خصائص الشعرية في نص مسيرة الحلم والدم لابن هدوقة

الأستاذ قدور رحماني - جامعة المسيلة
إن النص الأدبي ليس كتلة من ألفاظ وجمل وتراكيب خرجت من عدم وليست مدونة معزولة تتحرك في فضاء منغلق على ذاته، بل إنه مخالف لذلك خلافا كبيرا. ولسنا ها هنا بصدد رصد مختلف الآراء التي تتعلق بتحديد النص وتعريف ماهيته، ولكننا بصدد مقاربة نص شعري انطلاقا من بعض الآراء المعاصرة التي تشكلت عن مفهوم النص.. فإذا كان النص عند أصحاب المنهج السوسيولوجي يعد نتاجا لأحداث التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع، فإنه عند رولان بارت (1) تشكل إيحائي ولذة وجملة من العلاقات التناصية. ولم يكن النص عند جوليا كريستيفا سوى جملة من الاقتباسات التي كانت صدى لنصوص أخرى وتداعيات نصية سابقة تعالقت فكونت نصا جديدا يأخذ تفاعلات من خلفيات نصية متقدمة. إنه يمكننا أن ندخل نص (مسيرة الحلم والدم) (2) لعبد الحميد بن هدوقة مستفيدين من كل ما من شأنه أن يعين على ولوج عالمه ومقاربة تشكلاته، ولنبدأ أولا بالعنوان الذي يشكل سلطة من سلط الضوء، أي أن العنوان هو "رمز يمتلك قوة الاشتمال أو الاحتواء، قوة ينشر بها نفوذه إلى أوسع مدى" (3).
إن عبارة "مسيرة الحلم والدم" أي العنوان، إذا فككناها وجدناها تشتمل على الآتي:
- فكلمة مسيرة التي يبتدئ بها العنوان عبارة عن خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه) وهذا الأمر شكل نوعا من التركيز للعنوان وتكثيفا له على اعتبار أن المبتدأ يكاد يكون معلوما بالنسبة للمتلقي. وعلى هذا الأساس رأى الناص أن ذكره لا يضيف شيئا فعمد إلى حذفه. وركز على الخبر إذ هو المهم وأضافه إلى الحلم، ثم عطف الدم على الحلم فأصبح الخبر (المسيرة) مضافا إلى شيئين: الحلم والدم، وهما يشكلان بؤرة النص والخيوط الأولى لنسيجه المتشابك، ومن هنا فالمسيرة ترتبط أشد الارتباط بمسألتين جوهريتين (الحلم والدم). ولكن ما علاقة المسيرة بالحلم والدم؟ وما علاقة المضافين بالخبر؟
إن السطور الأولى للنص توضح تلك العلاقات وتجلي محتويات العنوان واشتمالاته. وإذا نحن عدنا إلى قصيدة مسيرة الحلم والدم (4) وجدنا الناص يقابل في تضاعيفها بين تاريخين متباعدين، نوفمبر 54 ونوفمبر 94. غير ان التاريخ الاول كان بداية عهد ونهاية عهد اخر.. بداية عهد الحرية ونهاية عهد الاستعمار، وأما التاريخ الثاني فهو بداية عهد التطبيق الفعلي للظلامية والفوضى ومحاولة افتكاك السلطة بواسطة العنف لا بالطرق الديمقراطية المشروعة، - حسب ما يرى الناص- ولكن ذلك العنف الحاصل كان استجابة لضغوط شاركت في صنعها أطراف متعددة وليس طرفا واحدا بعينه.
إن قصيدة (مسيرة الحلم والدم) تتحرك على امتداد محورين أساسيين وتستلهم نشاطها من حركية الأحداث المصاحبة للتاريخين المذكورين آنفا اللذين يشكلان من خلال نص القصيدة مشاهد متعارضة متناقضة وغايات مختلفة، وان اشتركا في مسلسل الدماء، بيد أن المشروع الأول يهدف إلى تحقيق الذات وافتكاك الحرية وبناء دولة المؤسسات وتكوين مجتمع متحضر تسوده العدالة والحرية ويحكمه القانون. وأما المشروع الثاني – في نظر الناص – فهو مشروع ظلامي يهدف إلى ترسيخ التخلف والعنف وإسكات صوت الذات وتهشيم قيم الحرية الفردية والجماعية، وتكريس سلطة القهر والقتل وقبول الأشياء كما يراها أصحاب ذلك المشروع دون ترك أي مجال للحوار وسماع الرأي الآخر..
وتسير القصيدة من بدايتها إلى نهايتها في رصد خصائص المشروعين. ولكننا نرى الناص يصب غضبه على الفئة الثانية مبينا ما اقترفته من جرائم وآثام، نافيا أن تكون لها أية صلة قرابة بمقومات الأمة وانتمائها الحضاري..
إن النص يتخذ شكل القصيدة النثرية التي لا تخضع لأي وزن عروضي، وقد شاع هذا الشكل منذ الستينيات ونظر له طائفة من الشعراء الكبار من أمثال أدونيس وانسي الحاج جبرا إبراهيم جبرا وغيرهم (5).
إن الناص كان يصوغ ما استقر في وجدانه من قيم ومفهوم في قالب لغوي مباشر لا يختلف كثيرا عن قوالب التعاليق والتحليلات التي تقرأها في الصحف عن الأزمة الجزائرية، وفي توليده للأفكار يتكئ الناص على الواقع والذاكرة، يتكئ على الواقع منتقدا السلطة التي يراها في بداية التسعينيات قد تحالفت مع الإسلاميين وخانت قيم نوفمبر وانحرفت عن مسار رسالته فعمت الفوضى وكثر القتل واتسعت المقابر..
ويتكئ على الذاكرة مستمدا من بعض أناشيد الثورة وبعض قيم الانتماء الحضاري ما يساعده على الاقتراب من وجدان المتلقي وقبول مفهوم خطابه. ولكن هذا المسلك الذي آثره الناص لم يمكنه من بلوغ درجة الأدبية الحقة لأن وسائله التعبيرية كانت مباشرة وخطابية تقصد إلى المعنى بواسطة خط مستقيم..
إننا نلاحظ أن الأساليب التي يؤثرها الناص لبسط أفكاره وتبيان مواقفه كانت أقرب ما تكون إلى الخطب الحماسية والبيانات السياسية منها إلى الأساليب الأدبية الراقية. والأسلوب كما يقول بيير جيرو: "هو وجه الملفوظ ينتج عن اختيار أدوات التعبير وتحدده طبيعة المتكلم ومقاصده"(6).
ومن هنا نقل إن مقاصد المتكلم قد وصلت ورسالته المبثوثة عبر أساليبه قد فهمت ولكنها لم تحقق المتعة الأدبية والإثارة الفنية المطلوبة، ذلك أن شبكة الدوال التي تؤلف النص لم تستطع أن تخلق في المتلقي ذلك الوهج الجمالي المؤثر وتلك الشرفات الفنية البعيدة التي من المفروض أن تنطوي عليها الأبعاد الدلالية لأنساق النص الأدبي. فإذا كان "جوهر الأثر الأدبي لا يمكن النفاذ إليه إلا عبر صياغاته الابلاغية وكانت عملية الإخبار علة الحدث اللساني أساسا فإن غائية الحدث الأدبي تكمن في تجاوز الإبلاغ إلى الإثارة" (7). وهو ما لم يتحقق لنص القصيدة.
إن الذات الإبداعية من خلال النص تبدو موزعة عبر ثلاث محاور أساسية، محور الماضي الذي تشكله عبر تلك القيم التي حزاها بيان أول نوفمبر وضحّى من أجلها مختلف فئات المجتمع، ومحور الحاضر المر الذي تشكلت معالمه بعد نوفمبر 54. وهنا يقابل النص بين وجهين متباينين لنوفمبر حيث إن نوفمبر 54 يمثل الإشراق والتحضر والحياة الكريمة، كما يمثل حجر الزاوية بالنسبة لدولة القانون والمؤسسات، ويأتي نوفمبر 94 بزوابعه وتوابعه فيعطل الحلم بما تشكل فيه من دمار وخراب وقتل واعتداء على الحريات ونكوص على كافة الأصعدة والمستويات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.. ثم يأتي بعد ذلك محور المستقبل المفعم بالتفاؤل والذي ينتصر فيه الناص لقيم نوفمبر 54 الذي سيفرض سلطته المستمدة من سواد الشعب، ويكسر كل القيم الغريبة التي تشكلت في ظل الأزمة.
وما يمكن رصده في هذه المداخلة هو أن البناء اللغوي كان يستمد تفاعلاته من قلب الأحداث التي مر بها المجتمع الجزائري، وكان يستلهم تشكلاته الأدبية من الميراث الحضاري الذي تنطوي عليه مختلف حلقات التاريخ الجزائري المعاصر. وقد صاغ الناص تلك المضامين في أبنية جملية بسيطة تتوزع بين الطول والقصر بحسب ما تمليه الحالة الشعورية، بعيدا عن كل أشكال الأنساق التعبيرية الماضوية والتشكلات التقليدية.. وفضلا عن ذلك حاول الناص تعويض الفراغ الموسيقي الخارجي الناتج عن إهمال التفعيلة بالتركيز على تنويع التقفية التي حاول من خلالها خلق ثراء موسيقي، مع مفاجأتنا – أحيانا – باستخدام سطور قليلة تخضع للوزن، وهو أمر عارض. هذا التمرد يعتبر من بين خصائص قصيدة النثر التي يراها أدونيس أسلوبا في الرفض وتمردا على الشكل التقليدي في اللغة والموسيقى والإيقاع والبعد الجمالي، وهو ما كان ينشده كبار شعراء القصيدة النثرية من أمثال أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وغيرهم..(8).
وهناك قضية أخرى أريد أن أثيرها في ختام هذه المداخلة وهي ولع الناص بالعلامات غير اللغوية التي تشارك بوجه ما من الوجوه في شعرية القصيدة. فإذا رجعنا إلى النص ألفينا ولعا شديدا بعلامات الترقيم مثل الفاصلة، علامة التعجب، علامة الاستفهام ونقاط الحذف.. نقاط الحذف التي يضعها الناص تعبيرا عن وجود نص غائب تعمد إخفاءه وتغييبه إما لأغراض فنية أو لأغراض نفسية ذاتية ترتبط أساسا بمتعلقات الأزمة الجزائرية والمناخ السياسي والاجتماعي الذي يركض فيه. ثم إن الناص يسرف أيما إسراف في استعمال الجمل الاستفهامية التي تنطوي على دلالات نستشف من خلالها سيل الاستفهامات التي كانت تدور في أذهان أبناء المجتمع في ظل الأزمة، والتي شملت الكبير والصغير والمثقف والسياسي والأديب. وإضافة إلى ذلك نرى الناص في كامل مقاطع النص يكثر من استعمال علامات التعجب في غير محلها، ونحن نعلن أن التعجب نوعان: تعجب موضوعي بصيغتي ما أفعله وما أفعل به.. وتعجب سماعي يفهم من خلال سياق الجملة.. ولكن الناص يستخدم علامة التعجب خارج هاتين الدائرتين المذكورتين، ولم يكن هذا الأمر مقصورا على هذا النص بل كان ظاهرة انطبع بها شعره كافة. ولم أجد لها مبررا موضوعيا إلا أن تكون هذه التقنية الموظفة إشارة إلى وضع الأشياء في غير موضعها على مستوى الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية.
الهوامش:
- رولان بارت، لذة النص، ترجمة عمر أوقان، إفريقيا الشرق، 1991، ص21.
- مجلة الثقافة، وزارة الثقافة الجزائرية، عدد 104، سبتمبر - أكتوبر، 1994، ص 285.
- محمد عابد الجابري، الحداثة والتراث، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء (المغرب)، ط1، 1991، ص 49.
- مجلة الثقافة، ص 285.
- أحمد بزون، قصيدة النثر، ص 68.
- بيير جيرو، الأسلوبية، ترجمة منذر عياش، مركز الإنماء الحضاري، حلب (سوريا)، ط2، 1994، ص 139.
- عبد السلام المسدي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب (تونس)، ط2، 1982، ص33.
- أحمد بزون، قصيدة النثر، ص68.