دلالة الزمان والمكان عند عبد الحميد بن هدوقة بان الصبح نموذجا

الاستاذ: رشيد قريبع جامعة منتوري قسنطينة
يتجلى الزمن الروائي في اللغة، لغة الوعي واللاوعي لغة النفس والقلب والضمير، لغة الأحاسيس والمشاعر التي تزكي الخيال فينقلنا من لحظة إلى لحظة ومن استمتاع غلى استمتاع (1) والزمن يسيطر في الرواية ويتعلق بالمكان فهما عنصران ضروريان لكل عمل وأساسيان لا يمكن تجاوزهما، وقد اكتسبت روايات بن هدوقة خصائص زمانية ومكانية وتراوحت هذه الخصائص من رواية إلى أخرى.
أ - دلالة الزمن في بان الصبح:
يكتسب الزمن أهميته من كونه أهم العناصر التشويقية "وهو الذي يحدد مجموعة الدوافع المحركة للأحداث، كالسيية والتتابع".(2) وليس له وجود مستقل فنستطيع استخراجه من النص مثل الشخصية أو الأشياء التي تشغل حيزا فالزمن يتخلل الرواية كلها ولا نستطيع أن ندرسه دراسة تجزيئية تقطيعية، هو الهيكل الذي تبنى عليه الرواية، وهو يؤثر في العناصر الأخرى وينعكس عليها، وهو حقيقة مجردة وسائلة لا تظهر إلا من خلال فعلها في العناصر الأخرى استعارت بعض المدارس عبارات من فنون أخرى للتعبير عن حركية، " كالفلاش باك" و"المونتاج" و " التقطيع" وهي عبارات تشيع عادة في السينما استعارها المنظرون الروائيون في محاولة لرصد حركية وسيرورة الزمن.
"ونحن نعلم أن الكاتب إذا شرع في عملية الكتابة فإن عمله يدخل ضمن الماضي، فإذا رجعنا إلى أي عمل روائي فإننا سنلاحظ أن الرواية بالنسبة للروائي حدث زمنه الماضي، وحين يتولد مشروع بداية الكتابة لدى الروائي فإنه تتحقق نتائجه ونهايته بمجرد البداية فيه، والزمن ضمن هذا المشروع إنساني، مستغرق في الخبرة الخاصة بكل إنسان. ابن هدوقة مثلا عندما يتحدث عن بطل من أبطاله أو حادثة ما حصلت له فإنه ينبش في المعين الذي يشكل خبرة المتلقي، هذا الأخير ينطلق من المكتسب الحاصل لتفسير ما يتلقاه، ينساق ابن هدوقة وراء الزمن ويلتزم به، فالزمن نسج ينشأ عن سحر ينشأ عنه العالم، ينشأ عنه جمالية سحرية أو سحرية جمالية... فهو لحمة الحدث وملح السرد".(3)
يستفيد ابن هدوقة كثيرا من التاريخ ويوظفه توظيفا ذا مدلول استحضاري استذكاري يؤثر في الواقع الذي يعيش فيه أبطاله. أما الملاحظة التي يمكن الخروج بها فهي أن هذا الزمن غير سريع ويختلف من نص لآخر تبعا لاختلاف وضعية القائم بالفعل؛ هناك فعل يكتنفه الحال ويكاد أن يكون تصويريا، ثم يأتي الفعل الذي بعده سريعا يميل إلى التصويرية. ويكون الفعل اللاحق لهما في صورة المبني للمجهول، ولعل الملاحظة في الوضعية الأخيرة هي أن الزمن ثقيل ومتفاوت.
أما من الناحية الفعلية فقد سيطرت الجملة الفعلية على النص الروائي، ولكنها اختلفت حسب مواضع متعددة، يقول مثلا: " اتمت دليلة الحركات التي تقوم بها كل صباح، وتقدمت من مرآة الخزانة وقالت...، وفكرت لحظات وهي واقفة... وتنهدت وهي تنظر إلى خصرها وسخرت منه ... اتجهت على إثر ذلك إلى منضدة السرير فأخذت سيجارة وجذبت أنفاسها".(4)
المقطع السالف مطبوع بطابع الركود والفعل الواصف، أما المقطع التالي فمتحرك وفيه ضجيج وصخب وهرج يقول: "هذا لحاف يمزق وتلك رجل تداس وذاك شيخ يكاد يقع على الأرض... والكل لا يأبه بالكل، صرخت امرأة بين اللواتي تقدمن للركوب".(5) يتعب الكاتب كثيرا في رسم معالم روايته وبناء تقاطيعها فيجنح إلى الخيال المهيمن، الذي يفرض عليه طريقة خاصة، وهو مثل البناء يكابد الكثير من أجل تحقيق الوجود المادي الفعلي، للمخطط الهندسي وهو يؤكد انتماءه الزماني وتمترسه المكاني عن طريق توظيفه للعناصر التي تدل على المكان المحدد: " إن الحيز الأدبي عالم دون حدود وبحر دون شاطئ وليل دون صباح ونهار دون مساء، إنه امتداد مستمر مفتوح على جميع الاتجاهات".(6)
وحتى اللغة التي تستعمل للتعبير عن مضمون الحيز وتشكيلته فإنها تتغير بتغيره أو بتغير هذا المضمون وقد تجاوزت المدلولات البسيطة لتكتسب إيحائية وترميزا يشيران إلى معرفة خارجية، فلفظة "بسيشي" مثلا تحيل إلى اللوحة المعلقة على الجدار في غحدى الغرف وهي لوحة للرسام الإيطالي "فرانسوا جيرار" وهي تحيل بدورها إلى قصة الفتاة التي عرفت الحب لأول مرة والمعانات التي عاشتها نتيجة ذلك، وهناك لوحة ثانية وضعت في مكان آخر لكنها صورة رجل يحمل رجله المقطوعة وهي تذكر بحادثة الحكيم بن جبلية العبدي الذي نقض قومه العهد الذي أبرموه مع الزبير وطلحة فخرج لهم طلحة في أصحابه فقتل منهم سبعين رجلا وكان حكيما قد أبلى بلاء حسنا، وقيل أن رجلا من أصحاب طلحة ضربه ضربة فقطع رجله ولكنه لم يستسلم وتدحرج حتى التقط رجله المقطوعة وضرب بها قاطعها فصرعه وجعل يقول: "يا نفس لا تراعي إن قطعوا كراعي فإن معي ذراعي".(7) وقد تراوح الزمن في رواية بن هدوقة بين الزمن التاريخي التي يتعلق أساسا بالأحداث العامة وهي بدورها غلاف تتفاعل ضمنه جملة الأحداث الفرعية التي تشكل الزمن الحاضر، أو الزمن الماضي ثم الانطلاق إلى الزمن المستتقبل وهو الزمن الذي يحتمل "التوقعات وصيغ التحذير والتهديد حيث يتم الحديث عما سيقع أو يمكن أن يقع قبل حدوثه".(8) وهذا في حد ذاته يمثل نوعا من الاستشراف أي تجاوز الزمن الحاضر عن طريق تشاكل الأزمنة الثلاثة:
التاريخ والماضي والحاضر، التاريخ يتألف عادة من الرصيد الثقافي، الديني والاجتماعي ويمكن التمثيل له بالصورة الجدارية. أما الماضي فيمكن أن يكون زمن المستعمر والأحداث التي أعقبت الاستقلال ثم يأتي الماضي ومشاكله وصور التناطح والتشابك بين الرجال والنسوة في الحافلات وفي الأسواق وغيرها. وأخيرا هناك المستقبل الذي تنطق به الآمال والطموحات لدى الأفراد والمساكين خاصة.
نلاحظ خلال قراءتنا للرواية أنها تجمع بين ضميري المتكلم والغائب، وهما صيغتان تعكسان درجة زمن القص وزمن وقوع الأحداث الروائية فالصيغة الأول تعتمد الأسلوب المباشر في الخطاب بينما تعتمد الصيغة الثانية الأسلوب غير المباشر وهي صيغة تعبر عن بعد المسافة بين الزمنين ووجود فاصل بين الراوي نفسه محصورا بين نمطين سرديين احدهما يقترب من أشكال القص التقليدية والآخر من المذكرات والسير الذاتية و المونولوج. اعتمد بن هدوقة على صيغ زمانية مباشرة للدلالة على الزمن وتحديد وقته مثل:
"هل في الماضي كانت الملاعب متوفرة".(9)
"أنت الماضي".(10)
"الآن لنا الحق في ركوب الحافلة. والآن وبعد الذي رأي وسمع...".(11)
وأزمنة الرواية انطلاقا مما تدعو إليه النظريات الحديثة هي:
1- زمن كتابة بان الصبح:
هو الزمن الذي كتب خلاله عبد لحميد بن هدوقة روايته وهو ضروري لوضع الرواية والأحداث التي تسري ضمنها في سياقها الزماني: زمن الكتابة كما يظهر في نهاية الرواية رمضان سنة 1978.
2- الزمن التاريخي في بان الصبح:
هو زمن وقوع الأحداث التاريخية، بطولة الشيخ علاوة وأخيه صالح والثورة وأعمال المجاهدين وتضحيات الجزائريين في الماضي، والرحلة إلى تونس: " مسيرتي إلى تونس أثناء حرب التحرير هي تأثيرة حريتي وضريبتها في نفس الوقت".(12)
3- الزمن الحاضر في بان الصبح:
هو زمن وقوع الأحداث وسيرها وهي ترجمة لحياة أسرة جزائرية ووصف لحياتها اليومية.
4- الزمن الماضي في بان الصبح:
يظهر في الرواية خاصة عبر الإستذكارات عند دليلة ونصيرة وصالح وعلاوة.
5- الزمن المستقبل في بان الصبح:
انطلاقا من الواقع وما يجري فيه تتطلق الأسرة موضوع الرواية إلى الحرية والحياة السعيدة والتخلص من السجن الذي فرضه الوالد والعادات والتقاليد.
6- وبجانب هذه الأزمنة هناك زمن مطلق يضم الأزمنة السالفة وهو زمن تركيبين وموجه يسيطر عليه الراوي - ويتصرف في تركيبه ولا باس أن نشير في الأخير أن الشخصية الروائية هي التي تجسد الزمن وتكون محورا له.
"إن الحدث، من حيث هو، يجب أن يتسم بالزمنية، والزمن من حيث هو يجب أن يتصف بالتاريخية في أي شكل من أشكالها. وإذا كان الروائيون الحدث يرفضون تاريخية الأحداث، وواقعية الشخصيات في اي عمل من الأعمال السردية فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا بأن إبداعاتهم الروائية مهما تحاول التخلص من الزمن والتنكب عن سبيله فإنها واقعة تحت وطأته، فالزمن إذا ضرب من التاريخ والتاريخ هو أيضا في حقيقته ضرب من الزمن، فهما متداخلان، بل هما شيء واحد. يبقى فقط التمييز بين حدث إبداعي يقوم على الخيال والبحث، وحدث تاريخي يزعم له أنه يقوم على الحقيقة الزمنية بكل ما تحمل من شبكية تستمد حبالها المعقدة من الإنسان وحياته، وصراعه وإصراره".(13)
وهكذا فإن روايات بن هدوقة جزء في الزمن وهي محتواة ضمن الزمن الإنساني ولا يمكن أن تنفصل عنه بأية حجة أو بأية حال من الأحوال. وكاتبنا يحقق لزمانه الآني وجودا في الرواية وبعدا، ولكنه يتيح للقارئ أن يستشرف ما يمكنه أن يصل إليه بخياله. هموم الإنسان الجزائري محتواة في روايات عبد الحميد بن هدوقة ورواياته فقرات زمنية ناطقة تعبر عن لحظات إنسانية.
إن قوة الإبداع تكمن أن الرواية بوصفها حكاية لا تتجسد ناضجة مستوية وواضحة متبلورة، في شريط الذاكرة الناطقة، إلا بعد مرور بشبكة من المراحل قد تتعدد وتطول، وقد تتعدد وتقصر، وهي في الحالتين مجسدة في عالم المخيلة الخلفية التي تمد الملكة المملية وهي مرحلة نهائية تستوي فيها صوره الحكاية أو القصة، عبر الرواية، وهو ما يطلق عليه "طودوروف" (زمن الحكاية). وعبد الحميد بن هدوقة قادر على تجاوز زمانه ومتمكن من وضعية زمانه.
ب- دلالة المكان في بان الصبح:
تعامل عبد الحميد بن هدوقة مع الحيز بوعي كبير فاستثمره بطريقة توحي للقارئ بأن ما يمر عليه خلال القراءة شيء حقيقي وممكن، وكان منطلق التعامل مع هذا العنصر ملتصقا بالحقبة الروائية أو المذهب الذي ساد خلال زمن كتابة الرواية، فقد ركز بن هدوقة على الوصف الطبيعي الواقعي للحيز وإن كان ذلك يتم بصورة احترافية، فهو يتنقل ضمن رواياته من حيز لآخر، ويحل بالقارئ في رحلة شيقة متعبة يطوف خلالها كل أرجاء الرواية.
وهو وغيره من الروائيين المحترفين الذين اكتسبوا خبرة وثقافة يعتمدون اللعب بالحيز والدس فيه القارئ أمرا لا ينتهي فيها إلا وجه، وقد وظف كاتبنا الحيز بدقة متناهية لغاية النص الروائي فاتخذ من كل تحرك أو سكون غاية ومن كل تحول أو تنقل حدثا ومن كل قلق أو ضيق بالحيز سببا في السعي إلى تحقيق غاية أو تطور. لقد بدأت الرواية العربية في المدة الأخيرة بصفة عامة تلتفت إلى عناصر تشكيلية مخصبة تضفي تمييزا أو تخصيصا على كتابتها، وهذه العناصر تتراوح بين كونها مستمدة من التراث العربي الأصيل أو من المعين العالمي.(14)
ومن أهم عناصر هذا التشكيل الفني:
- استلهام بعض عناصر ومكونات التراث التاريخي، وقد تجلى ذلك عند ابن هدوقة في اللوحة الثانية.
- تعدد اللغات والأصوات، إن أهمية اللغة في النصوص الروائية كبيرة وخطيرة، لذلك سعى الروائيون غلى تجسيد وجودها عن طريق تنويع نبرتها لتحقيق وجود الشخصيات الحقيقي والكامل وذلك بتشكيل الماهية عبر ملامسة المستوى الطبيعي للشخصية، وطريقة تحريك هذه الشخصيات تعطي رسما دقيقا داخليا أو خارجيا.
تقول عزيزة:
- "فكريا مجيد إنني امرأة.
- إن الفتاة ليس لها أن تجابه أباها بما تحب.
- ليس لها أتضحي بسمعتها وسمعة أهلها من أجل الحب".(15)
البطلة هنا تعبر انطلاقا من رصيد وموقع اجتماعيين تشكلا نتيجة جملة من الموروثات والعناصر ونشعر رغم ذلك أن روايات بن هدوقة تميل في معظمها إلى استرشاد الضمير وممارسة الكتابة المقترنة بالوعي، ومع أننا نلاحظ عزيزة هنا تشعر في داخليتها بأن عاطفتها طبيعية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لكي تتجرأ على المكاشفة، إنها تعلم أن انتماءها وانتماء والدها إلى زمنين مختلفين وهما يعيشان ضمن ذات الزمن سيكون حائلا أمام تحقيق رغبتها. التفت بن هدوقة إلى الحياة التي تحياها الأسرة الجزائرية فصورها "ورؤيته تعد رؤية صادقة وأصلية مما جعله يصل إلى نضج كبير مكنه من التفتح على العالم واستلهام التراث في آن واحد، ومثل هذا التفاعل هو المطلب التاريخي المرام".(16) ولكن بن هدوقة لا يقف دائما موقفا إيجابيا من الواقع قد يكون الناس سببا في تعكير الحياة وإفساد المكان وحتى العمال الذين يفترض أن يسعوا إلى تحسين البلاد ومحاربة الإقطاعية وكل أشكال الفساد فإن من بينهم من هم عكس ذلك:
"هؤلاء ليسوا عمالا، ليسوا آباء، ليسوا أبناء، ولا حتى بشرا هم ملاحدة أوباش".(17) إن "الرواية تقدم شيكة علاقات متخيلة تبنى على أساس واقعي مكون من الضرورة من تموجات اجتماعية ونفسية سيصل المجتمع عن طريقها إلى النتيجة المتوخاة في حركته ومكون أيضا من بعد فكري وعقائدي يقدمه الروائي بعد مزجه مع رؤية طبقية مواقعها".(18)
إن الواقع الذي يتحدث عنه عبد الحميد بن هدوقة هو واقع مشكل، تتفاعل معه جملة من العناصر والأحداث.
وما يميز العمل الروائي لديه هو تعدد المفتاء فيه وهي ظاهرة جمالية، إنه يجمع بين الريف والمدينة، وفي رواية "بان الصبح" تعددت الأمكنة وتنوعت بتنوع الشخصيات وتصاعدها داخل الرواية وكانت بذلك انعكاسا حقيقيا للمطبقات الاجتماعية، والمكان "يكتسب وجودا متميزا من خلال أبعاده الهندسية والظيفية، فإذا كانت الفضاءات المفتوحة امتدادا للفضاء الكوني الطبيعي العام مع تعديل وتكيف على حساب الحاجة والضرورة فإن حياة الإنسان ترتبط ارتباطا بارزا بتلك الفضاءات التي يقيم فيها".(19)
وفي بان الصبح يسيطر فضاء المدينة، فتقلص المسافة بين الشخصيات وهي تجمع بين فئات المجتمع وأقسامه، بن عبد الجليل يمثل البورجوازية، وبيت نصيره يمثل الطبقة المتوسطة، وتمثل العدية الحاة الريفية البسيطة. ويتوزع المكان في الرواية على فضاءات هي:
1_ فضاءات خصائصها:
منغلقة:
- فضاء البيت.مكان للراحة والأنسة والالفة.
- فضاء الحمام.مكان للاستراحة والاستجمام ومركز للتجمع.
- فضاء المدرسة.مكان للتعليم والاكتساب والصرامة.
- فضاء المطعم.مكان للاستراحة يظهر في النهاية.
- فضاء العيادة.مكان لتلاقي والاستشفاء وهي شبيه بالمحكمة.
2-فضاءات خصائصها:
مفتوحة:
- فضاء المدينة.- مدينة العاصمة وانهج تيزي وزو،
شخصياتها متناقضة هي صورة للواقع الاجتماعي.
- فضاء الريف.-ناذر وذو أهمية، العصبية والعقلية الطيبة والبساطة.
- فضاء الأحياء والشوارع- فيه السلبيات والإيجابيات وأسماؤه حقيقية.
- فضاء المحطة.- مكان للتنقل والتلاقي و حركي هو صورة مصغرة للمدينة.
- فضاء البحر.- مصدر للنعمة والرزق ومساحة للحلم والقرب والفراق.
الرواية غنية بالأمكنة ومساحة للحوار والنقاش الإيديولوجي والفكري وقد استطاع الكاتب استثمار هذه الفضاءات وتسخيرها من أجل إقناع القارئ بما تحتويه. إن المكان الذي ينجذب تحته الخيال لا يمكن أن يبقى المكان لا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسبن فهو مكان قد عاش فيه بشير بشكل موضوعي فقط ،بل في كل ما في الخيال من تحيز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية. نحس ونحن نقرأ روايات عبد الحميد بن هدوقة أن كلامه ووصفه إنما هو إطلاق وامتداد وظلال لحياة أو تجارب عاشها لهذا فإن البيت الذي يعتبر أهم ركن لنا في العالم يتجلى بكل تقاطيعه في رواياته، وهو كما يقول "باشلار" كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى وإذا طالعنا بألفة فسيبدو أبأس بيت جميلا، إن مؤلفي كتب البيوت المتواضعة كثيرا ما يذكرون هذا الملمح من جماليات المكان ولكن هذا الذكر مختصر جدا، فلأنهم لا يجدون إلا القليل يقولون عنها فإنهم يكتبون عنها باستعجال، إنهم يصفونها كما هي دون معايشة بدائياتها تلك البدائية التي تسم كل البيوت - غنيها و فقيرها - والتي يتم اكتشافها إذا رغبنا أن نمارس أحلام اليقظة. إن الكاتب يستطيع الاعتماد على خياله لا لتسوية النقص الموجود في المكان الذي بلغه وبوسعه أيضا أن يعطي لبيته أبعادا جمالية جديدة، وتأتي الألفة في الحياة ضمن البيوت من عناصر هذه البيوت: الأفراد، الأسرة، الأبواب الصور وهي كلها تأخذ أبعادا نفسية وخيالية حميمية لأنها تمتلئ بالذكريات.
إننا نشعر خلال قراءتنا لروايات عبد الحميد بن هدوقة بأنها تشبه كثيرا تلك الروايات التي أنتجها روائيون كبار مثل ("فولبير" في روايته العجيبة) مدام بوفاري، ونجيب محفوظ في "زقاق المدق" التي يصور بالعدسة القلمية الشارع الشعبي البسيط حتى كأننا نراه. يمعن الكاتب في وصف الناس وملامحهم ويرسم الحيز وصفا دقيقا حتى فكأنك تصبح واحدا من الشخصيات التي تتحرك ضمن الإطار الروائي وقد اخذ بعين الاعتبار 6382 كل الدقائق والثانويات، الحيز العام، القرية، المدينة، الحيز الخاص أو الجزئي، الإطار الذي تتحرك فيه الشخصيات وتقضي ضمنه حاجاتها. وفي النهاية أقول إن بن هدوقة لم ينفصل في كتابته الروائية عن التيار العربي بصفة عامة وعن الحيز الذي ينتمي إليه، فكان يرجع دائما إلى الكنوز الإسلامية العربية من أجل تطعيم كتاباته الروائية.
قائمة المصادر والمراجع:
1. محمد سويرتي: النقد البنيوي والنص الروائي، الجزء الثائي، إفريقيا الشرق 1991.ص10.
2.سيزا قاسم: بناء الرواية، دار التنوير، بيروت ط1 1985. ص34.
3.عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية، عالم المعرفة، عدد 240 سنة 1998، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت. ص207.
4.عبد الحميد بن هدوقة: بان الصبح، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر 1980. ص50.
5.المصدر نفسه. ص50.
6.عبد الملك مرتاض: مرجع سابق. ص157.
7.بان الصبح. ص149.
8.ينظر: عبد الحميد بورايو. منطق السرد.
9.الرواية. ص25.
10.الرواية. ص.25
11. الرواية. ص26.
12. الرواية. ص236.
13.عبد الملك مرتاض: مرجع سابق. ص209 _ 210.
14.ينظر محمد برادة: أسئلة الرواية، أسئلة النقد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1996. ص79.
15.عبد الحميد بن هدوقة: الكاتب وقصص أخرى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر. ص29.
16.فهيمة الطويل: صورة المرأة في روايات بن هدوقة، رسالة ماجستير، معهد الآداب واللغة العربية، الجزائر 1986.ص25.
17.بان الصبح. ص178.
18.ينظر محمد كامل الخطيب: الرواية والواقع، دار الحداثة بيروت ط1 1981. ص110_115.
19.قرطي خليفة: المدينة في الرواية الجزائرية العربية، معهد الأدب العربي، جامعة الجزائر 1995. ص216.