دلالات الجسد في عناوين ثلاثية أحلام مستغانمي

أستاذ: عبد الحميد ختالة
يعود عنوان أي مؤلف ما بمثابة الاسم للشيء، يشار به إليه وبه يتداول ويعرف ولذلك كان العنوان ضرورة كتابية، قد يستغني عنه عند الاتصال الشفهي وحينما يحل المرسل محل العنوان من خلال التقديم الافتراضي الذي يقدم به، أما عند الاعتماد على اللغة الكتابية فيصبح مفروضا وجود علامات يتعوض بها المكتوب فيه أو بالأحرى المكتوب عنه.
يطلع العنوان بدور التقديم الموجز والشامل للمعني المكتوب، ولا يمكن بأي حال اختزال العلاقة بين العنوان والمعنون في وظيفة أحادية باتجاه واحد ينطلق من الأول إلى الثاني فيما يشبه الإحالة أو الإشارة. مع الأخذ بعين الاعتبار العنوان على أنه نص نوعي له بنيته وإنتاجيته الدلالية وسياقه المعرفي والتخييلي.
رغم العمل المقصود من وضع العنوان إلاّ أنه يدل في مظهره اللغوي على وضعية لغوية شديدة الافتقار إذا لا يتجاوز حدود الجملة إلاّ نادرا وعلى الرغم من هذا الافتقار الغوي فإنه ينجح في فتح قناة اتصال حقيقية بين المرسل والمرسل إليه على قاعدة العمل الذي يعنونه (1) (ينظر محمد فكري الجزائر ص 21).
يشكل العنوان في زاوية رؤية المتلقي ثنائية الحضور والغياب، باعتبار أن العنوان هو الحاضر وما يدل عليه ويوحي إليه في العمل الأدبي هو ذلك الغائب الذي يتولى المتلقي مهمة البحث عنه داخل النص.
يتضح مما تقدم أن العنوان هو حقل الاشتغال الأول بالنسبة للمتلقي، وبالتأكيد كان قد شكل حقل الاشتغال الأخير عند المرسل وإذا كان هذا الأخير قد انطلق من مقصديه مبيتة في بثه العنوان. فإنه في المقابل ينطلق المتلقي من خلفية معرفية واسعة جدا من أجل تحديد محمولات ا لعنوان الدلالية ومحاولة استحضار المغيب عن بنية العنوان المتميزة بالافتقار اللغوي.
تذهب هذه المداخلة إلى البحث في المحمول الدلالي للعناوين المختارة لثلاثية أحلام مستغانمي والمتمثلة في رواية "ذاكرة الجسد" أولا ورواية "فوضى الحواس" ثانيا ورواية "عابر سرير" ثالثا. وسيكون التركيز على دلالة الجسد في عناوين هذه الروايات الثلاث.
تفردت الكاتبة والشاعرة الجزائرية "أحلام مستغانمي" في تجربتها الروائية بكونها أول روائية جزائرية خرجت بتجربتها الكتابية من نطاق المحلية إلى فضاء أوسع. وهي دون شك مغامرة صعبة لاسيما حين نعلم أنها اختارت الكتابة باللغة التي صمت لأجلها "مالك حداد" عن الإبداع، إذ تقول في إهداء روايتها "ذاكرة الجسد": "إلى مالك حداد...ابن قسنطينة الذي مات متأثرا بسرطان صمته ليصبح شهيد صمته ليصبح شهيد اللغة العربية وأول كاتب يموت قهرا..." وليس عبثا أن تضمن 3 أحلام مستغانمي "هذا الإهداء لروايتها فالآخر لا محالة متعلق بعشق متميز للغة العربية. وفي العمل الثاني والثالث للرواية حضور آخر ذلك التميز الذي تجلى في روايتي "فوضى الحواس" و "عابر سرير". ولعل ما يلخص مضامين هذه الثلاثية ما قاله نزار قباني في "ذاكرة الجسد" وعن الكاتبة "أحلام مستغانمي": "...لقد كانت مثلي متهجمة على الورقة البيضاء بجمالية لا حد لها وجنون لا حد له الرواية قصيدة مكتوبة على كل البحور، بحر الحب، وبحر الجنس، وبحر الإيديولوجيا، وبحر الثورة الجزائرية بمناضليها ومركزيتها، وأبطالها وقاتليها وشياطينها وأنبيائها وسارقيها..." (انظر في رواية ذاكرة الجسد، ط5، 1998).
1-تحديد موضوع والبحث عن موقع:
يحقق الجسد في النص الأدبي دلالات متعددة منها الدلالة الفنية التي تعود المؤلف ومنها الدلالة الجماعية التي يتم إنتاجها في علاقة القارئ بالنص، فالنص يعتبر أحد الفضاءات التوليدية والتحويلية للجسد، وهو مسكن تخييلي للجسد. فيه يتجسد ويحقق وجوده المتخيل "(فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط3، 2003، ص25).
يأخذ النص من الجسد إيحاءات الرمزية وحيوية علاقاته بالعالم الخارجي كما بالعالم الداخلي، ويجعل من ترابطه وسيلة فاعلة يتمكن من خلالها إنتاج أثره الفني، وبذلك يقف الجسد والنص ليشكلا ثنائية البناء البيولوجي والبناء الثقافي وهنا تتحقق الإمكانات الإجرائية للجسد في النص الأدبي. تنطلق خلفية المتلقي للجسد في الأثر الفني الأدبي إلى تأنيث هذا الجسد، حيث أن دراسة الجسد الأنثوي بالسرد ليس هو رصد المعجم الخاص الذي يحدده النص فحسب، بل أيضا العلاقة التي يخلقها هذا المعجم بالسياق الذي يحيطه. فعنوان الرواية الأولى "لأحلام مستغانمي" "ذاكرة الجسد" يكون قد عرى لفظة الجسد من الدلالة الإيديولوجية عندما جاءت مضافة إلى الذاكرة. فالمتلقي هنا بصدد الذاكرة التي هي جانب تخييلي يبتعد كلية عن المادي، لكن ذلك يبقي حضور الجسد هو أن موضع الذاكرة يكون أصلا في بعض من الجسد، وهذا بالذات الذي يبقي مستغلقا في العنوان المذكور. فأي جزء من الجسد تحمل عبء التذكر أو التذكير "هكذا تتأرجح الذات بين الإحساس المؤلم بتبعيتها لما هو سائد والاعتراف به كواقع، وبين الإنصات إلى رغبات الجسد السالبة "(محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1988، ص19).
تكسب الكتابة بالجسد الذات هويتها، تلك الهوية مرغمة للسائد الاجتماعي وقد جسد ذلك العنوان الثاني للرواية، فالفوضى التي تدكت حواس الجسد لم تكن إلاّ تعبيرا عن هوية حائرة بين ساند اجتماعي مجنون لم تعد لديه القدرة على تنظيم ذاته وتحديد الأنا من الآخر، وسط زحمة الأنات المتعددة والآخر المتمثل في الراهن أو الواقع المعيش ويشكل الوعي بالتعامل مع هذه الفوضى التي ميزت الحواس في خلق علاقة إبداعية بين الكتابة والجسد من جهة، وبين الإبداع والمرأة من جهة أخرى.
إن كتابة المرأة تفجير للأشياء ينطوي عليها الجسد، وهي كامنة تطل عبر الإيحاءات والإيماءات وتكثف فعلها في جسد الآخر المتماهي والمختلف، ومن أجل هذا كان "النص المكتوب امتداجا وجوديا للذات الكاتبة وتكثيفا لأشياء أخرى تتجاوزها" (نور الدين أفاية، المرجع السابق، ص41).
يشكل جسد الآخر في رواية "عابر سرير" حين يستحضر العنوان عبورا متميزا لذات ذكورية وهنا الذي يفهم تصريحا من خلال اسم الفاعل "عابر" إلاّ أن الجسد الذكوري لم يكن مارا في المكان. مرد ذلك إلى أمرين، الأول هو أن مكان العبور اختصاص أنثوي محض وهو السرير، أما الثاني فيرجع إلى مدى التوافق بين الثبات والمتحول في السائد الاجتماعي حول خصوصية مكان العبور.
فالمرأة الكاتبة تكتب بالجسد وتحوله إلى أيقونة، صورة ذهنية لا تكتمل إلاّ بتمثلها لدى الرجل الذي يمتلك مرجعية هذه الصورة عبر تصورات راجعة إلى التأسيس الميثولوجي لظاهرة الفحولة وبذلك لا يتحقق للجسد الأنثوي كينونته إلاّ إذا كانت نظرة الرجل إليه تؤسس المعرفة بحدود انفلاته البلاغي وتمنعه المعهود.
2-التركيبة الثنائية للعنوان/دلالة المزج:
إن أول قراءة لعناوين ثلاثية "أحلام مستغانمي" تقف على التركيبة الثنائية لجملة العنوان "ذاكرة / الجسد" و "فوضى / الحواس" و "عابر / سرير" ولا شك أن لهذه البنية اللغوية مقصدية لا تقل أهمية عن مقصدية اللغة في النص المسرود، وتدور هذه المقصدية في دائرة الحبل القديم الدائر بين الحضور والغياب والذي تنبثق عنه توالديا ثنائية المرأة والرجل.
توحي ثنائية العنوان الأول "ذاكرة الجسد" إلى ما تسبق إليه فالذاكرة اختصاص ذكوري، والبنية البيولوجية تلحق فعل التذكر بالرجل على خلفية أن المرأة ضعيفة الذاكرة وليس لها القدرة المؤهلة للقيام بذلك. ومن أجل هذا غابت المرأة عن فعل كتابة التاريخ حتى وإن كانت فاعلا مهما في مشكلة سواء أكان ذلك سلبا أم إيجابا. كما يشترط الشارع امرأتين عند الشهادة "حتى تذكر إحداهما الأخرى". لأنه في هذه البنية اللغوية تمرد لغوي واضح يخرج الذاكرة عن المألوف، فهي تبقى ذكورية محضة، حيث تلحقها أحلام بالجسد. ولا شك أن الجسد الأنثوي أكثر احتواء للذاكرة وللكتابة من الجسد الذكوري. وهنا تظهر العلاقة بين الجسد /المادة والذاكرة / الروح. ففي اتحادهما عند لوكريس Lucrèce وحركتهما يشتعل بداخل الإنسان توهج الحياة، فالجسد يحرم من الإحساسات إذا تعطلت الروح. فالمرأة التي تكتب (باللغة والوشم والرقص) تغير أماكن التمويه بجسدها وتعبر عن رغبة لا تتكلم نفس اللغة التي يبرز فيها الرجل رغبته، وهذه العناصر – كما يرى سعيد بنكراد- مجتمعة لا تشكل الرغبة ولكنها تشكل الوجود الرمزي للرغبة (انظر بنكراد- السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، منشورات الزمن شرفات سلسلة 11، بدار البيضاء، 2003، ص129).
فرغبة الأنثى تنفلت من مناطق العقل الذي يريد الرجل دائما إخضاع كل شيء له. وهذا من منطلق التعنيف الذي يمارسه الرجل كتعويض عن عدم خضوع المرأة لمنطقه.
فالرجل بهذا المنطق يقول بالتطابق والتوالف بينما تتوقع المرأة في قلب المتعدد. فهي ليست واحدة ولأن جسدها مساحات متنوعة من الذاكرة والكتابة والمتعة. تستمر البنية الثنائية في العنوان الثاني "فوضى الحواس" دون أن يتخلى عن حضور الجسد كدلالة مضمنه حتى وإن كانت متجزئة ومختلفة في مفهوم الكلية والاتحاد الذي ظهر في العنوان الأول، فالجسد كل وأجزاء في الوقت نفسه، وهو باعتباره كذلك "يولج معطى انفعاليا و غريزيا وثقافي عاما ولكن هذا المعطي لا يدرك إلاّ من خلال الأجزاء، ولا ستقيم وجود هذه الأجزاء إلاّ من خلال اندراجها ضمن هذا الكل الذي هو الجسد" (سعيد بنكراد، السيميائيات...ص129).
أصابت أجزاء الجسد في عنوان الرواية الثانية فوضى وإلاّ أن هذه الفوضى في الحقيقة هي ////فوضى عميقة جدا أصابت الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان متوحدا فالبحث في البناء النحوي للجزئية الأولى من العنوان، تجعلنا نقف عند طبيعة التنكير الذي ميزها ونحن نعرف أن التنكير يفيد العمومية والشمول، عمدت الكاتبة الى تخصيصه على الحواس، التي هي بعض من الجسد. إذ لا تكتمل المتعة إلاّ إذا انتشت كل الحواس في الإنسان ولذلك قال الشاعر: "اسقني خمرا وقل هي الخمر..."، طلب الشاعر من الساقي أن يقول: هي الخمر" تحقيق لنشوة اختصت بها حاسة السمع. وإذا ما أصاب هذه الحواس مجتمعة فوضى. تقاطعه الدلالات وتعدد المتوحد.
تعمل الروائية في هذا العنوان على أشغال الأنثى بالجسد من أجل القيام بعملها الطبيعي في ترتيب كل ما هو فوضوي. وهنا بالذات تتموقع المرأة كجسد يبحث عن تناسق وتناغم لا يقبل المكوث وسط الفوضى". ولكي يكتسب الجسد قيمته لابد من أن يضفي على ذاته أشكالا أخرى جذبا وإغراءا لتسهيل تبادله (الهوية والاختلاف، محمد أفاية، ص55).
وهكذا يكون الجسد مظهرا من مظاهر الثقافة والكتابة في ثلاثية أحلام مستغانمي، إذ تعكس العناوين الثلاثة أو تعارض.