ريح الجنوب بين الرواية والفيلم

أحمد حيدوش من جامعة تيزي وزو
ملخص أحداث رواية ريح الجنوب :
تغطي أحداث الرواية سبعة فصول، يبدأ فصلها الاول في سطره الاول بالعبارة التالية: "كانت ريح الجنوب قد سكنت منذ أن طلع أول شعاع للفجر مصافحا قمم الجبال ومحييا من بعيد ما واجهه من تراب القرية التي قضت ليلتها تلك تحت الغبار والدّوي العنيف" (1).
إنه مشهد الصباح في القرية بعد عاصفة من الريح، إنه صباح آخر يوم في الاسبوع (الجمعة)، حيث تتوقف جل الاعمال في هذا اليوم بسبب ذهاب الناس الى السوق لقضاء أمورهم، حيث تصادف السوق ذلك اليوم، في حين تذهب النسوة لزيارة المقبرة. وهنا تظهر أول شخصية في الرواية هي شخصية ابن القاضي وابنه الصغير عبد القادر قرب الدار وهما يساعدان رابحا الراعي على الخروج بالغنم من ممر ضيق، ثم وهما يستعدان للتسوق.
يذكر مشهد الغنم عابد ابن القاضي بتلك الاشاعات التي بدأت تروج منذ صدور القرارات المتعلقة بالتسيير الذاتي، حول الاصلاح الزراعي والتي صارت منشأ همومه وأزماته النفسية، بيد أن سرورا غامضا بعثته في نفسه فكرة تزويج ابنته نفيسة بمالك شيخ البلدية، إلا أنه يخشى في الوقت نفسه أن لا تتحقق هذه الفكرة في حال عزوف شيخ البلدية عن هذا الزواج.
ثم تظهر نفيسة التي استيقظت منذ مدة من الوقت ولكنها ظلت في فراشها، وهي تحاور نفسها، وتكشف محاورة النفس هذه عن معاناة نفيسة نتيجة التضاد القائم بين عالمها في المدينة وعالمها اليوم في القرية. وفي تلك اللحظة تقبل أمها عليها وهي تحمل إليها فطور الصباح، ثم تدخل معها في حوار يكشف فيه الكاتب عن التضاد القائم بينها وبين أمها من حيث نظرتهما الى الحياة ثم تقبل العجوز رحمة صانعة الفخار وتدخل معها كذلك في حوار وتقدم إناءا لها واثنين آخرين، لأخيها عبد القادر ولأبيها عابد، ومثردا لأمها.
ثم تقوم الثلاثة، الام والعجوز رحمة والبنت نفيسة بزيارة الى المقبرة ويدخلن في حوار عن الموتى والفخار، مستعيدات ذكريات الماضي ليعدن بعد ذلك الى القرية على أنغام ناي آتية من سفح الجبل المشرف على القرية، ويعلقن على ذلك (2) حيث قالت العجوز: "لولا هذا الناي لظننا القرية خلت من سكانها منذ سنين".
وقالت خيرة: "هذا رابح الراعي الذي يعزف"
في حين قالت نفيسة: "لاشك أنه سعيد مع الغنم" وعند وصولهن الى الدار تنصرف نفيسة الى غرفتها لتغيير ملابسها، في حين تدخل العجوز رحمة والأم خيرة في حوار موضوعه نفيسة التي تدعو الى القلق، وقضية زواجها من مالك الذي ذكر الام في ابنتها المرحومة زليخة وأثار في نفسها ذكريات أليمة، كاشفة عن موقفها من مالك: " عزيز علينا وعدو" (3).
وبينما هما في حوار إذا بنفيسة تدخل عليهما، ويكشف حديثهن عن الاشغال المنزلية والطبخ عن التعارض بين نفيسة من جهة وأمها العجوز من جهة أخرى. لينتهي الفصل الاول باجتماع الثلاثة على مائدة الغذاء.
أما الفصل الثاني فيستهلكه الكاتب بمشهد لنشاط القرية وهي تستعد لاستقبال يوم مهم قلما شهدت مثله، يتمثل في تدشين مقبرة لأبنائها الشهداء الذين سقطوا أيام حرب التحرير، تحضره شخصيات مهمة من القرى المجاورة، وشيخ البلدية ومسؤول الحزب بالناحية.
ثم حديث بين شاب وشيخ عن الراعي رابح، والأرض والفلاحة يكشف عن التعارض القائم بينهما، وأن المقهى هي مصدر المعلومات كلها عن أهل القرية: "فالأشخاص هم دائما عابد بن القاضي من جهة ومالك شيخ البلدية من جهة أخرى والزواج الذي يمثل الموضوع، ثم المصلحة التي تمثل فلسفة كل قصة يشارك فيها عابد بن القاضي" (4).
ويكشف هذا الفصل عبر تذكر مالك الذي عاد بذاكرته الى صيف عام 1957 صورة زليخة خطيبته وحادث مقتلها، وكيف أن نفيسة صورة طبق الاصل لها: "لو أن الزمان كالفيلم " لكانت هذه الآن زليخة بدل أن تكون نفيسة" (5)
ويبدأ الفصل الثالث بالفقرة التالية: "قالت خيرة وهي ترى القرية في لجة دكناء من الغبار والتراب لاشك أن الريح تكون أول نذير للناس يوم تقوم الساعة" (6).
ثم نقف على مشهد يجمع الأم خيرة بابنتها نفيسة، حيث تخبرها أن أباها قد قرر عدم عودتها الى الجزائر بعد نهاية العطلة لأنه يعتزم تزويجها، ويجرها هذا الخبر الى نقاش حول التعليم وجدواه بالنسبة الى المرأة مادامت النقطة التي تصل إليها كل إمرأة هي الزواج والاهتمام بالبنت، فتحس نفيسة باختناق شديد، وتقف أمام النافذة، وفي ذهنها ترتسم: "صورة راعي الغنم، الذي استمعت ذات يوم لألحان نايه العذب فتخيلته أميرا سحريا في عالم من عوالم الرؤى والمستغلقات" (7)، وتسترسل في مجموعة من التداعيات تنتهي بها الى تذكر ما قرأته ذات يوم: "الحرية الممنوحة تشبه خبز الصدقة".
وهنا تعود مسرعة الى أمها وتطلب منها أن تخبر والدها أنها لن تتزوج، ولن تنقطع عن دراستها. وأنها ستعود الى الجزائر مهما كان الحال، فكان وقع كلماتها على الأم شديدا، فأحست بأن الارض تحت قدميها صارت دوامة، لتسقط على الارض والدموع تنهمر من عينيها وتغوص في الذاكرة يوم كانت حبلى، ونفيسة مضغة في أحشائها، وأيام القيء والغثيان والإرهاق ومرارة الوضع وآلامه، وتلك الدموع التي طالما أسالها الشوق الى نفيسة البعيدة الغريبة،وهنا ينتابها إحساس بثقل الزمن وقتامته إذ: "لم يخطر ببال الام أبدا أن هذه البنت يمكن أن تكون لها نظرة في الحياة تضاد مطلق التضاد ما تعارف الناس عليه هناك" (8)، ثم يكشف حوار بين ابن القاضي وزوجته عن موضوع زواج البنت الذي هو قرار من لا رجعة فيه، لأنه سينفذ مهما كان الامر.
وفي صباح اليوم التالي وقد سكتت الريح وعاد الى القرية هدوءها وصفاؤها اهتدت نفيسة الى وسيلة أجدى من الغضب والسخط وهي إعمال العقل والتماس الأسباب، فتقرر مكاتبة خالتها بالجزائر وإطلاعها على ما يجري، ففعلت، ثم راحت تنتظر أمام النافذة مرور الراعي رابح لتسلم له الرسالة لوضعها في البريد، وقد تم ذلك، حيث يمر الراعي وتسلم له الرسالة، وتكشف هذه المقابلة الخاطفة بينهما عن تضاد رؤية كل واحد منهما نحو الاخر ينتهي بها الفصل ففي حين ضحكت نفيسة من هذا العطف الغريب الذي أبداه لها الراعي، وتعجبت من انفتاح نفسه لها مع أنها لأول مرة تحدثه! نجد الراعي يقول عنها في نفسه إنها "تود شيئا آخر، وتتظاهر بإرسال الرسالة. ظنتني غبيا لا أفهم ما تريد! المرأة هي المرأة".
ويصور الفصل الرابع رابحا الراعي وهو يحاور نفسه في أمر نفيسة متذكرا بيت ابن القاضي وجمال نفيسة متحدثا عن مخاوفه وقلقه وتوتره النفسي نتيجة لما يجري في ذهنه من أفكار كثيرة تتعلق: "بالكيفية التي تمكنه من الوصول الى غرفة نفيسة (9)، بيد أن الناي رفيقه المؤنس يبدد مخاوفه وحزنه وقلقه الغامض، حيث يأخذ نايه ويبدأ يعزف لحزنه بصوت منخفض.
وفي مقابل هذا المشهد نجد نفيسة تعاني الارق فتقلبت عشرات المرات في فراشها وأغمضت عينيها العشرات من المرات كذلك فلم يزدها التقلب والإغماض إلا أرقا على أرق، ولم يزد جهازها العصبي إلا يقظة وتوترا، فقامت من فراشها واتجهت صوب النافذة ووقفت فترة وجيزة أمامها، ثم عادت الى فراشها وخلعت بغضب قميص النوم، وارتمت في الفراش عارية، وهنا يقدم الكاتب مشهدا لرابح وهو في طريقه الى بيت نفيسة ومحاولة اتسلل الى غرفتها، وما لاقاه من صعوبات وتوتر قبل أن يهتدي الى الحل، فيدخل غرفتها ليجدها نائمة نوما عميقا، ويقف امام جسدها العاري متأملا، وعندما يلامسها تنتفض مذهورة فيحاول طمأنتها بإعلامها بأنه رابح الراعي، إلا أنها تنعته بأبشع النعوت من أشدها وقعا على نفسه: "أخرج أيها الراخي القذر". فقد أحس بهذه العبارة وكأنها طعنة بالغة سددت الى وسط قلبه، فخرج من النافذة خائبا منهزما عائدا الى كوخه الحقير الذي صار في نظره بعد هذه الحادثة أجمل دار، وصارت أمه أجمل امرأة في الدنيا. ويعزف ألحانا ثائرة ويقضي ليلته تلك خارج الدار، يقرر أثناءها عن رعي أغنام ابن القاضي انتقاما لما وقع له مع نفيسة. وفي الصباح يذهب الى المقهى (بنك المعلومات)، حيث يلتقي بـابن القاضي الذي لم يظهر عليه أي تأثر، ويجره الحديث مع أحد الاشخاص عن تركه الرعي الى مشاكل العمل بصورة عامة، ثم يرى بعد ذلك العجوز رحمة وهي عائدة من المحفر، ولكنها أبطأت في الطريق فتحرك نحوها ليجدها مرمية على الارض ثم يحملها الى بيتها وهي مغمى عليها، ويسعفها، ويدخل معها في حوار طويل، ويتذكر نفيسة، وتمر بذهنه تساؤلات عن أصله، وكيف تزوج أبوه من أمه وهي بكماء، فتروي له العجوز تفصيلات عن ذلك، وعن الماضي مفككة خبايا الرسوم والرموز التي وضعتها على أواني الفخار ودلالاتها.
فيكتشف رابح أنه يجهل حياة الناس لأنه عاش مع الغنم فار واحدا منها، وينتهي الفصل بحوار بين رابح والعجوز حول موضوع تركة الرعي.
يكشف الفصل الخامس عن مشاهد تتحدث عن العجوز رحمة وهي تعاني من المرض والوحدة والهذيان، ومواساة عائلة ابن القاضي لها في ألمها ووحدتها وهي تحتضر، ثم حضور مالك لمواساة العجوز وتذكر أيام الثورة الطويلة التي قضاها جريحا في هذا المكان الذي ترقد فيه العجوز، يوم كانت سليمة معافاة في حين كان هو عندها جريحا مهموما، وراح يسترسل في الذكريات بحيث اختفى من البيت شيئا فشيئا عن ناظريه ليستحضر صورة العجوز رحمة يوم كان جريحا وهي تضمد جراحه وتواسيه وترفع معنوياته، فلم يفق من شريط ذكرياته إلا والعجوز تهذي، أو تغمض عينيها وتغوص في سهوها حماها الى أن امتصت الحشرجة الذرات الهوائية الاخيرة من صدرها ليأخذ الموت منها وجهها ويعطيها وجها آخر، وقد رسم عقرب الساعة منتصف الليل.
يدور الفصل السادس، في معظمه، حول موضوع الحياة والموت والعمل وسوى ذلك من الامور التي تتعلق بالدنيا والآخرة انطلاقا من وجهات نظر متباينة، حيث انقضت الليلة الاولى من وفاة رحمة حزينة كئيبة، وكانت فيها ريح الجنوب في عنفها مدمدمة رهيبة لا تبقى ولا تذر، وانقضت الليلة الثانية كذلك: كما انقضت سابقتها في أحاديث بين الفلاحين وحفظة القرآن، عن الاخرة وأهوالها، وعن القيامة ومشاهدها، وكذلك عن الحياة وشؤونها، وما ينتظر الناس من مشاريع تقوم بها الحكومة في قريتهم الفقيرة. وتحدثت النساء أيضا عن كل ما عاشته القرية من أحداث في ذلك الصيف: قصص الزواج والطلاق، وأخبار المنسوجات والموضات الجديدة، وتعرضن الى الحديث عن نفيسة وعن زواجها المنتظر بشيخ البلدية" (10)، بيد أن الريح في الليلة الثانية كانت قد سكنت واعتدل الجو وهبت أنسام (البحري)، (ريح الشمال)، فأزالت عن النفوس ما كانت تجده من ضيق فكان الرجال أكثر انشراحا وانطلاقا وأشد إقبالا على الطعام في بيت ابن القاضي الذي أقام الفدية ترحما على روح العجوز، حيث لم يحضر الراعي لأنه قرر أن ينزع عنه هذه الصفة الى الابد. في الفصل السابع نجد أحاديث عن المرأة وهمومها وأوضاعها وآمالها، ويكشف موضوع زواج نفيسة من شيخ البلدية من خلال حوار داخلي عن نفسيتها وموقفها من الواقع وحديث بين المعلم وابن القاضي حول أمر زواج مالك من نفيسة، ثم نجد حديثا آخر بين مالك والمعلم حول أمر هذا الزواج يستنتج الطاهر (المعلم) من خلاله أن مالكا ينوي الزواج من نفيسة، ولكنه لسبب ما لم يرد المصارحة بذلك، يخبر المعلم ابن القاضي بتخميناته واستنتاجاته، ليؤكد له رؤيته "ولكنه كعادته يتملص من الأسئلة التي تتعلق بحياته الخاصة، على أني متأكد من نيته في هذه المصاهرة، إذ طول الحديث كان دائما يتقي الكلمات التي تدل على عدم رغبته في الزواج".
وتقرر نفيسة الهرب بعد أن عدلت عن فكرة الانتحار، وتخطط لذلك فترسم خطة محكمة يكون يوم الجمعة فرصة مناسبة لتنفيذها، وتحل ليلة تنفيذ القرار الحاسم فتتحرك ريح الجنوب بكل عنف، وينطلق دويها بكل قوة ونفيسة مضطجعة بفراشها قلقة من هذه الريح التي إذا استمرت قد تحول دون زيارة أمها المقابر، وهي خائفة من فشل خطتها وما يترتب عن ذلك من عواقب، ومع ذلك تصر على أن لا سبيل بين يديها إلا الهرب وهو الاختيار الوحيد الممكن، لتنام بعد ذلك.
وتستيقظ فتجد الريح قد سكنت وعاد الى القرية جوها الرائق، وكان أبوها وأخوها قد سافرا الى القرية المركزية حيث السوق، وتنجح في التخلص من مرافقة أمها الى المقبرتين، حيث ذهبت الأم لوحدها، فخلا الجو لنفيسة، وبمجرد خروج الام نفذت قرارها متنكرة في زي رجل حيث لبست برنسا وحملت حقيبة وشيئا من النقود وانطلقت في طريقها عبر الغابة لكنها لسوء حظها ظلت طريقها.
ونهش ثعبان ساقها، فأخذ الغثيان يعصر قلبها، وفكرت أنها مشرفة على الهلاك لا محالة.
وتشاء الصدف أن ينقذها رابح الراعي الذي ترك الرعي وتحول الى حطاب منذ أن نعتته نفيسة بالحقارة يوم تسلل الى غرفتها، حيث يسعفها ويتفقان على العودة معا الى بيته، فتبقى في بيته تسعة أيام، وبعد أن تماثلت للشفاء تماما تدخل مع رابح في حوار تكشف فيه عن نيتها للسفر في اليوم التالي الى الجزائر ليلا، وتنظمّ أم رابح الى هذا الحوار متأسفة عن سفرها.
وبينما هم كذلك إذ بعجوز تدخل من الباب الخارجي دون أي استئذان وتحاول الأم إخفاء السر بإعلام العجوز أن نفيسة ابنة أختها المتزوجة برجل من سكان إحدى القرى النائية جاءت لتقضي أياما عندنا. لكن أحد سكان القرية يعلم بوجود الفتاة في دار الراعي فيخبر أباها بذلك، ويفاجئ الأب الجميع هناك ليستل مواساه (البوسعادي) من غمده ويصوبه نحو عنق الراعي معتزما ذبحه وذبح نفيسة.
وأم الراعي، ولكن الأم البكماء أخذت فأسا وضربت بها الرجل على رأسه فخر صريعا، وراحت تقدم الاسعافات لابنها الذي جرح في رقبته، وفي هذه اللحظة تتحرك في أعماق الفتاة نفحة من حنان فهبت لإسعاف أبيها الذي كان في حالة إغماء تام.
وبعد إتمام الاسعافات الأولية، جرت الأم نفيسة من يدها ودفعتها خارج البيت، فتقرر الفتاة مغادرة بيت الراعي والرجوع الى دار أبيها،تلك الدار التي منذ ساعات قليلة كانت لا تفكر أن ستطأها قدامها يوم من الأيام، فكانت تسير في طريق مقمر نحوها. وهي تفكر في الحقد الذي تحول في لحظة الى حنان نحو أبيها، وكيف تحول تقديرها وعطفها على الأم، وكيف صار كل ما كانت تجده من ولاء هذه وإعجاب بها الى خيبة أمل، تنتهي الرواية بالعبارة التالية: وتحركت الريح، وأخذ دويها يتصارخ مع جبال القرية ورباها، فإذا ارض المقمرة تتلحف بلحاف من غبار...غبار (القبلي)(12).
ملخص أحداث فيلم ريح الجنوب :
إذا كان ريح الجنوب هو عنوان الرواية، فإن الفيلم قد حافظ كذلك على العنوان نفسه، حين أخرجه سليم رياض، وقد كتب السيناريو له الروائي نفسه، على الرغم من أن الافلام المعدة عن روايات نادرا ما يقوم بكتابتها الروائيون الأصليون، ولعل ذلك ما جعل الفيلم يحافظ على موضوع الرواية وعلى تسلسل الأحداث والشخصيات، وتبدو التعديلات التي أدخلت على الرواية، ما عدا النهاية طفيفة جدا، ربما فضتها المدة المحددة للفيلم كلها على نحو سهل، ومشاهد الفيلم يستحضر أحداث الرواية كذلك بسهولة، فقد بدأ الفيلم بمشهد قطيع الغنم والراعي، ثم نفيسة وهي متذمرة من حياة القرية، تعد لوحات سقف الغرف، أو تعاني من شدة القلق، أو هي تكتب رسالة الى عمتها وانتظارها أمام النافذة مرور الراعي لتسليمه إياها، أو هي الى جانب العجوز رحمة صانعة الفخار التي تدخل معها في حوار طويل حول القهوة، أو متحدثة معها عن حرية المرأة ونفورها من عقلية القروي، أو هي في السرير تعاني أرقا، أو هي تقرأ وتجول في الغرفة مرددة جملة: (في الأوقات الشديدة تبقى لنا حرية الاختيار) أو مصاحبة أمها العجوز رحمة الى المقبرة وتأمل الحمار وهو يرعى على القبور، والعجوز رحمة تخاطب زوجها الميت وتشتكي له حالها. ثم وهن يغادرن المقبرة عائدات الى البيت، أو هي الى جانب أمها التي تعد الطعام في حين تقرأ هي كتابا، فتبلغها الأم بعدم عودتها الى العاصمة بعد نهاية العطلة. وكذلك مشهد رابح وهو يدخل بيته صباحا بعد ليلة قضاها خارج البيت يوم ذهب الى نفيسة، والأم تسأله عن عدم عودته الى البيت ليجري بينهما حوار بالإشارات، ثم وهو يجلس بالمقهى يتأمل لاعبي الورق، ثم وهو مع أحد الشيوخ يعرب له عن إصراره تغيير مهنة الرعي، ثم وهو يحمل العجوز الى بيتها المليء بالأواني الفخارية، وكذا منظر عابد بن القاضي وهو يتأمل ساعته منتظرا حضور الراعي لإخراج الغنم، ومشهد مقهى القرية وهو يعج بلاعبي الورق، ومشهد تدشين مقبرة القرية للشهداء. ومشهد تناول الغذاء الذي تكفل به ابن القاضي، ومرافقة مالك له لرؤية حماته ونفيسة والعجوز رحمة. ومشهد مالك والمعلم وحوارهما حول نفيسة، ومالك وهو يتأمل العجوز رحمة وهي مريضة تحتضر على فراش الموت. وتذكره أيام الثورة عندما كانت شابة وكان هو جريحا عنده تسهر على مداواته ومواساته. وكذلك مشاهد دفن العجوز وتلاوة القرآن، وعلاج الشيخ لنفيسة بالبخور وذبح عنزة سوداء.
بين كاتب الرواية وصانع الفيلم ريح الجنوب :
يقول ألكسندر أستروك: "صانع الفيلم مؤلف يكتب بآلة تصويره مثلما يكتب الكاتب بقلمه". ومعنى هذا أن كلا من الروائي وصانع الفيلم يقوم بعمل منفصل عن عمل الاخر، أي أننا أمام صناعتين، صناعة الرواية وصناعة الفيلم. بيد أن الامر غير ذلك، إذ صار شائعا أنه من أربعة الى خمسة أفلام طويلة قد تم إعداده عن نصوص أدبية، وقد اتخذت العلاقة ين الأدب والسينما أكثر من طريقة، وأدرك معظم النقاد السينمائيين القيمة السيميائية للنصوص الادبية الشعرية والروائية ويمكن تتبع هذه العلاقة وإرجاع أصولها الى طفولة السينما تقريبا (13). إن كاتب النص أكثر من أي شريك اخر للمخرج ذاكرا حيث يعد المؤلف الرئيسي للفيلم، وهو المسؤول عن الحوار وهو الذي يلخص غالبية الفعل، وهو الذي يبدأ موضوع الفيلم الرئيسي، بل إن أغلب كبار المخرجين يجلب كتابا لتوسيع أفكاره على الرغم من الاعتماد على النفس، وأن كثيرا من المخرجين مثل هتشكوك يسهم كثيرا في الشكل النهائي لنصوصه إلا أنه يرفض ظهور اسمه عن عمله ويسمح للكاتب الرسمي بأن يأخذ كل شيء (14)، بل أن هناك أفلاما يبدو فيها الكاتب أكثر هيمنة من المخرج لاسيما حين يسيطر الحوار على المرئيات (15)، وعلى الرغم من الاهمية الكبيرة التي يلعبها النص في الفيلم إلا أن بعض المخرجين يأنف من فكرة هيمنة الكاتب في السينما..فبعدما سُئل المخرج جوزيف فون تتيرنبرك عن القيمة الي يضعها في نصوصه مثلا، أجاب بأن السرد أو بعض عناصر القصة في عمله ليست ذات أهمية مهما بلغت، وقد ألمح "أنطونيوني" مرة الى أن الجريمة والعقاب هي قصة عادية وعبقرية الرواية تكمن في كيفية سردها وليس في مادة الموضوع (16) وحتى مادة الموضوع وحدها لا يمكن أن تكون مؤئرا يعتمد عليه للنوعية في الفيلم، إذ يهجر الكاتب مادة الموضوع عموما للفيلم ويقوم المخرج بخلق مضمونه الحقيق (17)، فكيف كان الامر بالنسبة الى ريح الجنوب؟ الى أي مدى حافظت الرواية على خط سيرها عندما تحولت الى فيلم؟ على الرغم من محافظة الفيلم على أحداث الرواية بصورة عامة إلا أننا نلاحظ بعض التعديلات متمثلة فيما يلي:
في مشهد تدشين مقبرة الشهداء يحذف من الفيلم عودة مالك بذاكرته الى أيام الثورة حيث تذكر زليخة خطيبته التي ذهبت ضحية حادث القطار الذي فجره هو نفسه فانتابه بعد هذا التذكر حزن عميق.
عندما رأى مالك نفيسة أثناء مرافقته لابن القاضي الى بيته، لم يظهر أي شيء يدل على اهتمامه بها، إذ لم يعرها أي اهتمام ولو بنظرة عكس ما نجده في الرواية.
مشهد رابح وهو يتأمل النار متذكرا شتيمة نفيسة (يا لراعي الكب) ثم يرمي كل ما له علاقة بالرعي، ويلغي المخرج مشهد الراعي وهو يتذكر جمال نفيسة محاولا التسلق الى غرفتها ثم وهو يهتدي الى حيلة قادته الى دخول البيت ووصوله الى غرفة نفيسة ووقوفه يتأمل جسدها عاريا وهي على السرير نائمة، ثم يوقظها كما جاء في الرواية. على الرغم من قيمة هذا الحدث في بناء باقي الاحداث سواء في الرواية أو في الفيلم، حيث غير مجرى حياة الراعي، إلا أن المخرج اكتفى في الفيلم بإظهار رابح وهو يتأمل النافذة من الاسفل ثم ينتقل مباشرة إليه وهو يتأمل النار متذكرا شتيمة الفتاة (يا لراعي الكب).
إلغاء مشهد رابح وهو يقتل ثعبانا عندما ذهب لإحضار الماء للعجوز من القرية حيث وجده قربها.
وإذا كانت العجوز في الرواية عندما أفاقت من غيبوبتها أقسمت للراعي أن تحضر له الطعام وراحت تخرج جرة السمن متحدثة عن العام الذي باع فيه الحاج حمودة رأسه، فإنها في الفيلم تظهر وهي تحضر الأكل لرابح وتحدثه عن والديها، على خلاف الرواية:
اختصار تذكر مالك لأيام الثورة التي جمعته بالعجوز في لقطة قصيرة جدا.
إضافة مشهد النسوة وهن يتحدثن عن فتيات القرية وعن نفيسة بصورة خاصة ورفضها للزواج من شيخ البلدية، حيث تثور الفتاة في وجوههن وتذكرهن بأنهن في مأتم.
التركيز على مشهد مرض العجوز رحمة وموتها وجنازتها وحديث النسوة عنها وقراءة القران في جنازتها، حيث أخذ هذا المشهد وقتا طويلا قياسيا الى المشاهد الاخرى على الرغم من طولها في الرواية.
إذا كانت بعض الجمل قد وردت على لسان الشخصيات كما وردت في الرواية (نهاية الكلمات نوافذ تشرف على أفاق لا تحد في الاوقات الشديدة تبقى لنا حرية الاختيار) إلا أن المخرج اعتمد العامية لغة للفيلم.
ينتهي الفيلم بمشهد نفيسة وهي في الغابة مرتدية برنسا وتحمل حقيبة وهي مصابة في ساقها، ويظهر رابح الحطاب يسوق حمارا يحمل حطبا، وعندما يراها يتقدم منها مباشرة ويركبها حماره ويأخذها الى بيته حيث تعتني والدته بها، ثم يظهر ابن القاضي ثائرا يؤنب زوجته على غفلتها التي جعلت نفيسة تهرب، وكيف أن لا يستطيع أن يواجه القرية بعد الذي حدث، ثم يظهر رابح ونفيسة يتحاوران حول موضوع الدراسة وأهمية التعليم، وموضوع الفلاحة ليتفقا في النهاية على الذهاب الى العاصمة، فتركب هي الحمار ويتبعها رابح ويتجهان الى المحطة، ولكن أحد السكان رآهما فأخبر ابن القاضي الذي سل سكينه وامتطى فرسه محاولا اللحاق بها، ويظهر رابح ونفيسة وهما يسرعان نحو المحطة، فتصل الحافلة في الوقت المناسب وتنقلهما نحو العاصمة ويحاول ابن القاضي اللحاق بهما دون جدوى وينتهي الفيلم وهما يتبادلان النظرات والبسمة بادية على شفتيهما. وهكذا نلاحظ أن نهاية الفيلم مغليرة تماما لنهاية الرواية. ولا تدري بالضبط من الذي وضع هذه النهاية المخرج أم الكاتب.
بين تقنية الرواية وتقنية الفيلم ( ريح الجنوب) :
إن الانتقال من الرواية الى السيناريو الى الإخراج، أي الانتقال من الكتابة الى التصوير يعنى من بين ما يعنيه جعل الشخصيات التي كانت مجرد متصورات ذهنية على الورق تتحرك على الشاشة فتحس وتنفعل وتغضب، ومن هنا تحويل المكتوب الى مرئي يتطلب تقنيات وعملا وصناعة لا تتوافر للرواية، فالسينما بمجالها المرئي الواسع وإمكانياتها المادية المتنوعة يجعلها تمنح النص فضاء يختلف عن الفضاء الذي تمنحه إياه الكتابة، على الرغم من التداخل من حيث بعض التقنيات بين الرواية والسينما، حيث استعارت الاولى كثيرا من تقنياتها من السينما، وأمدته كذلك ببعض التقنيات.
المعروف في عالم النقد الادبي استفادة الرواية الحديثة من تقنيات السينما، بيد أن الادب كان أسبق الى تزويد السينما بكثير من التقنيات، ففي بداية القرن استخدم جورج ميلة المواد الادبية كأساس للعديد من أفلامه. وقد أدعى كريفت بأن أبرز تجديد أثر في السينما كان مأخوذا من صفحات ديكنز، وأوضح ذلك إيز نشتاين في مقال تحت عنوان: "ديكنز وكريفث والفيلم اليوم" (18) حيث يرينا كيف قدمت روايات ديكنز لكريفث عددا من التقنيات من ذلك: الاختفاء التدريجي، وتكون الصورة، والتجزئة الى لقطات والعدسات الخاصة بالتحوير الخ، وأهمها جميعا مبدأ المونتاج المتوازي، الى جانب الوصف الذي غالبا ما يحول في الفيلم الى أحداث متسلسلة تشد المشاهدين. الى جانب لقطات وجهة النظر التي تجعلنا نرى الاشياء من خلال عيني البطل، وهي من أهم التقنيات.
وجهة النظر والإعداد الأدبي:
وجهة النظر في الرواية الخيالية تقرر بين المادة والرواية الذي نرى من خلال عينيه القصة، لأن الافكار والأحداث تتغربل من خلال وعي راوي القصة ولغته، الذي قد يكون أولا مشاركا في الفعل والذي قد يكون دليلا معتمدا يتبعه القارئ، وهناك أربعة أنواع أساسية لوجهة النظر في الروايات الخيالية:
- الشخص الاول
- العالم بكل شيء
- الشخص الثالث
تكون وجهة النظر في السينما أقل قوة من الرواية على الرغم من أن هناك بدائل سينمائية لهذه الانواع الاربعة الاساسية من السرد إلا أن الافلام الروائية الطويلة تقع بصورة طبيعية في الشكل العارف بكل شيء. وهو ما مجده في ريح الجنوب.
-
الشخص الاول يروي قصته الخاصة به:
في بعض الحالات يكون مراقبا موضوعيا يمكن الاعتماد عليه في سرد الاحداث بدقة. ورواة الشخص الاول الاخرون أكثر ذاتية في تدخلهم بالفعل الرئيسي.
ولا يمكن الاعتماد عليهم بصورة كاملة، وفي استخدام هذا النوع من الشخص الأول الذي يقوم بالسرد، يجب أن يدع كاتب الرواية القارئ في أن يرى الحقيقة بدون أن يحطم أو يضغط على القوة الاقناعية للراوي، ويقوم الروائي عادة بحل هذه المشكلة عن طريق تزويد القارئ بالإشارات التي تساعده في رؤية أوضح من رؤية الراوي نفسه وتستثمر الافلام تقنيات الشخص الأول بسرد القصة ولكن بصورة مجزأة، إن المقابل السينمائي لصوت الرواية في الادب هو عين آلة التصوير وهو اختلاف مهم، ففي الرواية يكون الفرق بين الراوي والقارئ واضحا، فهو يشبه أن يكون القارئ بالاستمتاع الى صديق يروي له القصة وفي الفيلم يقرن المشاهد نفسه بشخصية العدسة، وهكذا يتجه الى الامتزاج بالراوي، ولكن يقوم الفيلم بتقديم سرد على لسان الشخصية الأولى، فإنه على آلة التصوير أن تسجل من خلال عيني الشخصية، وهذا ما يجعل من المشاهد بطلا للفيلم.
وإذا كنا في الرواية نتعرف على الشخص الاول من خلال كلماته وأحكامه وقيمه التي تنعكس في لغته، فإننا في السينما نتعرف على الشخصية بمراقبتها إياها في ردود أفعالها تجاه الناس والأحداث، وما لم يقم المخرج بالخروج على التقليد الصوري للشخص الأول، فإننا لن نستطيع رؤية البطل أبدا، إذ نستطيع فقط أن نرى ما يراه.
ومن الاساليب الفيلمية المفيدة في حالة الشخص الأول، قيام الراوي بسرد قصته على المجرى الصوتي بينما تسجل آلة التصوير الاحداث عادة عن طريق لقطات مختلفة.
-
الرواية العالم بكل شيء:
ترتبط في الغالب بالرواية في القرن 19، وهؤلاء الرواة يشتركون عادة في القصة، وإنما يكونون مراقبين ملمين بكل شيء، يعطون القارئ كل الوقائع التي يحتاجها لكي يتذوق القصة.
ومثل هؤلاء الرواة باستطاعتهم مسح العديد من المواقع والفترات الزمنية، وبإمكانهم الدخول الى وعي عدد من الشخصيات المختلة ليخبروننا بما يفكرون ويشعرون، ويمكن الرواية العارف بكل شيء أن ينفصل عن القصة كما في "الحرب السلام" وبإمكانه أن يتخذ له شخصية متميزة كما في "توم جنون".
إن الرواية العارف بكل شيء لا مفر منه تقريبا في الفيلم، وفي الادب نجد الشخص الاول والراوي العارف بكل شيء النموذجين المتبادلين الوحيدين إذ لو أن شخصية الراوي الاول أخبرتنا عن أفكارها مباشرة، فإنها لا تستطيع أن تخبرنا بالتأكيد عن أفكار الاخرين، إلا أنه في السينما نجد أن الجمع بين الشخص الاول والرواية العارف بكل شيء شائع.
-
الشخص الثالث:
وجهة نظر الشخص الثالث هي في جوهرها تنويع للرواية العارف بكل شيء، وصيغة الشخص الثالث تعني أن الرواية لا يشترك في أحداث يروي قصة من خلال وعي شخصية واحدة، وينفذ هذا الراوي في بعض الروايات الى عقل الشخصية الرئيسية في حين لا يكون ذلك في البعض الآخر في رواية "جين أوستون" "الغرور والتحيز" مثلا نعرف بماذا تفكر وتشعر إليزابيث بينيت حول الاحداث لكن لا نتمكن أبدا من الدخول الى وعي الشخصيات الأخرى، إذ نستطيع فقط أن نخمن بما يشعرون به من خلال تفسيرات إليزابيث، وهي دقيقة في الغالب ولا تقدم مباشرة الى القارئ كما في الشخصية الاولى من خلال الرواية الذي يروي لنا الاستجابات.
وفي السينما هناك كذلك معادل تقريبي للشخص الثالث إلا أنه ليس قويا كما في الأدب، إذ نجد عادة رواية الشخص الثالث في الافلام التسجيلية، حيث يعلق مجهول يروي لنا خلفية الشخصية المركزية، ويستخدم الشخص الثالث وتجمع معظم الافلام بين الشخص الاول والثالث.
وجهة نظر الموضوعية:
نادرا ما تستخدم في الروايات، وإن كان استخدامها في القصص القصيرة أظهر، والصوت الموضوعي يعد تنويعا للعارف بكل شيء ويشبه هذا الصوت بألة التصوير التي تسجل الاحداث دون تمييز، حيث تقدم الوقائع للقارئ الذي يفسرها بنفسه ويعد الصوت الموضوعي أكثر ملائمة للفيلم منه للأدب (19) قد كانت إحدى المشكلات الجوهرية قبل 1948، صعوبة التعبير عن الأفكار، ولقد كان لاختراع الصوت ميزة عظيمة بالنسبة الى صانع الفيلم، حيث استطاع مع اللغة المنطوقة أن يعبر عن أي نوع من الافكار التجريدية تقريبا. بيد أن المخرجين السينمائيين راحوا يبحثون عن إمكانيات أخرى متمثلة في الصورة نفسها كمعبر عن الافكار المجردة، فاخترعوا عددا من التقنيات التشخيصية غير اللفظية.
ويمكن تعريف الاسلوب التشخيصي بأنه وسيلة يوحي من خلالها شيء ما بفكرة مجردة أو عاطفة مجردة أبعد مما يعنيه الشيء ذاته وهناك عدد كبير من هذه الاساليب التشخيصية التي تستخدم في الادب والسينما بيد أن أكثرها شيوعا ما يعرف بـ:
وهناك تداخل بين هذه المصطلحات المتشابكة بوصفها وسائل رمزية تضمن التقنيات ربما كانت طريقة وصف درجة بروز كل منها، فالمتكررات أقلها تطرفا والاستعارات أكثرها ظهورا والرموز تقع بين هذه وتلك، تتصل المتكررات بالنسيج الواقعي للفيلم وهي وسيلة تعاد بانتظام في الفيلم ومع ذلك، فهي لا تثير الانتباه بذاته، فحتى بعد عدة إعادات للمتكرر نجده لا يكون دائما ظاهرا لأن مغزاه الزمني لا يترك لكي يعلو أو يفضل نفسه عن حرفيته، والمتكرر قد يكون موسيقيا أو حركيا أو لفظيا أو مسموعا.
أما الرمز فلا يعاد ليوحي بفكرته إذ أن مغزاه واضح من إطاره الدرامي المحدد، وهو مثل قد المتكررات يمكن أن يكون شيئا ملموسا إلا أن هناك معنى إضافيا كامنا فيه.
أما الاستعارة فتعرف عادة بأنها مقارنة من نوع معين قد لا تكون صحيحة حرفيا. مصطلحان غير مرتبطين اعتياديا يوضعان معا وينتجان إحساسا معينا يعدم التمازج الحرفي ففي مقابل الاستعارات اللفظية المعروفة في عالم الأدب، فإن المونتاج في الفيلم يعد مصدرا متكررا للاستعارة، إذ أنه يمكن ربط شيئين أو أكثر في الاطار نفسه لخلق أفكار لا مقابل مادي لها في الواقع، فالاستعارة السينماسية، إذن بارزة دائما بعض الشيء، وبخلاف المتكررات وأكثر المتكررات وأكثر الرموز فإن الاستعارات أقل ترابطا من الناحية السياقية وأقل واقعية وفقا لإدراكنا العادي (20).
وأما الكناية، فإنها نادرا ما تستخدم في السينما لميلها الى استخدام التفصيل، ففي الكتابة هناك نطابق بسيط بين هذا وذاك بين شخصية أو موقف وفكرة رمزية عامة، ويتم تجنب الكناية عادة كونها تفتقر الى الرنين والإيحاء والغموض وكلها تجعل المتكررات والرموز والاستعارات مثيرة في الغالب.
أما التلميح فهو نوع شائع من المقارنة الادبية إنه إشارة متضمنة موجهة عادة الى حدث أو شخص أو عمل فني (21) من هنا يمكن القول أن هناك تداخلا في التقنية بين الفيلم والرواية، وإذا كانت الرواية قد أمدت السينما بمجموعة من التقنيات، فإن الفيلم حين استقام وجب عليه أن يرد جميل الادب وهكذا استفادت الرواية الحديثة بشكل واسع من تقنيات السينما، وغدت ظاهرة شائعة يمكن تتبعها عبر معظم الرواية الحديثة لاسيما تلك المعروفة بالرواية الجديدة.
وقد اعتمدت ريح الجنوب (الرواية) على بعض هذه التقنيات، ومن ذلك على سبيل المثال، اعتمادها كثيرا على الاستعارات، التي لم توظف بشكل جيد في الفيلم بيد أن الاستعارة الكلية التي تحكم عالم الرواية وعالم الفيلم أساسا في المدينة / القرية / الحياة / الموت.
كما يعد صوت الناي وريح الجنوب من المتكررات التي حكمت عالم الرواية وعالم الفيلم، بيد أن ريح الجنوب في الرواية أدت وظيفة أساسية بدء من العنوان، مرورا بأول فترة في الرواية الى اخر فقرة فيها، في حين أنها لم تؤد أية وظيفة في الفيلم (22).
الهوامش:
- عبد الحميد بن هدوقة، ريح الجنوب، المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع، ط5، الجزائر (د.ت) ، ص 7
- نفسه، ص 26-27
- نفسه، ص 29
- نفسه، ص 49
- نفسه، ص 62
- نفسه، ص 85
- نفسه، ص 87
- نفسه، ص 90
- نفسه، ص 102
- نفسه، ص 198
- نفسه، ص 334
- نفسه، ص 266
- لوي دي جانيتي، فهم السينما، ترجمة جعفر علي، دار الرشيد، بغداد 1981، ص 417
- نفسه، ص 418-421
- نفسه، ص 422
- نفسه، ص 425
- نفسه، ص 428
- نفسه، ص 418
- نفسه، ص 481-488
- نفسه، ص 460-464
- نفسه، ص 464-465
- ينظر على سبيل المثال: ريح الجنوب، ص 7، 13، 26، 27، 43، 85، 87، 90، 92، 101، 102، 105، 239