توظيف التراث الشعبي في نماذج من روايات بن هدوقة

الأستاذ محمد زكور - جامعة عنابة
الأستاذ محمد زكور - جامعة عنابة
مقدمة:
ما من شك أن أي شعب مهما بلغت درجة مواكبته لروح العصر والحداثة وارتباطه بمظاهر التكنولوجية والتقنية يبقى دائما محافظا على هويته وأصالته وتفرده الذي يميزه عن باقي الشعوب الأخرى.
ولهذا نجد هذه الأمم تسعى إلى أحياء أمجادها الماضية واستعادة ذكريات أبطالها وذلك من خلال نشر أخبار رموزها وأبطالها الوطنية، قصد تذكير النشء وزيادة تعلقه بأصالته وثوابته المقدسة.
وهنا يبرز دور التراث الحضاري للأمة، فكلما كان تراثها غنيا غزيرا عاد ذلك بالنفع والقيمة على أبنائها وأجيالها، وهنا يجد المرء نفسه أمام قسمين من التراث: الأول مكتوب ومحفوظ في الوثائق والمخطوطات يتداوله أهل العلم وهو عادة ما ينحصر في الأماكن المخصصة لذلك كالمكتبات ودور الثقافة وما إلى ذلك، أما القسم الثاني فهو تراث شعبي غير محدد بزمان ولا مكان تناقله الناس عن أسلافهم، تحفظه صدور الرواة الشعبيين من عامة الناس والملفت للانتباه هو أن التراث الرسمي المكتوب عادة ما يعبر عن توجهات وآراء الجهات الرسمية المسيرة له، بينما نجد التراث الشعبي يعبر وبكل انطلاق عن وجهة نظر الجماهير الشعبية تجاه مختلف القضايا التي تمس حياتها والأحداث التي تمر بها وقد يلاحظ الدارس في مجال التراث الشعبي الدور الهام والأساسي الذي يلعبه هذا التراث في الحياة الثقافية للأمم خاصة أنه يواكب المجتمع ويساير مختلف المراحل التي يمر بها والمميز للتراث الشعبي أنه يزداد ثراء وتنوعا كلما خمد التراث المكتوب وهذا بالضبط ما وقع في الجزائر عبر مراحل تاريخية مختلفة خاصة في الفترة الاستعمارية حينما حوصر أهل العلم وأرهبوا فبرزت الذاكرة الشعبية وراحت تبدع وتخزن ثم تنتقل وتنشر وقد استغلت الجماهير الشعبية ذاك التراث لتعبر به عن وجدانها وأصالتها المهددة.
ومن هذا المنطق أضحى الأدب الشعبي بصفة عامة بمثابة الأدب الفعلي الحقيقي المرتبط بالواقع والمجتمع، ولعل هذا ما دفع بالكثير من المبدعين من أدباء روائيين وشعراء إلى الانكباب على الموروث الشعبي والنهل من نبعه الغزير والغني بشتى صور الإبداع والخيال والقيم الراقية التي لا تقل عن باقي الإبداعات الأخرى بل حتى أنها أحيانا تتجاوزها وتتعداها إلى حدود بعيدة، هذا إذن ما يفسر الاهتمام البالغ الذي أولاه كتابنا وروائيونا بالجزائر لهذا الصنف من الإبداع، فإلى جانب الأديب الفذ عبد الحميد بن هدوقة نجد أيضا الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، عبد المالك مرتاض، واسيني الأعرج وغيرهم.
ولعل جميع الدارسين يتفقون على أن الطاهر وطار هو رائد موظفي التراث الشعبي في أعماله الروائية خاصة أنه "استطاع أن يفتح مرحلة جديدة لتطور الواقعية الاشتراكية في الرواية الجزائرية ذات التعبير العربي مستفيدا من ثقافته التراثية الحديثة..." كما يقول الأستاذ واسيني الأعرج وتعد شخصية اللاز مثالا قويا على تأثر وارتباط الطاهر وطار بالثقافة الشعبية حيث أننا نجد أن شخصية صراعات وتناقضات، كما نجد توظيفا للأغاني الشعبية والأمثال وحتى المعتقدات من سحر وأساطير متأملة في التصورات والمفاهيم الشعبية.
ومما سبق نجد أن الأدباء الجزائريين كانوا متمسكين بأصالتهم ومنبتهم من خلال اهتمامهم بموروثهم الشعبي العريق مما ساهم في إحياء واستمرارية الموروث وإعطائه دلالات جديدة وعميقة.
في مفهوم التوظيف وعوامله:
يعد التوظيف نوعا من أنواع التناص، وهو يتم بشكل مقصود ومتعمد، حيث يتم استخدام التراث لنقل الرؤى والأفكار المعاصرة لهذا يرى بعض الدارسين أن التوظيف لا يعد كاملا وناضجا ما لم يحمل الموضوعات التراثية الموظفة أبعادا معاصرة.
وهذا ما يوضحه الأستاذ عبد السلام المسدي حيث يرى أن "توظيف التراث هو عملية مزج بين الماضي والحاضر في محاولة لتأسيس زمن ثالث منفلت من التحديد هو زمن الحقيقة في فضاء لا يطوله التغيير..." (2).
وبتعبير آخر هو الاستفادة من الخامات التراثية في الأعمال الأدبية وشحنها برؤى فكرية جديدة لم تكن موجودة في نصوصها الأصلية.
وتوظيف التراث يمكن أن يكون على عدة صور وأشكال فمثلا يمكن أن يكون مرئيا أو مسموعا أو نصيا، إذا كان التوظيف المرئي والمسموع مرتبطا بالمسرح والأداء المسرحي الدرامي فإن التوظيف البنوي النصي مرتبط بالتأليف والسبب في لجوء الكاتب للموروث هو رغبته في تجاوز العقبات التي قد تعيق طرح أفكاره ورغبة أيضا في صورة محببة ومفهومة للقراء.
والجدير بالذكر هو أن عملية التوظيف ليست بالعملية السهلة التي يمكن لكل من هب ودب استغلالها بل إن التوظيف الناجح مرهون بمدى وعي الكاتب وانتقائه الذكي لمواد التراث ولهذا فهو مجبر على معاملة خاصة، والمقصود بذلك هو أنه يعاملها على أنها مادة ميتة أو مقدسة، بل يتعامل معها على أنها مادة قابلة للتجدد والانبعاث والرقي.
ومن هذا المنطلق يتحتم على كل راغب في التوظيف أن يتبع الخطوات التالية:
- على مستوى الفهم، أن يستوعب التراث ككل بمختلف مذاهبه وتياراته المتضاربة.
- على مستوى التوظيف والاستثمار: أي البحث فيما يمكن استثماره في حياتنا الراهنة أي استخدام التراث واستغلاله في القضايا المعاصرة للإنسان والمجتمع..
وبهذا نخلص إلى أن عملية توظيف التراث هي عملية استحضار واعية لمواد من التراث، واستخدامها رمز لحمل معاناة الكاتب، أو للتعبير عن إشكاليات وحوادث معاصرة وجد في الماضي ما يشابهها فيتم استحضار الحادثة القديمة لتعميق الإحساس واستخلاص الحكمة من الحادثة المعاصرة.
2- عوامل التوظيف ودوافعه:
*العوامل السياسية والاجتماعية: دفعت الظروف الصعبة التي مر بها الكاتب والشعب العربي الى اللجوء إلى التستر وعدم المواجهة المباشرة نظرا للقيود الاجتماعية والسياسية المفروضة، فلجأ الكاتب للموروث الشعبي بمختلف صوره من أسطورة وخرافة ومعتقدات لبث تلك الأفكار والرؤى التي لم يستطيعوا التعبير عنها بصورة مباشرة.
*العوامل النفسية: وجد الكاتب في ألوان التراث الشعبي تعبيرا صريحا ومباشرا عن الفطرة الإنسانية من الأحلام البريئة العفوية الساذجة وذلك بعكس القيم المعاصرة المليئة بمفاهيم التشتت والضياع النفسي والتوتر، ولهذا لجأ البعض للتراث الحالم حيث الآمال البسيطة الصادقة والأحاسيس المرهفة الجياشة.
*العوامل الفنية: ما من شك في أن التراث الشعبي غني بنصوصه ونماذجه المختلفة النابعة من عمق الجماهير الشعبية مما يعني ارتباطها المباشر بوجدان الإنسان.
*عامل الإعجاب بمظاهر التراث الأجنبي: قد يستدعي التراث الأجنبي انتباه الكاتب حتى أنه يجده موائما تماما لرؤياه وتوجيهاته فيأخذ منه دونما تردد ويوظف يعفى مظاهره مثل توظيف الأسطورة والحكاية ذات الأبعاد الإنسانية.
3- دور أشكال التعبير الشعبي في تطور الأدب الجزائري:
لقد استهدفت السياسية الاستعمارية الفرنسية في الجزائر منذ البدء القضاء على الثقافة العربية ببلدنا وطمس معالم الشخصية الوطنية، وقد ترتب عن ذلك كله جمود فكري أعاق تطور الثقافة العربية بشكل عام والحركة الأدبية بشكل خاص وبالمقابل كان الواقع الحضاري ينطوي على ألوان من الثقافة التقليدية، حيث ازدهرت الإبداعات الشعبية وتنوعت أشكالها التعبيرية حتى أنها أضحت مصدر التسلية والترويج لكثير من الطبقات الشعبية.هذا ما جعلها ذات طابع وطني أصيل أساسها التراث القومي المعبر عن ذاتها شخصيتها المعنوية.
وبهذا تطور واستمر الأدب الشعبي الأصيل بمختلف أشكاله مثل الفنون التاريخية المعروفة، كما برزت للوجود مظاهر إبداعية مرتبطة بالفن الدرامي كالرواية الشعبية والحلقة والمداح وما إلى ذلك وهذا الموروث الشعبي على بساطته كان يشكل جزءا هاما من مكونات الشعب الثقافية والفكرية وتجسد ذلك في الإنتاج المسرحي الشعبي الذي انطلق سنة 1926 على يد كل من علالو ورشيد القسنطيني وباش طارزي حيث كان هؤلاء يستمدون موضوعاتهم من التراث الشعبي كالسير الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة فضلا على أنهم كانوا يخاطبون الجمهور بلغته العامية.
وقد يفسر هذا الاعتماد اللجوء على الأدب الشعبي إلى أنه يحقق حياة العدالة والحب التي كما أن هذه الأشكال التعبيرية الشعبية تقدم بمبناها الجميع بوسائلها الخاصة جوابا شافيا عن السؤال الذي يدور بخلد الشعب عن مصيره وهدفه في الحياة وكأنما تودان تقول له هكذا ينبغي أن تعيش متفائلا مغامرا مؤمنا في عالم الغموض الذي تعيشه.
إن ما سبق ذكره يؤكد مرة أخرى على الدور الهام والأساسي الذي لعبه الموروث الشعبي في بروز وتشكل الأدب الجزائري فعلى الرغم من أن هذه الأشكال الشعبية كانت في أحيان كثيرة خالية من التقنيات والخصوصيات السردية الحديثة إلا أن دورها كان كبيرا وجليا حيث أنها كانت تنطوي على مضامين حسية تصور الواقع الاجتماعي والحضاري للمرحلة التاريخية بخصوصية العمل واندراجه في سبيلين متلازمين هما مناهضة الاستعمار ومحاولة الحفاظ على الوجود الثقافي والتميز في الانتماء.
4- الكتابات الروائية لـبن هدوقة وارتباطها بالاهتمامات الشعبية:
لقد كان إسهام بن هدوقة في تطوير الرواية الجزائرية بالغا وذلك منذ البدايات الأولى، خاصة أنه استطاع ولأول مرة منافسة الأعمال المكتوبة باللغة الفرنسية من خلال روايته المشهورة "ريح الجنوب" التي عالج فيها مواضيع لصيقة بالحياة وبالمجتمع، فكان موضوع الريف الجزائري بمشاكله وذكرياته وأحلامه، كما عدت هذه الرواية أول عمل ينظر إلى قضية الريف نظرة واقعية موضوعية" (4).
كما برز بن هدوقة أكثر من خلال إبداعاته الجادة في القصة القصيرة والمقالة والشعر غير أنه أدرك خلال فترة السبعينيات أن هذه الأجناس لا تساير فعلا تلك التغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية ففضل الاستمرار والمواصلة في الكتابة الروائية التي بفضلها استطاع رسم صورة متكاملة للمجتمع الجزائري تلك الحقبة من تاريخه المليء بالتغيرات والتجديد، فكانت الرواية الواقعية أفضل ممثل ومجسد للتناقضات والأحداث المتضاربة من خلال الشخصيات المختلفة الممثلة للمجتمع الجزائري في صورته الواقعية، وبذلك قام بن هدوقة برسم الواقع الاجتماعي دون اللجوء إلى الإغراب والمغالاة، إنه وببساطة قدم لنا المجتمع الجزائري بإيجابياته وسلبياته بجانبه المشرق والمظلم في أن واحد.
إن بن هدوقة في كتاباته الروائية الواقعية كان مرتبطا ومتواصلا مع المجتمع الذي هو جزء منه، لقد ربط إبداعاته الروائية بحركة تطور المجتمع عبر مراحل مختلفة وساير بذلك عصرا كاملا بمختلف نجاحاته وإخفاقاته بآماله وآلامه وكل حيثياته الأخرى.
ففي روايته الأولى ريح الجنوب، نهاية الأمس، بان الصبح، كان الكاتب يسعى إلى دحض السلبيات التي استشرت في تلك الفترة وساهمت بشكل أساسي في تدهور المجتمع أكثر فأكثر، ولهذا كان بن هدوقة كما وصفه الأستاذ عبد الله الركيبي "معلما أحيانا وفنانا أحيانا كثيرة".
أما فيما يخص فترة الثمانينيات فنلمس فيها نوعا من التأثر والأسى للتخلي عن المبادئ والمشاريع التي تحمس لها الجميع آنفا حيث تبخرت أحلام الكاتب في رؤية مجتمع متكافئ خال من الاستغلال والرجعية ولهذا جاءت رواية الجازية والدراويش تعبر عن الحزن والأسى الذي كان يعتصره، كما انه تنبؤ حوته رواية الجازية والدراويش عن غد مخيف ومستقبل دام يغيب فيه العقل وتحكمه قوانين الدروثة وفوهة البنادق.
وهذا الغد هو الذي تجسده رواية غدا يوم جديد حيث صدقت نبؤة بن هدوقة فشهد المجتمع الجزائري فترة من أحلك الفترات في تاريخه، وقد أثر ذلك في البناء الفني للرواية حيث حملت سمات الرواية الجديدة التي تتداخل فيها الأزمنة ويعايش فيها الماضي الحاضر ويتم فيها اختراق القواعد السردية وانتهاكها بجرأة وبالمقابل تنتصر لكل ما هو تاريخي وجميل وتجعلنا نتساءل هل الحاضر الأسود هو صورة لماضي ما هذا ما يقدمه الأستاذ واسيني الأعرج تبريرا لما وجدناه في رواية غدا يوم جديد.
وبين هذا وذاك كان بن هدوقة دوما مرتبطا بالمجتمع الذي ينتمي إليه وظل وفيا لتراثه وأصالته، كل ذلك جاء واضحا وتجلت معالمه من خلال التوظيف المتواصل للتراث الشعبي والأدب العالمي في رواياته الخالدة وهذا ما نلمسه من خلال تعرضنا لتلك الروايات وما احتوته من توظيف واستثمار.
توظيف الأدب الشعبي في روايات بن هدوقة:
-
في توظيف الأغاني والأشعار الشعبية:
قد يختلف الدارسون في تقديرهم للدور الذي أداه الشعر الشعبي في شتى مجالات الحياة التاريخية والفكرية للجزائر إلا أنهم يتفقون في أنه نجح في فرض وجوده واستمراريته في القضايا الثقافية والنضالية وواجد التحديات الاستعمارية وعبر عن القضايا الوطنية والقومية،وصور بذلك أحداثا كثيرة عرفتها الجزائر عبر سنين طويلة سواء أكانت الأحداث سارة عبر فيها عن فرحته وابتهاجه أم سيئة أثارت حزنه وألمه وكان في بساطته وصدق تعبيره أصدق من بعض الوثائق المدرسية.
نعم لقد سجل الشعر الشعبي الجزائري جميع المراحل التاريخية التي عاشتها الجزائر منذ أمد بعيد وكان حاضرا في جميع الأحداث التي تعاقبت عليها من الأسبان والفرنسيين وغيرهما ولم يغفل أية ردة فعل أصدرتها الطبقات الشعبية، وأصبح شاهدا على تاريخ شعب بأكمله بكل ما يكتنف كلمة تاريخ من شساعة وتشعب.
وقد ارتبط الشعر الشعبي أساسا بالطبقات المعدمة التي كانت تتركز أساسا في المناطق الريفية التي كانت سابقا تتجاوز المناطق الحضرية عكس ما هو عليه الحال الآن وربما هذا ما يفسر الانتشار الواسع والإقبال الكبير الذي كان يحظى بهما الشعر الشعبي والأغنية الشعبية والمواويل وما إلى ذلك وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الإبداع الشعبي الشعري لم يتخل أبدا عن التعبير الصادق لمشاعر الجماعة، فطالما سعى لتغير ذلك الواقع الصعب المرير كما دفع وشجع الثورة والتمرد ذلك والانعتاق من كل صور العبودية والإذلال.
إلى جانب هذا لا يمكن لنا بأي شكل من الأشكال نفي الدور التوثيقي والتاريخي الذي لعبه الشعر الشعبي، حيث أنه يساعدنا على الفهم الواضح لبعض الجوانب التي أهمها المؤرخون خاصة أن الشعر الشعبي كان شاهدا عيان وأبلغ لسان كشف هذا الغموض، و"إن لم يكن في نصوصه ما يرفعه إلى مرتبة وثائق تاريخية تعتمد في الدراسة والبحث فلا شك أنها تعبر بدقة عن مواقف وأحداث ساهمت في صنع التاريخ" (7).
إن كل المواصفات السابقة الذكر حتما لم تكن خافية على كاتبنا المبجل بن هدوقة ولهذا فهو لم يتردد في النهل من موروثنا الشعبي القيم، وهذا ما يتجلى في تلك الأشعار التي نجدها في رواياته ومثال ذلك رواية "ريح الجنوب" المرتبطة بالبيئة الريفية مما وجب استخدام وسائل التعبير النابعة من هذه البيئة ولهذا وظف الروائي مقطوعة شعرية لشاعر شعبي عبر فيها عن رأيه وتصوره لعالم المرأة الذي وجد فيه نوعا من الخبث والدهاء وأن مكرهن عظيم ومما جاء فيه:
سوق النساء سوق غرار
يا داخلوا رد بالك
يورولك من الربح قنطار
ويخسروك في راس مالك
إن هذا التصور الشعبي ليس بالغريب فمثاله في الأدب المدرسي الفصيح كثير وشائع، وهو على العموم جانب من جوانب المعاملات الاجتماعية التي تتحكم فيها أسباب نفسية واجتماعية متداخلة.
كما نجد توظيفا آخر لهازم اللذات ومفرق الجماعات: الموت، فطالما كان هذا المصير المحتوم يترك في نفس المبدع الشعبي الإحساس بالقلق والتوتر والحسرة والألم العميق خاصة عندما يشهد رحيل أحبابه وخلانه الذين أضحوا في عتمات القبر والتراب وهو بذلك يعاين مصيره الذي لا مفر منه من التراب وإلى التراب (8).
إلا أن هذا لا ينفي بالمقابل وجود بواعث الأمل والانطلاق فهي رواية نهاية الأمس (9) نجد توظيفا لبعض المقاطع الشعرية التي تعبر عن ارتباط الشخصيات بالوطن والطبيعة التي شهدت نشأتهم وانطلاقتهم في الحياة بكل ما فيها من أحداث وأحاديث حلوة ومرة، مثلما هي الحياة لكل واحد منا، فكأنما وجدت الشخصية الروائية في هذا الشعر الشعبي تعبيرا عن مختلجات متقاربة ومتطابقة فالشخصية من خلال استرجاعها لماضيها البعيد وحنينها الرومانسي الحالم للمواقف الجميلة التي أتت عليها نوائب الدهر ودمرتها أهوال بالحرب.
-
في توظيف الفضاءات المرتبطة بالحياة الشعبية:
أ-القرية أو الدشرة: إن الحضور القوي والمستمر لهذا الفضاء في المتن الروائي هو ترجمة واضحة للارتباط والعلاقة الحميمة التي كان بن هدوقة يوليها لهذا الجزء من وطنه فهو دائما يحاول التركيز على الواقع المؤسف للحياة الريفية، فالمعيشة في هذا الفضاء المكاني غالبا ما تكون منحصرة في مجالات ضيقة ومحدودة وهذا ما عبرت عنه رواية غدا يوم جديد بصراحة.
فقد كانت القرية هي كل حياة شخصية مسعودة ولهذا سعت جاهدة للانعتاق من هذا الفضاء الضيق المتزمت ولتحقيق حلمها الأول والأخير المدينة هذا الحلم الذي يسكنها ويحثها على مغادرة تلك الدشرة الخارجة عن الزمن.
إن هذه الإشارات تحاول الكشف عن الواقع الكئيب للدشرة، فبعدها من المدينة جعلها تتقوقع ولا تشهد أي نوع من أنواع الحضارة والانفتاح على العالم الخارجي لهذا كانت الرغبة في مقاطعة هذا الفضاء قوية عند جل الشخصيات.
إلى جانب هذا نجد توظيفا لمختلف معالم الحياة الريفية من عادات وتقاليد فمثلا نجد ظاهرة الوشم، وهو تعبير عن التمسك والارتباط الوثيق بأساليب الحياة الاجتماعية القديمة أنه أثر من آثار ماضينا الذي لا يمكن تجاهله أو نكرانه، ولكن شخصيات الرواية ترفض ذلك وتأباه لأنه صورة للتفكير الساذج البالي الذي لا يمكن له بأي شكل من الأشكال أن يؤسس لحياة متقدمة غير تلك السائدة في فضاء القرية.
ب- فضاء الزاوية: وإلى جانب هذا نجد توظيف فضاء الزاوية كصورة العزلة والتقوقع الفكري والعلمي وملامح العزلة تعبر عنها رواية غدا يوم جديد (10) وتتمثل أولا في عزلة هذا الفضاء عن باقي العالم فهو يبعد بحوالي عشرة كيلومترات... والطريق الرابط إلى البلدة والزاوية زراعي تستعمل فيه العربات التي تجرها الخيل أو الدواب الأخرى.
إن هذا التوظيف يرمز لما عاناه الفكر الجزائري من تأخر وتقهقر وهو ما عبرت عنه الرواية في هذا المقطع "إن ما ندرسه هنا لا يتقدم بنا إلى الأمام إنما يصعد بنا إلى الأزمنة انتهى أمرها وفكرها".
إن هذه الرواية تحاول وضع المجتمع في مرآة الحقيقة والواقع اليائس من خلال طرح التساؤل حول مصير أمة يقودها ويتحكم في منظومتها الفكرية تعلمها الماضي المهترئ.
-
في توظيف الأمثال الشعبية:
يعد المثل الشعبي من بين أشكال التعبير الشعبية التي تلقى رواجا وتداولا بين عامة الناس، فهم من خلال ذلك يحاولون صياغة أفكارهم وآرائهم في قالب التعبير الشفوي نظرا لعدم إتقانهم طرق التعبير الكتابية، غير أن ذلك لا ينقص من قيمتها ودورها الهام في الحياة الفكرية ودورها الهام للشعب وعامة الناس فهو غالبا ما يحمل بين ثناياه الواقع الاجتماعي والتراث الفكري النابع من صلب المجتمع. ولهذا عد المثل الشعبي أكثر تأثيرا، واستثماره كان بدرجة أكبر من غيره من الأشكال الأخرى نظرا لطبيعته المركزة التي يمكن لها حمل معاني واسعة في كلمات محدودة.
ولهذا سعى بن هدوقة لتوظيف المثل في أمكثر من عمل روائي وبالخصوص في رواية الجازية والدراويش.
حيث تم توظيف العديد من الأمثال الشعبية المعبرة عن الأصالة والارتباط الوثيق بالوطن والأرض الذي يسري في عروق الإنسان الشعبي (11).
كما عبرت أمثال أخرى في "ريح الجنوب" عن الواقع الاجتماعي والصراع الداخلي الذي كان يتنازع شخصيات الرواية ونظرتهم للحياة. وهو ما عبرت عنه العمة رحمة "ناكلو في القوت ونستنو في الموت" وهو تعبير عن ما كان يعتصر أبناء الشعب المقهورين والمنسيين في عالم التناقضات الذي كانت تنظر إليه العجوز على أنه عالم المتاعب والأحزان فكان الموت الوسيلة الوحيدة للخلاص والانفلات منه.
كما وظف الكاتب المثل العشبي للتعبير عن الوضع الاجتماعي الصعب والقهر في عالم الريف في رواية نهاية الأمس فهو يورد ذلك على لسان العجوز ربيحة التي كانت تعزي نفسها بقولها: الدنيا بالوجوه والآخرة بالفعايل" (13)
كما تم توظيف المثل في رواية ريح الجنوب للتعبير عن الوضع الاجتماعي المتناقض حيث يعاني فيه الكادحون مرارة الحياة بينما كان الملاك والإقطاعيون يعيشون وينعمون ظلما وجبروتا على حساب مآسي الآخرين وجراحاتهم الدامية.هكذا إذن كانت الأمثال الشعبية تعبيرا صادقا ومباشرا عن تطلعات المجتمع الجزائري لأنها ارتبطت بشتى مجالات الحياة في جوانبها الفكرية والنفسية العميقة إلى جانب ذلك تميزت بالجوانب الفنية القيمة التي لا يمكن نكرانها رغم بساطة بناءها ولغتها العامية.
-
في توظيف الأسطورة والمعتقدات الشعبية:
ورد في رواية ريح الجنوب أن هناك أشياء لا تعدو أن تكون أساطير وخرافات ولكن إيمان الشعب بها يعطي لها الحياة ووجودا لا يقبل المناقشة (14).
من هذا المنطلق حاول بن هدوقة معالجة إشكالية التمازج والالتباس بين الدين والأساطير المترسبة من أجيال عديدة وقد تجسدت هذه الإشكالية في رواية ريح الجنوب من خلال الشخصيتين المتناقضتين نفيسة والعجوز رحمة، فالأولى تمثل الجيل الذي حظي بالتعلم والانفتاح والثانية التي تمثل جيل الآباء الذين حرموا ذلك فكانت العجوز مثالا حيا عن الإنسان الشعبي بسذاجته وسطحية تأملاته وتمسكه بمعتقداته التي ورثها دونما نقاش وهذا ما يفسر لنا حدة الصراع بين شخصيات بن هدوقة خاصة في مرحلة السبعينيات والتي عدت مرحلة الأسئلة الكبرى حول التوجهات التي تضمن للمجتمع التطور والازدهار فكانت فكرة التعبير الشامل من بين الأسئلة التي أحدثت هزات عنيفة في المجتمع ككل وعند المثقف بصورة أخص، وقد جسدت روايات بن هدوقة أزمة المثقف أمام هذا الوضع الجديد في رواياته الأولى المندرجة ضمن الروايات الواقعية الانتقادية.
أما فيما يخص توظيف الرموز الأسطورية فهي تظهر بجلاء في رواية الجازية والدراويش، حيث تظهر شخصية الجازية ببعدين أساسيين أحدهما خيالي من خلال السيرة التاريخية والآخر واقعي من خلال اسمها الذي يشيع في التراث الشعبي في الرواية ذاتها.
وقد أسقط المؤلف على شخصية الجازية نموذجا خارقا للعادة أعطاها بعدها الأسطوري الجميل ومما ورد في الرواية نذكر "تم تخرج الجازية فجأة من الطفولة لتصبح الأسطورة – الحلم" (15).
كما جعل الروائي البطلة ترمز للحرية والانعتاق حيث نجد هذا واضحا في هذه العبارة "حمامة حائمة فوق أرض جبل، من يستطيع قبضها" (16).
وعدت الجازية كذلك رمزا للأرض، فقد استمدت أصلها من إحدى الشخصيات الوطنية التي قدمت أروع البطولات في تاريخ الجزائر، كيف لا وجدتها الأولى هي الكاهنة البطلة البربرية الرمز، كما شكلت الجازية المثل الأعلى الذي يدفع الناس للتضحية بالنفس والنفيس من أجل الحرية والانفلات من جميع قيود العالم مهما كانت قوتها وجبروتها.
وإلى جانب هذا نجد توظيفا لنصوص شعبية أخرى كالمواويل والأذكار خاصة في رواية الجازية والدراويش وهي أذكار نابعة من صلب المجتمع الريفي المتمسك بمعتقداته وتوجهاته الفكرية التي تتحكم فيها وبدرجة كبيرة مبادئ الدروشة والتمسك بالأولياء الصالحين. وقد تميزت هذه النصوص التراثية التي جرت على لسان الدراويش بالعفوية والشاعرية وتصوير للعواطف الصادقة البريئة المعبرة عن واقع الجماعة الشعبية.
خاتمة:
لقد كان بن هدوقة في رواياته شعبيا ومرتبطا بمجتمعه ارتباطا عضويا لا يمكن بأي شكل من الأشكال نفيه أو تجاهله، فقد حملت لنا رواياته واقع وأحلام وتصورات الإنسان الشعبي، في صراعه مع الحياة والواقع الصعب، وكذا في علاقاته ومعاملاته مع غيره من الناس، كل هذا عبرت عنه الأشكال التعبيرية المختلفة الموظفة في الأدب الروائي لـبن هدوقة، فقد كان المثل والشعر والأسطورة صورة معبرة عن القيم الاجتماعية والسياسية ودعت جميع هذه العناصر إلى التغيير الجذري من أجل التطور والرقي الفكري والحضاري.
الهوامش:
- واسيني الاعرج: اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب 1986، ص 151.
- عبد السلام المسدي، توظيف التراث في الشعر العربي المعاصر، مجلة العربي، الكويت، العدد412، مارس 1993، ص 85.
- بوالشعير رشيد، دراسات في المسرح العربي المعاصر، دار الأهالي، دمشق 1997، ص 45-46.
- محمد مصايف: دراسات في النقد والأدب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1981،ص177.
- عايدة بامية أديب، تطور الأدب القصصي الجزائري، الجزائر 1982، ص 56.
- التلي بن الشيخ،منطلقات التفكير في الأدب الشعبي الجزائري، ص 07.
- عبد الحميد بن هدوقة، ريح الجنوب ص 203.
- انظر ريح الجنوب: ص164-165
- نهاية الأمس: 140 وص39.
- غدا يوم جديد، ص 224.
- انظر الجازية والدراويش،
- ريح الجنوب، ص16، ص15، 199-209، 220
- نهاية الأمس، ص 200
- ريح الجنوب، ص 16.
- الجازية والدراويش، ص 24.
- المصدر نفسه، ص 172.