تجربة مثيرة لمارسيل بوا

الترجمة انتقال من لغة إلى أخرى و باب مشرع على عالم مختلف يدخل منه قراء جدد. و هي كذلك لقاء بين الأشخاص. و أنا أعتبرها أكثر من أداء مهمة كونها اتخذت مظهر الصداقة.
بدأت القصة بمطالعتي " ريح الجنوب" آنذاك لم يكن المؤلف في نظري اسما ضمن أسماء أخرى. لكن انكشف أمامي أثناء القراءة إنسان متأصل بعمق، إنسان ملتزم، إنسان واضح مبتكر.
و هذا التأصل هو تأصل ابن من أبناء الجزائر، جزائر الأمس و اليوم، بنظرة متجهة بعزم إلى المستقبل. لقد كبر في رحاب الريف الجزائري الذي يدخلنا إليه. إن شخصية مثل العجوز رحمة تعكس على نحو باهر هذا التأصل حيث لا تنفصل الذكريات عن الآمال.
و من جهة أخرى، فإن الكاتب يتبنى النضال الذي يخاض يوميا ضد أشكال الظلم والاستغلال. إنه يسمع و يعبر عن صرخة طالبة الثانوية المضطهدة. و يجعلنا نشاطره تعاطفه مع العمال الذين سلبت منهم أرضهم. و ينتفض ضد مختلف أوجه الأبوية، و يتكلم باسم من ليس في وسعهم الكلام.
و هو واضح و مبتكر حين يتصدى للواقع بكل أبعاده و يضفي عليه بعدا جديدا، عبر سيران التاريخ و الحياة اليومية، و من خلال الأزمات التي تولدها العلاقات العائلية و الاجتماعية، و استعادة شعرية الأحاسيس و الطبيعة، و التذكر بالأساطير و الخرفات التي تسكن خيال الشخصيات.
إن تقنية السرد، حيث تختلط الملاحظة بالحلم، و الجنس بالنكتة التي تبرز طبيعيا على لسان الراعي أو الفلاح تجعل القراءة ممتعة و مثيرة أحيانا.
هكذا تأكد، إلى حد ما، بالنسبة لي معنة كلمة باسكال " حين يكون الأسلوب طبيعيا فإننا نظل مندهشين و مسلوبي اللب تماما، إذ كنا ننتظر أن نرى مؤلفا فإذا بنا نجد إنسانا". فلقائي بالكاتب إثر مطالعتي لأعماله أناط بي مهمة جديدة. فتبينت ترجمة الرواية تستجيب لرغبة المؤلف و إلى انتظار جمهور واسع في الجزائر و خارجها.
و أثناء إنجازي لمهمتي استفدت من وضع ذي امتياز. ففي ثانوية المقراني، التي كنت أدرس بها اللغة الفرنسي، كان زملائي من أستذة اللغة العربية، و خاصة عبد الله مازوني، يشجعونني و يقدمون لي بين الفينة و الأخرى توضيحات مفيدة. كما رحب لي صدر المؤلف خاصة. و سمحت لي لقاءاتي العديدة به أن أكون شاهدا على وعيه المهني و دقة بحوثه في مجال اللغة.
بعد أن أنهيت ترجمة ريح الجنوب، دفعت المخطوط لقراءة ثانية إلى نموذجين من القراء المحنكين: قارئ مزدوج اللغة و آخر يجهل العربية. و هذه القراءة المزدوجة، التي دأبت على اللجوء إليها في كل ترجماتي، تسمح بتقديم التوضيحات النهائية سواء فيما يخص الوفاء للغة الأصلية أو نوعية التعبير في اللغة المنقول إليها.
و بعد أن حظيت ترجمة ريح الجنوب بتجاوب إيجابي ( صدرت منها إلى حد الآن أربع طبعات في فترات متباعدة) أتممت في أعقاب ذلك، إن جاز القول، ترجمة نهاية الأمس. و تبادلت الرأي باستمرار مع المؤلف مما سمح لي استبعاد بعض الأمور التي كنت أشك فيها، و تحميص بعض التعابير و إجلاء هذه الجملة أو تلك.
عرفت بعد ذلك إمتيازا آخر: و هو أني تحصلت على روايتي بان الصبح و الجازية و الدراويش فصلا فصلا، حين كانت الصفحات تتساقط أول بأول من الآلة الراقنة للمؤلف. و يسر علي هذا التلقي تأقلما لأمكن للطبعة الفرنسية أن تصدر في آن واحد تقريبا مع النسخة العربية.
و لما قرأت الروايتين الأخيرتين، تأكدت الانطباعات التي أحسست بها في كل ريح الجنوب، و ازدادت ثراء و توسعت الآفاق. في بان الصبح، ندخل المدينة و ذلك في 1976 و هي سنة النقاشات المتقدة للميثاق الوطني. و حملت الجازية و الدراويش تجديدا أكثر. فالرؤية الأدبية و تقنية الرواية تخلقان، إذا صح القول، أسطورة جديدة عن الجازية: المرأة المثالية و المغوية، المرأة التي لا حامي لها، المرأة التي يتعذر نيلها لحد الآن بالنسبة للطامعين الذين يطلبون ودها. و يسلط المؤلف الأضواء ، التي تكون طورا خافتة و طورا آخر باهرة، على غنى التقاليد و يعري تناقضات جزائر تتأرجح بين التقليد و الحداثة. لكن ثمة مسلمة دائمة الحضور في روايات بن هدوقة الأربع: فمن خلال السرد و الشخصيات تتأكد إرادة إلغاء كل ضروب الكبت و الاضطهاد و الاستلاب و رفض المحرمات و الممنوعات. وفيما يخص مشكلة المرأة، مثلا، فهي دائمة الحضور في مؤلفات بن هدوقة الروائية. و يبدو أن أحلام مستغانمي أدركت ذلك جيدا حين تقول في كتابها: " الجزائر: المرأة و الكاتبة" :" إن رواية ريح الجنوب تسجل ليس فقط ميلاد الرواية الجزائرية بالعربية، لكنها تسجل كذلك دخول المرأة الجزائرية في الأدب باللغة العربية و الأمر هنا لا يتعلق بدخول محتشم من خلال إمرأة مناضلة أو تقليدية، لكن ببروز جسد المرأة و قهره اجتماعيا و جنسيا. إن نفيسة هي أول فتاة جزائرية في الأدب المكتوب باللغة العربية، التي يعترف لها بحق امتلاك الجسد. و للمرة الأولى كذلك فهذا الجسد لا يهان و لا يدنس و هو ليس موضوع كبت للمؤلف".
في السنوات الأخيرة أضيفت ترجمة الروايات ترجمة بعض القصص منها:
- تمثال بلا رأس المنشور في الثورة الإفريقية
- - رمانة الساقية- التي كتبها بن هدوقة لألبوم " الأطفال في القلب" لفائدة الطفولة المهملة
- أطلقوا النار على الكلمات- التي كتبت في أكتوبر 1988، و تداولتها الأيدي بالعربية و الفرنسية على طريقة " النشر الذاتي" (ساميزدات) قبل أن تنشر بالفرنسية في جريدة " آفاق" المسائية في 13 نوفمبر 1989، و بالعربية في بداية 1990 في العدد الأول من مجلة " الرواية".
و في عدا تلك اللحظات الغنية التي قضيتها رفقة المؤلف، ينبغي ذكر الساعات التي كرسناها سويا لأقسام الثانويين و الطلبة، الذين كانوا يدرسون رواية ما للمؤلف، و يبدون مع أساتذتهم رغبة في محاورة الكاتب. و في كل مرة أتيح لي أن أعجب باستعداد بن هدوقة و كذلك فطنة أجوبته على الأسئلة التي كانت تطرح عليه.
و وعيت تدريجيا أهمية الترجمة في الجزائر اليوم، حيث أن الكاتب مهما كانت لغته التي يكتب بها، محروم منذ البدء من قسم من قرائه. و هذه الأهمية سبق لعبد الله مازوني أن أشار إليها في كتابه " الثقافة و التعليم في الجزائر و بلدان المغرب" حين كتب متحدثا عن الازدواجية: " إن المترجمين و الناقلين يضمنون بحكم وظيفتهم الاتصالات الفكرية الضرورية بين رجال حكم عليهم التفاهم لكونهم، قبل كل شيء، أبناء أرض واحدة" في غياب ثقافة واحدة تجمعهم للأسف".
فالترجمة تسهم إذا في عتق جمهور جزائري أو مغاربي معين عن طريق مساعدته في وعيه بشكل أوسع بثرائه الثقافي. و تحي أيضا تقليدا قديما و نبيلا، تقليد التواصل الثقافي بين ضفتي المتوسط و إفريقيا.
و في حالة بن هدوقة فإن رجال الثقافة من مختلف المشارب و الأفاق أدركوا البعد الإنساني العالمي الذي يمثله ابداعه المتأصل في عمق الأرض المحلية. و تشهد على ذلك ترجمة أعماله إلى لغات عديدة. و هكذا فريح الجنوب ترجمت إلى الاسبانية و الهولندية و الألمانية و البولونية و التشيكية و السلوفانية و الروسية و الصينية.
ختاما أستطيع القول أني عشت و مازلت أعيش تجربة مثيرة. وإذا كانت عملية المتابة، كما يطيب لبن هدوقة أن يذكر بذلك، هي مظهر من مظاهر الحرية و عامل تحرر، فإني أعي هذا المسعى و أشاطره و أردد صداه، حين أسير رفقة كتاب أمثال عبد الحميد بن هدوقة و الطاهر وطار فإني أدرك أني أحيي مستحقا لصانعي النهضة الأدبية العربية في الجزائر.
مارسيل بوا
ترجمة عبد العزيز بوباكير