دراسة تحليلية لرواية "غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة

بقلم الاستاذ عبد العالي بشير من جامعة تلمسان
بقلم الاستاذ عبد العالي بشير من جامعة تلمسان
مقدمة منهجية:
قبل الشروع في تحليل رواية "غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة، يجدر بنا أن نسجل الملاحظات التالية:
- يصبح النص الابداعي منفصلا عن صاحبه، بمجرد ما أن يضع هذا الاخير نقطة النهاية. ومن هنا يحق للناقد أن يتعامل مع النص على أنه إبداع لغوي بغض النظر عن صاحبه وعن الظروف التي كتب فيها.
- حاولت في تحليلي للرواية أن أبتعد بقدر الامكان عن شرح وتفسير النص، لأن هاتين العمليتين غالبا ما يجعلان الدارس يسقط في فخ الأحكام الارتجالية والتعسفية.
- اقتصرت دراستي على محاولة كشف تقنيات بناء هذا العمل الروائي، كما أنني سعيت أن أكون مجرد وسيط بين الكاتب والقارئ العادي.
- أخيرا تحاشيت مناقشة الافكار والقضايا السياسية والدينية التي أثارها الكاتب في روايته لأنني لا أؤمن بمصادرة الأفكار، ولأن الناقد تختلف فيما أعتقد من مهمة قاضي التحقيق.
تبدأ الرواية لعبارة (ورفعت الحجاب!). والحجاب لغة: هو الستر أو كل ما جال بين شيئين، ولكن إذا ربطنا كلمة "الحجاب" بالفعل "رفع" فإن المعنى يتغير وتصبح العبارة تدل على الاكتشاف والمعرفة والإطلاع. ومعنى ذلك أن الكاتب سيبوح لنا من خلال عملية الحجاب عن أمور وقضايا هامة، لا نستطيع اكتشافها إلا بمواصلة قراءة فصول الرواية.
الرواية التي هي عبارة عن قصة لمغامرة عجوز وتجاوزاتها.
عجوز ضاعت أيامها فراحت تحاول استرجاعها بالتنقيب في الماضي.
عجوز تعرف كل شيء.
تعرف كيف يزور التاريخ للحفاظ على المصالح.
كيف تصنع الاحداث الابطال وهم جبناء.
عجوز أنطقها أكتوبر وأسكتها جوان الحصار.
عجوز لا تملك القدرة على التعبير عما يجيش بداخلها، ولذلك اتصلت بالكاتب وطلبت منه أن يكتب قصتها واشترطت عليه أن يكون فصل في الرواية مستقلا عن غيره ويمكن أن يقرأ بذاته ما مزق الكتاب.
فالرواية بهذا المنظور ليست تاريخيا لحياة العجوز، وإنما هي حياتها بالذات. والكاتب من خلال شخصية العجوز كان يبحث في الماضي أو عن حقيقة لم تتحول الى سراب.
وعن طريقها استطاع إدراك العلاقة بين العنف والتاريخ، بين الايمان والحكم بين الحدود والحقوق.
أولا:
سيميائية الشخصيات:
من المعلوم أن الحدث وحده لا يكفي في تأليف قصة ما، بل لابد من وجود الشخصية التي تدور القصة معها أو حولها (فالشخصية هي الكائن الانساني الذي يتحرك في سياق الاحداث) (1).
وهي (لا تنمو إلا من وحدات المعنى، إنها تصنع من الجمل التي تنطقها هي أو ينطقها الآخرون عنها) (2).
يتضح مما سبق مدى أهمية الشخصيات في العمل الروائي، ومدى تأثيرها في الحدث الروائي الذي يعتبر ثمرة من ثمرات تصارعها وتطاحنها، أو تظافرها وتواديها.
ومما لا شك فيه أنه لا يوجد عنصر – في العمل الروائي – ليست له وظيفة بنائية ودلالية، فحتى الذي يبدو لنا هامشيا أو ثانويا، بالقياس الى غيره يؤدي وظيفة كما يرى "رولان بارث" (3).
انطلاقا من هذا التصور فقد لفت انتباهنا – أثناء قرائتنا للرواية – مؤشر الاسماء التي انتقاها عبد الحميد بن هدوقة لشخصياته الروائية في رواية (غدا يوم جديد) ومما لا شك فيه أن الكاتب لم يطلق هذه الاسماء على هذه الشخصيات إطلاقا جزافيا. فلكل اسم دلالة وهدف، بل نستطيع القول أن كل الاسماء المسندة لشخصيات الرواية مخططة تخطيطا فنيا ودلاليا لا مجال فيه لمنطق الصدفة.بقي أن نشير الى أنه لا يمكن دراسة أسماء الشخصيات بمنعزل عن البنى الوظيفية والدلالية لها، داخل النص الروائي، ولذلك سأحاول اكتشاف دلالة هذه الاسماء من خلال مستويين
المستوى اللغوي والمستوى النصي:
من الشخصيات التي وظفها الكاتب في روايته نجد (مسعودة، خديجة، باية، قدور، عزوز، المخفي بن المرابط، الحاج أحمد، محمد بن سعدون...) وسأقتصر على دراسة دلالة أسماء البعض منها.
- مسعودة:
هي صاحبة المقام الاول في النص السردي، واسمها عربي، وهو اسم يطلق على صاحبة الحظ (مسعودة: جمع مساعيد: ضد الشقي) ولكن لم نجد أية علاقة بين الدلالة اللغوية لهذا الاسم، وصاحبته في الرواية، بل إن "مسعودة" لم تعرف شيئا في الحياة يسمى حظا أو سعادة.
- قدور:
إن هذا اللقب هو شائع الاستعمال في الوسط الجزائري، ولا يوجد في اللغة العربية فعلا يمكن أن نستق منه هذا الاسم. وهو يرمز في النص الروائي الى القوة والطيش والتهور. (قدور القوي شهرته لم تتعد عضلاته، لكن تلك العضلات القوية لانت أمام القبعة والبندقية) ص 11.
- الحاج أحمد:
نلاحظ أن هذا الاسم مركب من لفظين. الحاج وهو لقب كل من ذهب الى البقاع المقدسة وأحمد وهو اسم عربي. ولكن إذا اقتفينا أثر هذه الشخصية في العمل الروائي، فإننا نلاحظ أن أحمدا لم يحج فعلا، وإنما أطلق الناس عليه هذا اللقب احتراما لمشاعره ونيته. (أنا من الباخرة نزلت... قال لي: "ديصاند" لم أسمع أنه يأمرني بالنزول "ديصاند" لما أنزل وأنا ذاهب الى الحج أوراقي كاملة...وذهب الحج في البحر في كيل الزيت) ص 45.
- المخفي:
سمي بذلك لأن عمله يقتضي السرية.
لاحظت خلال قراءتي للنص الروائي، ومتابعتي لمسار حركة شخصياته أن عبد الحميد بن هدوقة قد حدد عمر شخصياته في فئتين.
- فئة الشيوخ:
وأحسن من يمثلها الحاج احمد شيخ الزاوية، المخفي بن مرابط، عزوز، مسعودة بعدما بلغت من السن عتيا وتمثل هذه الشخصيات في النص الروائي (الوقار، التقوى، الخبرة، التجربة، الشجاعة، حب الوطن، المعرفة الواسعة). والملفوظات التالية دليل عل ذلك: (الحاج أحمد تبدو عليه علامات التقوى والشهامة) ص 33.
(أفهمة – أي شيخ الزاوية – أن كثرة المذاهب واختلافها هو الذي يغربل الافكار وينقصها) ص 277 .
(المخفي ذلك المخرب، الذي لو لم يلق عليه القبض بواسطة المخلصين لفرنسا من الأهالي، ولو لم يمت في حادث المتفجرات بالمحجر، لأشعل حربا أهلية حقيقية بين الفرنسيين) ص 60.
- فئة الشباب:
وخير من يمثلها، قدور، محمد بن سعدون، الحبيب، مسعودة عندما كانت شابة يافعة، وهذه الشخصيات تمثل (القوة، التهور، المشاكسة، الانحراف الجنسي).
- (قدور في مسائل الغيرة والغضب،تنتقل الاوامر فورا من نظره الى عضلاته) ص 16.
- (كان بذراعه هو وشم يصور قلبا يخترقه سيف) ص 16.
- (كان ثملا، رائحة الخمر تملأ ثيابه وجسمه) ص 16.
- (كنت لا أستطيع أن أرد أحدا رغب في شيء أملكه... وكنت قريبة سهلة التناول) ص 17-18.
- (أراد أن يخنقني عندما وجدني قد اجتزت مرحلة العذرة) ص 301.
ثـــانـــــيــــا:
تواتر الشخصيات ومراتبها السردية:
في البداية أشير الى أن الدراسات النقدية الحديثة، لم يعد يؤمن أصحابها بالتقسيم التقليدي. للشخصيات الى (رئيسية، ثانوية) لأن الشخصية حتى وإن لم ترد بكثرة في متن النص فإنها تلعب على الاقل دورا في بناء الرواية. وسأحاول الآن تعريفكم بأهم أبطال الرواية مبينا العلاقة الرابطة بينهم.
1- مسعودة:
هي صاحبة المقال الاول في النص السردي، كانت جميلة كثيرة الذنوب، ولكن ذنوبها كانت عن سطحية وكرم، أرغمت على الزواج بقدور. سكنت بعد الاستقلال قصرا كولونياليا. وبه كانت تسمع كل يوم ما لا يصدقه العقل. تنبأت بأحداث أكتوبر قبل وقوعها. من محطة القطار بدأت حياتها تدخل الى العالم.
2- بـــايـــة:
أم مسعودة تزوجت بعزوز بعد زواج زوجها المخفي، لأن بقاءها وحدها يجعلها عرضة للشبهات والملاحظات من قبل الإدارة، توفيت ولم يخبر عزوز أفراد عائلتها إلا بعد أن تمت عملة الدفن.
3- المخفي بن المرابط:
من أصدقاء شكيب أرسلان، كان ينادي بالوحدة العربية من الخليج الى المحيط. قيل عنه أنه شيوعي، ويشاع أنه قاطع طريق، ولكنه صديق للفقراء. نظم جماعات مسلحة، لإشتراء السلاح لذلك قتلته فرنسا وأشاعت أنه قتل في حادث المتفجرات بالمحجر.
4- قدور:
زوج مسعودة، كان قويا شجاعا، نزيها شريفا، عيبه الوحيد أنه كان مدمنا على شرب الخمر، تربى يتيما، لأن أباه توفي قبل أن يولد، رحل صغيرا الى الجزائر العاصمة، وكان يعمل حمالا بالمرسى، دخل السجن بسبب تعاركه مع رجل المحطة.
5- عزوز:
لم يكن كما صوره أغلبية سكان الدشرة مفترسا، بل كان رجلا طيبا حازما، لا يحب الاهمال والتبذير وحديث المقاهي.
6- خديجة:
خطيبة قدور الأولى تعرف عليها بواسطة عمتهـ وتمت الخطبة، وتم التراضي، وقبل قدور المسكين بكل الشروط، ولكن الزواج لم يتم لأنها كانت تحب رجلا آخر اسمه محمد بن سعدون.
7- محمد بن سعدون:
شاب جميل، كانت تربطه علاقات غرامية حتى مع المحصنات من النساء المتزوجات. قتل في ريعان شبابه، ولا يعرف من قتله، ولا لماذا قتل. بكته كل بنات الدشرة ونسائها، ورثته بأحزان الاغاني لأن اغتياله كان اغتيالا للغرام في قلوب الفتيات.
8- رجل المحطة:
تخاصم مع قدور في المحطة، وكان خصامهما سببا في دخولهما الى السجن. كان أيضا صديقا للحبيب ودرس معه بالزاوية.
9- الحبيب:
ابن الحاج أحمد، شاب وسيم، قرأ بالزاوية، ثم بتونس، كان نجيبا مواظبا على الدروس، متفوقا في كل المواد.
10- الحاج أحمد:
تقي شهم، مستقيم فطريا، حكيم متأني، يصل بين الخصوم، هو الذي قدم يد المساعدة الى مسعودة عندما بقيت وحيدة بالمحطة.
11- القائد:
كان عميلا لفرنسا، يقتل من يشاء بدون عقاب، سبب له ابنه مقران مشاكل مع معلم المدرسة، ولولا الخدمات التي قدمها لفرنسا لجرد حتى من برنوس القيادة لأنه برنوس فرنسا صعب لباسه وسهل نزعه.
علاقات الشخصيات:
ثـــالـــثـــا:
البناء المورفولوجي للشخصيات:
يلاحظ القارئ للرواية (غدا يوم جديد) أن الكاتب لم يكن مولعا برسم ملامح شخصياته رسما دقيقا، فربما هذا يعود الى أن البناء المورفولوجي للشخصيات لم يكن ذا أهمية هند الكاتب، أو أنه تفادى رسم الشخصية ليجعلها مفتوحة دلاليا. وسنكتفي هنا بذكر بعض الأمثلة، فمثلا وصف جسد قدور بقوله (كان بذراعه هو وشم يصور قلبا يخترقه سيف) ص 16.
ووصف ثيابه وشواربه (في البداية كان السكان يسخرون منه، من سرواله الطويل الازرق والجبة البيضاء فوقه، وشاشيته الحمراء التي يشدها بمنديل فوق رأسه، كانوا يسخرون أيضا من شواربه الكثيفة الطويلة التي تغطي كامل شفته العليا، وتغطي السفلى أيضا عندما يكون صامتا، والتي لا يفتأ يبرم شعرها الى أعلاه) ص 105.
رابـــــعـــا:
البناء الداخلي للشخصيات:
إن لم يكن عبد الحميد بن هدوقة قد اهتم بوصف ملامح شخصياته، فإنه قد وفق الى حد بعيد في رسم شخصياته من الداخل. فمثلا وصف قدور بالبساطة وطيبة القلب والغيرة فقال (قدور رجل بسيط، طيب القلب، غيور على شرفه القريب المتمثل في الزوجة) ص 104
ووصف سلوك مقدم الزاوية مع الطلبة قائلا: (كان المقدم "وكيل الطلبة" هو عبارة عن "سرجان" سرجان حقيقي من سرجانات الجيش الفرنسي الكولونيالي، لما يتحلى به من أخلاق "السرجنة" العنف، القسوة، البذاءة، عندما يرى المرء تصرفاته يتساءل هل ولد من أم وأب؟ من لبشر؟ أم نحت من صخر! إن قلبه لا يعرف الرحمة ولا سمع بها !) ص 220.
ووصف أيضا عزوز بالجشع والقسوة والظلم (إن عزوز هو السبب، إنه رجل جشع، قاس، ظالم، يبيع أمه، لو كانت له أم من أجل المال. كل شيء عنده يباع) ص 93.
خــامـــســـا:
علاقة السارد بشخصياته:
إن العمل السردي كتابة يكتبها شخص اصطلح على تسمية (المؤلف) وهذا المؤلف تتغير الشخصية بداخله، بدون انقطاع على مدى النسيج السردي، وبذلك تكون علاقته على أساس الرؤية من الخلف، ويتكون السرد من الاحداث والوقائع التي يرويها الراوي.(4)
وهنا ثلاث طرائق للسرد:
سارد (أكبر) من شخصياته
سارد (أصغر) من شخصياته
سارد = شخصيته
ولقد اتضح لنا من خلال النص أن السارد (الكاتب) استخدم الطريقة الثانية، لأنه اعتمد على حكاية العجوز لمعرفة سلك وأفكار وانفعالات شخصياته.
ســــادســــا:
بناء الحدث:
إن الحدث هو الذي يخلق الشخصية، والشخصية هي التي تطور الحدث. إن أحداث رواية (غدا يوم جديد) بدأت من محطة القطار، وانتهت بسجن قدور ورجل المحطة، وقد تفرعت عن هذا الحدث الرئيس أحداث جزئية أخرى، ولكن ما لفت انتباهي أثناء قراءة هذه الرواية هو تركيز الكاتب على أحداث عريضة بالاعتماد على التغيرات الاسلوبية ووجهات النظر، أو انطلاقا من المستويات اللغوية المتحركة من مقطوعة أخرى.
وإن كان من المتعذر الى كافة الاحداث العرضية، فإننا سنتناول البعض منها للتدليل على كيفية تمفصلها نصيا.
حادث وفاة المخفي:
نسجل في البداية أن عبد الحميد بن هدوقة كرر حادث مقتل المخفي، وأن هذا الحادث ورد في شكل لواحق مكثفة أسندت الى رواة متباينين.
الرواية الاولى: تقول، أنه قتل في المحجر لغبائه، لأنه لم يحسن استعمال المتفجرات.
الرواية الثانية: تقول أنه أسقط عليه حجر ضخم.
الرواية الثالثة: تقول إنه لم يقتل وإنما اختفى كالإمام المهدي ليعود في زمن آخر، ولكن الحقيقة أنهم قتلوه.
حادث وفاة محمد بن سعدون:
يعد هذا الحادث من أكثر الاحداث توترا، لأن محمد بن سعدون كان حلم كل فتيات الدشرة ونسائها. وسأستعين هنا بنصين لهما علاقة بهذا الحدث، كما أنني سأحاول من خلالهما اكتشاف طبيعة العلاقات المركبة بين الشخصيات.
النص الاول:
هو عبارة عن أغنية ألفت حول علاقة محمد بن سعدون مع خديجة.
"أه يا العودة الزرقا اشربي من رأس العين"
"مولاك مـــحـمـــد ركبوك ناس أخرين" ص 145
يكشف مضمون هذه الاغنية عن العلاقة التي كانت تربط خديجة بمحمد بن سعدون. إنها علاقة حب طاهر خفي بقفي مستوى الامل لأنه لم يتجسد ولو بقبلة، أو بعبارة أخرى إنها علاقة زواج لم يتم، لأن خديجة عندما أصبحت خطيبة لقدور أدركت أن الدشرة كلها – عن طريق انتشار الاغنية – على علم بحبها الخفي. ولذلك رفضت الزواج بقدور (..."لم يركبني" أحدا ! لست ملكا لأحد. لست فرسا! زوجتني أمي وخـــــــــــالي وأنـــــا ألغـــــــــــــــي هـــــــــــذا الــــــــــــزواج. لن أتزوج به (قدور) ولو قطعوني أطرافا !) ص 148
النص الثاني:
الاغنية الحزينة الدامية
"ضربوه في صفية عيسى لأبي
آه، يا الأميمة والقلب لأبى ينسى ص 161
يمثل هذا النص الحدث كما وقع، ويبرز العلاقة بين الحدث والنتيجة، إذ أنه بمقتل محمد بن سعدون انتهت حياة خديجة (إن وجهها لم تكن تفارقه البسمة الى أن قتل محمد! عندئذ تحولت الى امرأة أخرى تماما. كأن حياتها انتهت، وبدأت تحيا حياة الاخرة) ص 119.
كما أن هذا النص يشير أيضا الى تأثر كل نساء الدشرة اللائي تعلقن به (...كم روع الدشرة مقتل محمد! كل النساء حزن!) ص 119.
غير أن الشيء الجديد في هذا النص هو تجاوز الخبر لتوضيح طريقة وأداء القتل (وجد ملقى على حجر، مضرجا بدمائه. اخترقت رصاصة الجزء الايسر من صدره والثانية بطنه رصاصتا في مسدس قالوا !...) ص 119.
وقد أورد الكاتب عبارة (قدور لم يقتله) لأن قدور اتهم بقتل محمد بن سعدون، بعد إدراك مدلول الاغنية الاولى التي انتشرت في الدشرة، ولكن عزوز نفى عنه التهمة، عندما اعترف بأنه كان معه أثناء الحادث. من خلال كل ما سبق نستنتج أن السرد المكرر للحادث لم يستقر على وظيفة ثابتة أو على سرد واحد.
ســــابــعـــا:
الزمن:
يتميز الزمن الروائي بمجموعة من الخصائص، داخل الروايات المختلفة، فقد يلخص الكاتب فترة زمنية طويلة في صفحات روائية قليلة، كما حدث مع نص (غدا يوم جديد) إذ بلغت 332 صفحة. وقد تكون الفترة الملخصة، قصيرة لا تتجاوز بعض الاشهر والسنوات يكتبها الكاتب في صفحات طويلة.
إن المتصفح للرواية يكشف أن الزمن ينقسم الى زمنين. الاول خارجي والثاني داخلي. الزمن الخارجي للرواية يبدأ قبل الحرب العالمية الثانية بسنوات، وينتهي بأحداث أكتوبر وجوان الحصار.
الزمن الداخلي، ونقصد به الازمنة الثلاثة الموظفة في النص الروائي بنسب متفاوتة.
كما أن الرواية مزجت بين ضميري المتكلم والغائب وهما صيغتان تعكسان درجة بعد زمن القض عن زمن وقوع الاحداث.
ثــــامـــنـــا:
الفضاء:
إن حضور المكان في الرواية حتمية لا مناص منها فقد يختار الكاتب مكانا واحدا لرواية وقد تتعدد الامكنة في نص روائي واحد.
إن الفضاء هو نظام دال (5) وهو يشكل في الرواية العنصر البنائي الاساسي في توليد الرواية.
انطلاقا من هذه القواعد النظرية، سأحاول فحص التحويلات لفضائين مركزين في الرواية هما:
- يعتبر فضاء الدشرة من أكثر الفضاءات والأماكن حضورا في الرواية. وقرية الجبل الاحمر في النص الروائي هي نموذج للقرية الجزائرية التي لا تزال ترزخ تحت البؤس والفقر وقساوة الطبيعة، والتي لم يرفع عنها الغبن والشقاء في زمن الحرية والاستقلال.
ومن هنا نستطيع القول أن اختيار الكاتب لفضاء القرية ليس اختيارا عبثيا، وإنما هي رؤية تعكس موقفه من الوضع الذي آل اليه سكان هذه الارض من تخلف وجهل وبؤس. كما أن فضاء القرية في سكونه وثباته وافتقاره الى عناصر الحياة، يتحرك بوصفه فاعلا مضادا لرغبات سكانها. والشيء الملفت للانتباه في رواية (غدا يوم جديد) أن الافلات من سلطة المكان، لا يكون بالعمل على تغيير العلاقات التي تسيره وتتحكم فيه، بل بالانتقال الى فضاء آخر – المدينة – يجلب السعادة.
إذا كان فضاء القرية في اتساعه يعج بدلالات اجتماعية وفكرية تنهض عبر الاشارات التي تنتج عن التفاعل بين الانسان والطبيعة فإننا نجد في رواية (غدا يوم جديد) أفضية أخرى محتواة في فضاء القرية لا تخلو من دلالات رمزية واجتماعية ومن بين هذه:
- العين في الدشرة هي كالحمام في المدينة، في مصدر لتبادل المعلومات، والأخبار بين نساء الدشرة، وفيها يتعرفن على ما يجري في وطنهم الصغير، وهي أيضا مكان لتناقل الاشاعات والغراميات والاتفاق.
- محطة القطار: تتضح أهمية هذا الفضاء في كونه يعتبر نقطة انطلاق لأحداث الرواية وتحويل مسارها، وفي كونه أيضا يشكل بالنسبة لبطلة الرواية (مسعودة) وغيرها من الشخصيات نقطة عبور نحو الحلم.
وقد كشف لنا الكاتب من خلال وصفه العام لمحطة القطار عن موقعها الجغرافي الطبيعي (الحر يلفح الوادي الذي تقع فيه المحطة. الشمس لم تعد أشعة وأضواء. صارت لهيبا في هذا الوادي الناشف الذي التحف حفافاه بالأملاح... لحسن الحظ أشجار الصنوبر والكاليتوس تغطي المحطة من أقصاها، وإلا لانعقدت الألسنة، وجفت الحلوق) ص 24-25.
خلاصة القول إن إفضاء محطة القطار يتأسس في النص الروائي كمحور تواصل سكان القرية بالمدينة.
2)المدينة:
هي بالنسبة لسكان القرية حلم للتخلص من شقاء وحر القرية، ورتابة الحياة. وهي واقع أسطوري إن صح التعبير ولقد اتخذ هذا الفضاء في النص الروائي عدة دلالات نذكر منها:
-السعادة، النعيم، الرجاء (المدينة في خيال القرويين قصورا واسعة الارجاء...) ص 129.
-الاعجاب (عندما دخلت المدينة لأول مرة نزعت حذائي الجبلي الغليظ حذاء "البيرني" المسمر، كانت طرق المدينة عندي ألين منه. أتذكر أيضا أنني لم أنم الليلة الاولى حتى أذان الفجر، ضوء الكهرباء فتنني) ص 15.
-الحرية (المدينة لا يعرف الناس فيها بعضهم بعضا، تفعل ما تشاء لا يسأل عنك أحد، ليست كالقرية) ص 18
ولذلك لاحظت أن (مسعودة) مثلا لم تتكلم على فضاء المدينة وقيمته الجمالية سوى لأنها لا تجد صعوبة في ممارسة حياتها به.
أما (خديجة) فقد ضحت بعواطفها نحو (محمد) مقابل نعيم المدينة (...كانت موزعة بين الشوق الى نعيم المدينة وعواطفها نحو محمد لكن (النعيم) غلب العواطف، ملذات المدينة لا يعطيها لها محمد إنها تريد أن تسير تحت أنوارها وعلى طرقها الحريرية التي تردي الرجل...) ص 129
3)السجن:
يعتبر السجن المكان المشؤوم للإنسان، فهو يوحي دائما بالحزن والعذاب والذل والقمع والظلم. وقد وجدنا أن هذا المكان يحتل حيزا لا بأس به في الرواية، حيث أن الكاتب نسج بعض أحداثه في السجن الاستعماري الفرنسي، كما حدث لقدور ورجل المحطة. ومما لا شك فيه أن توظيف عبد الحميد بن هدوقة لهذا المكان المشؤوم يرمي الى هدف وبع معينين، فقد أراد الكاتب أن تنقل لنا حقائق سجون الاستعمار وما كان يدور فيها من جرائم وظلم، وكانت وسيلة في ذلك النقل. الوصف الدقيق للمعاملات السيئة التي استهدفت المساجين.
تـاســــعــــا:
خصائص الخطاب السردي:
1)الوصف:
الوصف في السرد حتمية لا مناص منها، فهو الذي يساعده على النمو والتطور (6). ولقد تنوع الوصف في النص الذي نحن بصدد دراسته بكيفية جعله مبتوتا بتا متباعدا ولم يأت اعتباطيا بل جاء من أجل غاية فنية أهمها اعطاء المتلقي معلومات تتصل بالفضاء والشخصيات التي تترك فيه.
ويشتغل الكاتب في عملية الوصف في مستويين، يقوم الاول على اختيار مجال الوصف، أما المستوى الثاني، فيعمل على اكتشاف مكونات المجال الموصوف. وهناك طريقتان لتحقيق ذلك:
الطريقة الاستقصائية:
وفيها يقدم لنا الكاتب المكونات الجزئية والدقيقة للمجال الموصوف.
الطريقة الانتقالية: وفيها يذكر الكاتب الملامح العامة للمجال أو الشخصية الموصوفة، وهذه الطريقة هي التي راجحت في رواية (غدا يوم جديد). وقد تناول الوصف في النص الروائي (الشخصيات، الفضاء الانساني، الطبيعة).
1-وصف الشخصيات:
بما أنني تعرضت الى وف الشخصيات في نقطة سابقة، فإنني سأكتفي هنا بذكر بعض الامثلة الوصفية التي لها علاقة بالشخصيات. فقد وصف عبد الحميد بن هدوقة صوت العجوز بقوله (وتشدني اليها نبرات ذلك الصوت الذي يأتيني من أعماق الزمن) ص 90.
ووصف جسد المرأة (...كانت منشغلة بجسمها الطري الذي استدارت مكوناته، فأعطته مغريات فذة) ص 40.
وصف الشعر (كان شعر رأسها كثيفا يغطي كامل وجهها وجزءا من صدرها) ص 40.
ومما ميز النص كذلك وصفه للمعاملات السيئة التي استهدفت الابرياء الذين ذاقوا العذاب بشتى أصنافه (الصوت يدع خطوطا بنفسجية على ظهر قدور العادي، العرق يتصبب على وجهه ملوثا بالغبار) ص 307.
(الضربات القديمة المتورمة في ظهر قدور تنفلق فيسيل منها خليط من ماء وقيح ودم، قدور يشعر بالغثيان، لكن يصر في نفسه على المقاومة) ص 309.
2-وصف الطبيعة:
يلاحظ القارئ لرواية (غدا يوم جديد) أن وصف الطبيعة فيها يتم بشكل مقتضب بمعنى، أن الرواية تكاد تخلو من النصوص الوصفية الطويلة.
فالكاتب أثناء وصفه لطبيعة القرية، اكتفى بذكر الملامح العامة للمجال الموصوف. فكل ما نعرفه عن القرية أن بها شعاب، وتلال، وأشجار، وأحجار، وشلالات، وصخور، وبرك، وطرق متعرجة، وأن محطة القطار (تقع بالقرب من واد ناشف حولته الى جحيم ملتهب) ص 29.
3-الفضاء الإنساني:
ونقصد به الحيز الذي يتحرك فيه الإنسان، ومن الأفضية الانسانية التي وصفها الكاتب:
1-فضاء البيت:
يشكل فضاء البيت فضاءا اختياريا، إلا أنه يتخذ في بعض الاحيان الطابع الاجباري في منظور الشخصيات المقيمة به فيتحول الى مكان دال على موقفها وعلى حالتها الشعورية (7).
وقد خضع وصف البيوت – في النص الروائي – الى الطريقة الانتقائية إذا اكتفى الكاتب بوصف الملامح العامة لبيت الحاج (فناء، حجرة جانبية، حجرة عائلية، مطبخ).
2-وصف الأثاث:
مزج الكاتب أثناء وصفه لأثاث بيت الحاج بين الطريقة الاستقصائية والطريقة الانتقالية. (خزانة كبيرة تتكون من جزئين سفلي وعلوي، رفوف ممتلئة بطقوم الفناجين والكؤوس وأواني أخرى رفيعة من الخزف) ص 185.
ففي البداية اكتفى الكاتب بوصف الفناجين والكؤوس والأواني الرفيعة، ثم راح يدقق الوصف في كل شيء (حاولت أن تتفحص ما بالخزانة من أواني فعدت طاقم، كؤوس كبيرة ذات أزهار، إناء زجاجيا ضخما أزرق...براد شاي من النحاس الابيض) ص 185.
2)الحوار:
إن الحوار يشارك الى جانب السرد في رواية الاحداث عبر أحداث شخصياته المتحاورة، وقد كان الحوار في رواية (غدا يوم جديد) قليلا، وربما هذا راجع الى طبيعة الموضوع تقتضي ذلك (حكاية قصة عجوز). وعلى العموم فقد تميز الحوار في النص الروائي بما يلي:
-القصر:
إذا لم يكن في غالب الاحيان يتجاوز الخمسة سطور.
السنون تمضي بسرعة! كم عمرك الآن يا خديجة؟
لا أدري أمي قالت ولدت في العام الذي ذهب أبي الى الحرب ص 45
-العامية:
جاءت بعض فقرات الحوار بالعامية، ومن أمثلة ذلك الحوار الذي جرى بين قدور ومحمد بن سعدون.
- اهبط يا ابن الهجالة!
- السلام عليكم
- اهبط يا ابن الفاعلة. قلت لك!
- مالك، مالك؟!
- خذ يا ابن الفاجرة ص 153
-الرتابة:
ونلمس ذلك في الحوار الذي دار بين قدور وعمته.
قدور، أنت مريض اليوم؟
لا، لا بأس والحمد لله.
رأيتك لم تذهب كعادتك الى المقهى، قلت ربما...
أنا في صحة جيدة والحمد لله. إذا كنا ذاهبة الى مكان ما، اذهبي، لا تتحيري.
أنا سأبقى اليوم بالبيت
لا، لا لست ذاهبة الى أي مكان، أنا أيضا لا أخرج اليوم.
ستأتي بنت الحامدي، لأغزل الغزل الذي غزلته لأمها، وتأتيني بالصوف،
لأن التي عندي غزلتها.
إذا أردت أن أخرج! أخرج ص 107.
عــــاشــــرا:
التكرار:
يعتبر التكرار حتمية موجودة في أي عمل أدبي. فقد يضطر الكاتب الى تكرار الالفاظ والأفكار والعبارات في العمل الروائي، لأن طبيعة النص تقتضي تكرار معان وأفكار بعينها، كمنا يحدث التكرار عن عمد لدلالة معينة.
ومن خلال تصفحنا للعمل الروائي لاحظنا أن عبد الحميد بن هدوقة كرر بعض العبارات بكثرة مثل: (أقول كل شيء وأذهب الى مكة أغسل عظامي وأيامي). إن العجوز باعتبارها امرأة مخضرمة عاشت أحداث ثورة التحرير وأكتوبر، أرادت وللأمانة التاريخية أن تكشف لنا بعض الحقائق المتعلقة بالوطن والثورة والاستعمار والجنس والبطال والخيانة والحوار والحصار...(أذهب الى مكة أغسل عظامي وأيامي) هذه العبارة لها مرجعية دينية في الذاكرة الشعبية. إذ أن عامة الناس يعتقدون أن الحج هو وسيلة لغسل الذنوب المقترفة في السابق.
(أكتوبر أنطقني) بعد الصمت الذي دام عدة سنين، جاء اكتوبر فنطق جميع الناس، بما فيهم العجوز التي كانت تعتقد أن أكتوبر هو انتفاضة شعبية عفوية ضد الحقرة والنظام والحكام، ولكن أملها قد خاب بعد جوان الحصار.
أحد عشر:
دلالة الرسوم والألوان والأرقام:
1- الوشم:
تعبر صورة الوشم عن الكبت والانحراف، وله وظائف عديدة لعل من أهمها:
- حمل ميتولوجية الماضي.
- وسيلة من وسائل التجميل.
2- اللون الأسود:
تختلف دلالة هذا اللون من قوم الى قوم، ومن مناسبة الى أخرى، ولكن دلالة هذا اللون في النص الروائي تتمثل في القتامة والتخلف والانحطاط (لون اللحى).
3- 17 جوان: إن هذا الرقم وهذا الشهر وتلك السنة، يرمزون في تاريخ الجزائر الحديث الى الحصار الناتج – في نظر الكاتب – عن كثرة المسيرات والتجمعات والصلوات السياسية.
خـــــــاتــــــــمـــــــة
- استطاع الكاتب أن يخلق من حدث بسيط عملا روائيا ناجحا.
- إن القارئ لرواية (غدا يوم جديد) يلاحظ أن (قدورا) – في الواقع المعيش – هو انسان عادي بسيط، ولكن الصدفة وتعاقب الاحداث جعلتا منه بطلا عظيما.
- جرت العادة أن المؤلف/الكاتب هو الذي يسرد وقائع وأحداث الرواية، ولكن في رواية (غدا يوم جديد) انقلب الوضع، فتحول الكاتب الى متلقي، والعجوز الى ساردة.
- تميز السرد في بعض فصول الرواية، بالرتابة والملل، كالفصل المخصص لمحاكمة المتهمين من قبل القاضي الفرنسي، ودفاع المحامي عنهم. والفصل المخصص لاستنطاق قدور، فمعظم هذا الفصل هو عبارة عن أسئلة استفزازية.
- وظف الكاتب في روايته مجموعة من القضايا السياسية والدينية والاجتماعية، وأعلن موقفه منها، ولكن بطريقة فنية.
الهـــــوامــــــــش
- عبد الحميد بن هدوقة، غدا يوم جديد، منشورات الاندلس 1992.
- عزيزة مريدن، القصة والرواية، دار الفكر، دمشق.د.ط 1780 ص 26-27
- أوستين وارين،ورينيه ويليك، نظرية الأدب، ترجمة محمد الدين صبحي، مطبعة خالد الطرابشي ص 208
- Roland Barthes, poétique du récit du seuil, paris 1977, p 17
- عبد المالك مرتاض، تحليل الخطاب السردي، معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية زقاق المدق، ديوان المطبوعات الجامعية د.ط 1995 ص 189-190.
- عبد المالك مرتاض، تحليل الخطاب السردي، ص 264
- محمد سرتيني، النقد البنيوي والنص الروائي، الدار البيضاء ط 1 ،1991 ص 98