يستعير منه علامات جمالية، جعلها موضوعا للممارسة النصية والتخييلية، قصد تأثيث كونه الروائي ككل، وفاتحته النصية على وجه الخصوص، ببدئها بخطاب الريف (الواقعي)، الذي أخبرنا عنه.
د- الوظيفة الدرامية:
تحدد الوظيفة الدرامية في الفاتحة النصية لريح الجنوب، انطلاق الحكي والكيفيات التي يتخذها في تناميه، ومساوقا مجرى الأحداث، حيث تبدأ الفاتحة النصية بتصعيد درامي خفت حدته، وإن بقيت آثاره دالة عليه، التي ما تنفك تنشطه على طول أحداث الرواية: "كانت ريح الجنوب قد سكتت..." ص 07، فكلمة سكتت تحمل دلالات تكشف لنا بأن الليلة التي قضاها أهل القرية كانت قاسية تحت الغبار والدويّ العنيف لهذه الريح التي لا تبقي ولا تذر.
لتتصعد هذه الأحداث بريح أخرى، وهي ريح الإشاعات التي راجعت عن صدور قرارات متعلقة بالتسيير الذاتي، والإصلاح الزراعي، والتي قضت مضجع عابد بن القاضي، مما يضطره إلى فكرة انتهازية ستفجر أحداث الرواية، وهي تزويج ابنته نفيسة من مالك رئيس البلدية (الرواية، ص 7-8، وما يليها)، ورفض نفيسة لها الزواج التقليدي والمصلحي في أن، الذي يفرضه عليها خطاب الريف/القرية، المخالف تماما لما تصبو إليه من تحرر، وما تعلمته من خطاب في المدينة (الرواية، ص 9-25)، لذا تقرر في النهاية الهروب من هذا الخطاب لتقع في قيده في الأخير.
فالملاحظ أن الفاتحة النصية، تضعنا في قلب التصعيد الدرامي بإجمالها وتلميحها للصراعات التي ستقع جراء اختلاف الخطابين (خطاب الريف وخطاب المدينة)، والذي ستعمل الرواية على تفصيله، فالفاتحة النصية تؤذن بقرب التصعيد الدرامي للأحداث الروائية، وتقدم أولى المؤشرات النصية لما ستعتمده في بروتوكولها للخروج السردي، أي الخاتمة النصية/الروائية.
غلق منهجي: (في تناسب الفاتحة النصية في خاتمتها)
وبعد هذا الترحال المعرفي في كون عبد الحميد بن هدوقة الروائي، قاصدين من ذلك فهم كيفية اشتغال فاتحته النصية وتوظيفاتها السردية في رواية ريح الجنوب، لتستوقفنا خاتمتها النصية التي ناسبت فاتحتها، فكان وعيا من بن هدوقة في مراعاته لهذين الموضعين الاستراتيجيين، لأنهما أول وآخر ما يعلق بأذهاننا وأسماعنا، ونحن في هذا الغلق القرائي المنهجي.
علمنا أن الفاتحة النصية بدأت هكذا:
" كانت ريح الجنوب قد سكتت منذ أن طلع أول شعاع للفجر..." ص 07
فكانت هذه البداية بمثابة نهاية لبداية كانت متموضعة خارج السرد أعادها علينا السارد، فنلاحظ كما سبق لنا القول قدرة الفاتحة النصية على مراوغة قرائها والتعمية عليه لكي لا يقبض على ميثاقها، قصد تحفيزه لبناء سيناريوهات تخييلية لنهايتها، وهذا ما يوضح سارد الرواية خلال الحوار الدائر بين مالك والمعلم:
"ثم استطرد قائلا:
-"إن نهايات الكلمات نوافذ تشرف على آفاق لا تحد!
ابتسم مالك وقال بسخرية:
-"عسانا نقرأ لك في الغد قصيدة. إني واثق من ذلك
فقال المعلم:
-"إن الذي وضع النقطة للدلالة على النهاية لم يفكر في النهاية.
فرد مالك:
-"قد يكون فكر في بداية جديدة! " [الرواية، ر.ج، ص 71]
هذا الحوار يضعنا في قلب الإستراتيجية التي تعمل بها الفاتحة النصية والخاتمة النصية، فالنقطة الموضوعية في نهاية الفاتحة النصية أعلاه لم تفكر في النهاية بقدر ما هي تبنين لبداية جديدة ومستمرة فينا وخارجنا، وهذا ما قالته الخاتمة النصية:
"وتحركت الريح، وأخذ دويها يتصارخ بين جبال القرية ورباها فإذا الأرض المقمرة تتلحف بلحاف من غبار...غبار "القبلي"... [الرواية، ر.ج، ص 266]
فنجد أن هذه الخاتمة النصية ناسبت فاتحتها، من حيث حقلها المعجمي والدلالي (ريح، دوي، جبال القرية ورباها، غبارها...)، غير أنها لم تضع نقطة للنهاية، بل نقاط مستمرة، دليل على أن نهاية الكلمات نوافذ تشرف على آفاق لا تحد، لتفسح مجالها للقراءة والتأويل لهذه النهاية، فربما فكر في بداية جديدة، فكانت الخاتمة النصية لريح الجنوب مفتوحة، لأن النهاية لا تغلق البداية بل هي دائما في بدء (قرائي) جديد.
ومنه فقد وجدنا أن حسن الابتداء من حسن الانتهاء، لأنهما من أشرف المباحث التي اخترعها البلاغيون القدامى، ونحن نروم من بحثنا هذا إعادة قراءته، لاجتراح مناطقه البحثية قصد تطويرها، ووضع شرعية لكل منهما، وهذا بفهم تناسبهما النصي وانسجامهما السردي.
*هوامش البحث:
1-J.P Goldenstien , pour lire le roman, ed.Deboek-Duculot, paris, 1986, p 74.
- رولان بارث، قراءة جديدة للبلاغة القديمة، ترجمة: عمر أوكان، إفريقيا الشرق، سنة 1994، المغرب، ص72-74.
- ابن أبي الأصبع المصري، تحرير التحبير (في صناعة الشعر والنثر، وبين إعجاز القرآن)، تحقيق، وتقديم: حنفي محمد شرف، مطابع شركة الإعلانات الشرفية، سنة 1963، القاهرة، ص 168-616.
- جلال الدين الخطيب القزويني، الايضاح في علوم البلاغة، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، سنة 1995، بيروت، لبنان، ص 238.
- M.P.Schmitt-A.viala, savoir lire (précis de lecture critique), ed.didies, paris, 1982, p 104
- Roland Barthes, par ou commencer, in poétique, n01, paris, 1970, pp 3-14.
- جليلة طريطر، في شعرية الفاتحة النصية، مجلة علامات في النقد، ج 7، مج 29، مطبعة الفلاح للنشر والتوزيع، سبتمبر 1998، بيروت، 145
*نجد أن (قلدنشتاين) قد عدل عن هذا الرأي النقدي في كتاباته اللاحقة بتوسعه لمجال اشتغال الفاتحة النصية، ينظر كتابه:
Entrées littérature, ed. Hachette, paris, 1990, pp86-88.
- جليلة طريطر، في شعرية الفاتحة النصية، ص 146-147
- Guy Larroux, le mot de la fin, clôture romanesque en question, ed. Nathan, paris, 1995, p107
- جليلة طريطر، في شعرية الفاتحة النصية، ص 147
-ينظر كذلك العدد الخاص بالأعمال الروائية لعبد الحميد بن هدوقة، والدراسات النقدية المقدمة فيها، مجلة اللغة والأدب، ع 13، صادرة عن قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر، ديسمبر 1998.
11- المرجع السابق.
12-J.P Goldenstien, pour lire le roman, p 74-75.
13- Guy Larroux, le mot de la fin, P 107.
- جليلة طريطر، في شعرية الفاتحة النصية، ص 155
- Guy Genette, seuils, ed. du seuil, paris, 1987, pp59-180.
*قمنا بقراءة تأويلية للصورة المرفقة بغلاف الرواية، لأن الفنون الطباعية في الجزائر لم تتحكم بعد في صناعة الكتاب، وتقنيات تصميم الغلاف ووضع الصور، وهي الان اخذة في التطور، لهذا قرأنا الصورة بعلائقها النصية، أي بما يوحيه النص والرواية.
16- Guy Genette, seuils, pp 297-300.
17-Guy Larroux, le mot de la fin, P 107-108.
18- جليلة طريطر، في شعرية الفاتحة النصية، ص 150.
19- المرجع نفسه.
20- Guy Genette, seuils, p 133.
21- جليلة طريطر، ص 151.
22- محمد مصايف، الرواية العربية الجزائرية الحديثة (بين الواقعية والالتزام)، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، سنة 1983، الجزائر، ص 179-180.