تجربة بن هدوقة الروائية

د/ شريفي عبد الواحد أستاذ الترجمة والأدب المقارن جامعة وهران
د/ شريفي عبد الواحد أستاذ الترجمة والأدب المقارن جامعة وهران
مقدمة لا بد منها :
إن الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية تضع- اليوم - أقدامها على أبواب الحداثة في المستويين الجمالي والمعرفي ...، فهذه الرواية تنزع من خلال بنيتها ولغتها وكثافتها إلى خلق مستويات متفاوتة، مستخدمة كل الأساليب السردية المعاصرة واللوحات الفنية المتنوعة ، للتعبير عن بيئتها وعصرها ( تيار الوعي، الرمز والأسطورة، المناجاة الأحلام اللامعقول أسلوب المذكرات والوثائق ...).
قد لا نبالغ، إذن، إذ قلنا أن هذه الرواية الجزائرية استطاعة - على الرغم من العقبات العديدة التي اعترضت مسيرتها - أن تقفز قفزات واسعة في عمرها القصير الذي لا يتجاوز نصف القرن، وأن تسير بخطى ثابتة نحو النضج، واحتلال مكانة مرموقة بين الأجناس الأدبية الأخرى، فلئن كانت درجة السذاجة تبدو واضحة في مرحلة البدايات، فإن درجة من التعقيد تصاحب المرحلة الأخيرة نتيجة تنوع أدوات التعبير الفني وتجارب الأجيال وتعقد الحياة بروافد مكوناتها المختلفة.
واللافت للنظر أن إنتاج الروائي العربي قد تزداد، خلال السنوات الماضية، بشكل جدي وملموس ( تجاوز 150 رواية )، وكان من نتائج هذا التطور الكمي والكيفي أن دخلت " روايتنا " مجال الدراسات الأكاديمية من أوسع الأبواب، وأصبحت " مخبرا " متسع الأرجاء، متعدد المضامين ، متميز المناحي ... والحق أن الجيل الأول المؤسس ( وطار، بن هدوقة، عرعار ...) قد بذل جهدا كبيرا لإخراج الرواية الجزائرية إلى آفاق جديدة وتصوير النفس البشرية بكل أبعادها ونوازعها... ويمكن القول إن هذا الجيل هو جيل تحد حقيقي، ظهر في عز عطاء ومجد الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، في فترة تحول وطني كبير تقوده سلطة ثورية تؤمن بضرورة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية ( الثورة الزراعية، التأمينات، الاهتمام بالصناعة...). أما في الثمانينات والتسعينات، فلقد ظهر جيل جديد ( الواسيني ، خلاص، السائح، الزاوي ...) وقف إلى جانب الجيل الأول المؤسس لتطوير الفن الروائي العربي والدخول في مرحلة من التحولات الفنية، مرحلة بحث وتكوين أشكال جديدة لرواية جزائرية متجذرة أكثر في التربة والتراث .... ويبدو أنها نهاية الثمانينات تعد إيذانا لبدء مرحلة جديدة في حياة الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية التي بدأت تنحو منحنى جديدا في صياغة أبطالها وتوظيف تقنيات جديدة والاعتناء الشديد بالصور واللغة الشعرية ...ولكن، أين موقع ابن هدوقة من تطور هذا الجنس الأدبي الذي نما نموا محسوسا في إفادته من تقنيات السرد المختلفة وكيفية التعامل مع المضامين والشخصيات والأحداث واللغة والزمن... وبعبارة أخرى، هل تطور ابن هدوقة روائيا؟ وهل استطاع إتقان كتابة الرواية بكل ما تحمل من أجهزة تقنية شديدة التعقيد من المعروف، أن ابن هدوقة قد كتب، خلال عشرين سنة، خمس روايات، وعرفت الكتابة الروائية عنده مرحلتين متميزتين: مرحلة التأسيس ومرحلة التجديد والنضج. وهاتان المرحلتان - على الرغم من تباينهما - فهما متداخلتان مع بعضهما البعض في نسيج فني معقد متشابك (1). فابن هدوقة - كما سنرى طور أيما تطور، خلال هاتين المرحلتين، أدواته الفنية، يضيف في كل مرة لبنات جديدة إلى مشروعه الروائي الضخم.
أ / بن هدوقة مؤسس الرواية الجزائرية :
1 / ريح الجنوب :
يؤكد العديد من الدارسين على أن " ريح الجنوب "، 1971، تمثل البداية الحقيقية للرواية الفنية العربية في الجزائر. ولعل أهم ما يميز هذا العمل الرائد ، في رأيهم، هو تماسكه واستناده بشكل واضح إلى التراث الجزائري واهتمامه بالتصوير الفني للواقع، وتحليله لهموم الفئات الاجتماعية المضطهدة ( الفلاح، المراة ...).
إنها رواية ذات حبكة متقنة، وإنجاز فني ناضج، يطرح بكل واقعية وموضوعية قضايا حساسة عاشها المجتمع الجزائري غداة الاستقلال.(2) وقد لا نبالغ إذا قلنا إنها أول رواية تصدق نبوءتها: حدوث ثورة قادرة على تغيير وجه الريف الجزائري وذلك قبل توقيع المراسيم المتعلقة بالثورة الجزائرية .... ومن هذا يظهر صدق تجربة ابن هدوقة الذي استطاع تقديم عمل واقعي مكتمل و" تشريح وضع مفروض قلبا وقالبا على كل المستويات ... فمن خلال الإقطاعي والراعي رابح ونفيسة المثقفة المتمردة ورحمة العجوز ذاكرة الثورة الوطنية بحسها الشعبي ووعيها البسيط يدفعنا الروائي إلى توقع وضع أحسن يكون مخالفا للوضع الأول وعلى كل الأصعدة..." إنها رواية ناجحة في رسم أبعاد شخصياتها إلى حد ما، لغتها سردية حكائية بسيطة في معظمها، أما أزمتها وأمكنتها فمحدودة بدقة ... واللافت للنظر أن ابن هدوقة قد اهتم كثيرا بالوصف: نراه يتتبع دقائق الأشياء، يقدم المكان الذي تجري فيه الأحداث من جميع جوانبه ويصف الشخصيات وألبستها وهواجسها بدقة متناهية. فهو ميال إلى تفصيل الجزئيات بشكل واضح...
2 / نهاية الأمس وبان الصبح :
لئن اكتفت "ريح الجنوب" بالوقوف عند حدود الإدانة والتنبؤ، فإن روايتي " نهاية الأمس " 1975 و " بان الصبح " 1980 قد تجاوزتا هذا الموقف بتحويل الصراع الخفي إلى مواجهة حقيقية ومخيفة بين الشخصيات التي ترمز إلى فئات مختلفة ومتباينة... إنهما روايتان ترسمان بمهارة لوحة بانورامية ذات روافد عديدة لحياة الجزائر الاشتراكية، عارضتين شخصيات مرسومة بدقة، بعيدة عن التجريد الذهني، ومحتفظة بثقلها الواقعي، وبماضيها الممتد في حاضرها.
والحق أن ابن هدوقة، في هاتين الروايتين، عرف كيف يختار شخصياته وكيف يختصر بعض الأحداث التي تثقل على القارئ ، وعرف كيف يتصيد الالتفافات النفسية وكيف يؤلف صورة حية عن المجتمع ويؤرخ لجيل كامل بآماله وآلامه وما تنطوي عليه نفوس الناس من خميرة طيبة تدعو إلى حب الخير والتطور. نجده يستعمل - في أكثر الحالات- أسلوبا بسيطا جميلا متماسكا، يسهم في خلق جو شامل تدب فيه الحياة ويساعد على إلقاء الأضواء الكافية على عناصر الرواية على الرغم من أنه ( أي أسلوب ) لا يخلو من التقريرية والإنشائية.
إن روايات ابن هدوقة الثلاث: " ريح الجنوب "، 3 نهاية الأمس "، و " بان الصبح " - والتي تشكل المرحلة التأسيسية - على الرغم من أنها حققت الإرساء الأساسي للإنشاء الروائي في الجزائر - احتفظت بالمبنى الحكائي التقليدي. صحيح أنها روايات استطاعة أن تبرز بصدق درجت تطور الوعي، ولئن قورنت بالروايات التي سبقتها فإنها تعد أكثر تقدما من الناحية الفنية فيما يتعلق برسم الشخصيات وتوظيف بعض التقنيات مثل الفلاش بيك والمناجاة وتوظيف التراث الشعبي، ولكنها لم تخرج عن إطار الرواية الكلاسيكية التي تعتمد على السرد والوصف إلى حد ما. إنها تذكرنا بروايات نجيب محفوظ الأولى أو روايات عبد الكريم غلاب ( دفنا الماضي والمعلم علي) وغيرهما من الروائيين العرب الواقعيين.
إن أهم ما يميز هذه الروايات الثلاث هو أنها تتشابه تقريبا في الأسلوب لأنها تركز جميعها على الحدث بقناعة.... فهي لا تحمل هموم اين هدوقة فحسب، وإنما تحاول قدر الإمكان تجميع المواقف المتناقضة في فترة زمنية محددة ، الأمر الذي يسمح للروائي بطرح مواقفه الرافضة المتمردة من الداخل فيصبح الآخرون جميعهم عالمه الذي يطرح عليه تساؤلاته وشكوكه وهمومه. فلا عجب إذ نراه يقحم أفكاره في حوار الشخصيات دون مبرر فني مقنع، محولا بعض الصفحات إلى جلسات للحوار الممل الخال من الحركة والحيوية (3) ...
وفي الحقيقة، إن هذه الروايات - وعلى الرغم من أحادية سردها والعيوب التي تتخللها - أظهرت تمكنا فنيا، وتصويرا موفقا لصراع الشخصيات وقيم الغايات النبيلة التي يطمح الروائي غلى تحقيقها ....فهي روايات جادة تتخذ - في حالت كثيرة - من الأمثال الشعبية أداة للتعبير ... شخصياتها - التي لا تقدم دفعة واحدة وإنما تكتمل صورها تدريجيا مع الماضي في القراءة - تتحرك بكل حرية وتجسد القضايا التي تؤمن بها وتدعو إليها ... إنها نماذج تتنوع وتختلف أحوالها النفسية وأوضاعها الاجتماعية وأبعادها الفكرية ...وقد تؤلف في مجموعها وتفاصيلها، في حركاتها وسلوكها وكلامها تاريخ الجزائر الحديث، تاريخها الوجداني والفكري والثقافي على السواء.
إن ابن هدوقة، في هذه المرحلة الأولى، أضاف إلى قائمة النتاج الروائي الجزائري وإلى الواقعية العربية أعمالا جادة مكنته من مواصلة الطريق وتشكيل رؤية جديدة لإعادة صياغة الحياة ... لقد كان طموحا واستطاع أن يخرج الفن الروائي من المضامين المستهلكة، ليطرح بصدق مشاكل الجزائر المستقلة، راسما بمهارة أبعاد شخصياته التي منح لها مساحة كافية في مسار السرد وجعلها تساهم في بلورة الخط الفكري ونسج الحدث العام وجعله كلا مترابطا.
ب / مرحلة النضج :
لئن اتفق النقاد على أن " ريح الجنوب " تمثل البداية الحقيقية للرواية الجزائرية، فإنهم لا يختلفون على أن " الجازية والدراويش " 1983، و" غدا يوم جديد " 1992، تمثلان قمة جديدة غير مسبوقة في تاريخ الرواية الجزائرية المعاصرة. فسواء تناولنا هاتين الروايتين من ناحية المضمون الإنساني المتعدد الأبعاد أو ناقشنا شكليهما الفني فهما تمثلان عملا عملاقا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
وفي الحقيقة إن كل واحدة من هاتين الروايتين تشكل مغامرة متفردة ومستجدة في بنائها وموضوعها. فابن هدوقة يخرج - الآن - تماما عن الشكل الذي كان ينتهجه في رواياته السابقة. إنها نقلة في تجربته الروائية، نقلة من الشكل الكلاسيكي إلى المعمار الجديد، الدخول في مغامرة جديدة تستثمر أهم المنجزات التي حققتها الرواية العالمية في القرن العشرين.
نحن، إذن، أمام روايتين متفردتين تختلفان تماما عن الشكل السردي التسلسلي الذي يعتمد الرجوع البسيط بالذاكرة إلى الوراء لمعاودة السرد الخطي الأحادي، روايتين تشكلان قفزة نوعية لتحقيق الطموح الهادف إلى تحقيق كتابة جديدة في الأدب الروائي الجزائري... فعلى الرغم من التشابه التقني الذي يجمعهما فإن كان واحدة منهما تضيف عناصر جديدة تميزها عن الأخرى، وعلى الرغم من التقاءهما في نقاط كثيرة فإن كل واحدة منهما تشكل نموذجا فنيا رفيع المستوى.
في " الجازية والدراويش " يعود بن هدوقة من جديد للاستثمار الموروث الشعبي وتضمينه بكثافة في البناء الفني (4). نراه يوظف هذا الموروث بطريقة فنية رائعة تجعل النص يفيض بمعان لا تحصى ودلالات لا تحصر، معان ودلالات تتعدد قراءتها وتتنوع، دافعة القارئ إلى التأمل والتفكير والمشاركة في بناء العمل الروائي ...أم في " غدا يوم جديد " فإنه يوظف تقنيات مختلفة تقربه كثيرا غلى الروائيين الأمريكيين المعاصرين ( فوكنير ن دوس باسوس ...) الذين يميلون إلى كتابة الرواية المتعددة الأصوات التي تستلهم فنونا مختلفة مثل الرسم والموسيقى ... وفي الروايتين، المتسمتين بالسحرية والغرائبية والمنفتحتين أمام قطاعات بشرية عديدة، اختزال لذلك السرد المطول الذي ساد في المرحلة الأولى، واجتناب لذاك التدخل الفاضح، وإنما السماح للقارئ باستقبال الحدث الذي تعبر عنه الشخصيات بكل حرية ... لأنهما روايتان تعلنان بوضوح عن شعريتهما بما تحملانه من إيقاع متميز وما تتضمنانه من طاقات إيحائية.
والحق أن بن هدوقة، في هذين العملين، يهتم كثيرا بمسألة الشكل والبناء ومسرحة الحدث مع إبراز العوالم الداخلية للأبطال والاعتماد على الوصف الفني الرفيع وغير ذلك من التقنيات الروائية الجديدة التي تسهم بشكل فعال في تقريب النص إلى ذهنية المتلقي وتفتح له المجال واسعا لطرح الأسئلة والاستفسارات. ولعل أهم ما يميزه، في هاتين الروايتين هو قدرته ربط اللوحات المختلفة ربطا محكما وعبر سياق روائي حافل يتميز بالانسياب والحيوية. نراه، في أكثر الحالات يحلل بعمق هواجس شخصياته وأحلامها، وهو في الوقت ذاته يستبعد عنها مسافة كافية، جامعا بين السرد اللبق ذي الجمل الرشيقة وبين التداعي والحلم والاسترجاع.
واللافت للنظر أن القسم الأكبر من الزمن السردي، في الروايتين، ينبثق من الذاكرة التي تتحول إلى أداة فعلية لاسترجاع الماضي. فالروائي يتنقل بسهولة بين الحاضر والمتشعب والماضي ذي الأبعاد المتعددة، بين الواقع الحالي والواقع الآخر المنبعث من الذاكرة الثرية. فالذاكرة، ولا سيما في " غدا يوم جديد "، هي الأداة العضوية الحيوية التي تحرك الماضي ( التاريخ ). فهذا الماضي يمتزج بالحاضر ويؤطره، ينبعث منه ويعود إليه، يتموج في خبايا السرد ليعبر عن الهموم والمحن. وهكذا يتعانق البعدان ( الماضي والحاضر ) في تحالف زمن ي فني ك التاريخ -هنا- لا يسير في خط مستقيم لكنه يدور ويتفاعل مع مع الحاضر المتحرك. في " الجازية والدراويش " يقترح الروائي زمنين: زمن ماض فردي وزمن عاد حاضر ... والرواية تقدم نفسها بوصفها حكاية ذات مستويين سرديين: مستوى الراوي الداخلي ( الطيب ) ومستوى الراوي الخارجي ( هو ). وهذا يعني أن الرواية هي عمل ذو صوتين يتداولهما ضمير المتكلم وضمير الغائب، سرد لحركتين متداخلتين: الحركة الأولى مصدرها الحاضر والحركة الثانية آتية من الماضي المتخيل (5) أما في " غدا يوم جديد " فيعود الروائي من جديد إلى الموازنة بين الماضي والحاضر، إذ نلاحظ الأحداث تتراوح ما بين الاحتفالات الفرنسية عام 1930 بالذكرى المئوية على مرور احتلال الجزائر وبين الويلات التي أفرزتها أحداث أكتوبر 1988. وما يثير الانتباه في هذا العمل أن شخصية " مسعودة " تحتل المركز وتبعث على القص (6). فهي تقوم أولا بالإخبار والإعلان عما جرى لها من أحداث في الماضي، وتطلب من شخصية ثانية القيام بتسجيل هذه الأحداث، وبعبارة أخرى، تسرد في جلسات ما وقع لها في الماضي، من مغامرات ومحن تتضمن كل واحدة منها معنى مستقلا. وهذه المغامرات والأحداث، سواء الحديثة ( المتعلق بأحداث أكتوبر ) أو القديمة ( المرتبطة بالاحتفالات الفرنسية ) تقدم في شكل اعترافات لمسعودة، اعترافات تشكل كل واحد منها قصة رائعة... ولا شك أن هذا الأسلوب الذي يعتمد على تقطيع الأحداث يسمح بتقديم الشخصيات على امتداد عدة مقاطع، متباعدة من حيث الموقع والزمن. تصف مسعودة للكاتب سيرتها الأسلوب الذي يدون به قصة حياتها فتقول: " ما أريده هو أن يكون كل فصل من حياتي يشكل قصة مستقلة، أو مكملة لغيرها، يمكن أن يقرأ أي فصل بذاته ، إذا مزق الكتاب، وبقيت منه ورقات، يمكن أن تتضمن قصة " 142.ولا يمزح ابن هدوقة في الروايتين بين الماضي والحاضر فحسب، وإنما يمزج أيضا بين الضمائر (7) ولا سيما بين ضميري المتكلم والغائب الذين يعكسان بعد زمن القص عن وقوع الأحداث الروائية. ومن الواضح أن هذه التقنية في توزيع الضمائر قد ساهمت في تعميق النظر إلى الأحداث والمواقف والشخصيات نظرة مستوعبة وشاملة لكل التناقضات البشرية... إنه تقنية لا تسمح بتمييز الشخصيات بعضها عن بعض فحسب، بل هي أيضا " الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الروائي للتمييز بين مستويات الوعي واللاوعي عند هذه الشخصيات وتعيين أوضاعهم بين الآخرين وبيننا نحن ".(8) وخلاصة القول، أن ابن هدوقة، في هاتين الروايتين، قد وظف أبرز الأدوات الروائية الجديدة، التقطيع المكاني والزماني، صنع اللقطة، تفتيت الحدث، الحلم والأسطورة، تعدد الزوايا التي ينظر منها إلى الأحداث وتغيير الإيقاع من شخصية إلى أخرى، الوصف الفني الذي يساعد على إلقاء الأضواء على الشخصيات والأمكنة، الصور الموحية المتميزة بالحيوية والطرافة، الرموز التي تساهم في فهم الأحداث، اللغة المتنوعة التي تنبض بحرارة الشعر، إلى غير ذلك من الأساليب التي استغلها لخلق شخصيات تنبض بالحياة ومواقف درامية ذات أبعاد عميقة تضيف خصوبة وثراء لنصوصه المتميزة بالتكثيف التعبيري والرمز الموحي.
الخاتمة :
لقد حمل ابن هدوقة إلى الرواية الجزائرية أشكالها الجديدة وتميزها . فهو لم يستغل تقنيات السرد المختلفة فحسب وإنما جهد لإنجاز المعادلة الصعبة: الربط بين الفن الروائي الجديد ومستجدات الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية في الجزائر... لقد استعان بكل الأدوات التي أتاحها له امتيازه لينتهي إلى صياغة أعمال أصيلة ذات نسيج تتظافر على حبكته خيوط وألوان مختلفة، أعمال رائعة تدل على أصالة في الفكر وعمق في الثقافة ورفاهة في الحاسة الفنية للتصوير وحنكة في المعالجة وروعة في الخيال. لقد استطاع هذا الروائي أن يفلت من قبضة السرد الكلاسيكي العاتية ليستقر، في نهاية المطاف، على شكل فني منفرد وممتاز له خصوصيته الجزائرية، جاعلا من أعماله تاريخا من نوع خاص يسجل ما لم تذكره سطور المؤرخين أو مقالات الصحفيين. إنه شكل يمزج بين الواقع والفن، كتابة جديدة لا تحدها الأشكال الجاهزة بل تفتح نفسها على المتلقي وتدعوه إلى المشاركة في بناء النص الروائي.
لقد اكتملت رؤيته الإنسانية في وحدة متشابكة متكاملة وتعددت وسائل تعبيره عن هموم الجزائر الجديدة: الوصف الفني، والتحليل الدقيق، والتعليل الذي لا يقف بالقارئ عند حدود التسجيل، وإنما يغوص داخل النفس وفي أعماق المجتمع ويرف في سماوات التراث والأساطير والحكمة، واللغة والمتنوعة التي ترتدي الأقنعة الرمزية الشفافة، وتتدفق في رحلة ملحمية أو مغامرة اجتماعية مثيرة.
الهوامش :
(1) إن تقسيم مساره الروائي إلى مرحلتين تتميز كل واحدة منهما بملامح معينة ليس هدفا في حد ذاته بقدر ما هو عملية منهجية تساعدنا على فهم تطور فنه . من الملاحظ أن التقنيات التي وظفها ابن هدوقة في رواياته الأولى قد طورها كثيرا في مرحلته الثانية.
(2) إن هذه الرواية التي تدور أحداثها في قرية تصور وضعية الطبقة البورجوازية التي عاشت الثورة المسلحة بدون أن تمانج فيها، راسمة بدقة الصراع بين هذه الطبقة وعناصر المجتمع الأخرى.
(3) يرى بعض النقاد أن ابن هدوقة، في مجال روايته الأولى - يسعى لخلق فرص للحوار، وهو كثيرا ما يطيل في ذلك محاولا مناقشة قضايا مختلفة ( عن طريق شخصياته )، الأمر الذي يثقل الحدث الروائي ويخلخله.
(4)يبدو أن ابن هدوقة حاول أن يخلق شكلا روائيا يستمد عناصره من الموروث الشعبي بقد ما يتجذر في الواقع نفسه. فبعد أن وظف التراث الشعبي في " ريح الجنوب " بطريق حية يعود في " الجازية والدراويش " ليغوص في مجال الأسطوري واللامرئي، ناقلا الوقائع من إحالة حرفية إلى إحالة تتصل أدبيتها بالخارق والعجائي الأسطوري.
(5) من الملاحظ أن الروائي ينظر إلى الزمن نظرة خاصة. فهو يعانق الزمن عناقا حارا بل يرتمي في أحضانه بإحساس فيه كثير من الخوف على الحاضر وحتى على المستقبل. فليس غريبا، إذن أن يعبر أبطاله عن ميلهم إلى الزمن الماضي أمام حاضر يتسم بالمرارة والخيبة.
(6) لقد بذل الروائي جهدا كبيرا في الاعتناء بهذه الشخصية والأثر الذي تركته في الروائي. فهي تحمل كل الملامح الإنسانية التي تؤثر وتتأثر وتغير وتتغير.
(7) في " غدا يوم جديد " مثلا، النص لا يبدأ بذكر مسعودة، بل يواجه المتلقي بمجموعة من الصور عن امرأة يشار إليها بتاء التأنيث أولا، ثم بضمير الغائب ثانيا، وبعدها تظهر بضمير المتكلم إلى أن يرد اسمها على لسان السارد في مستوى لاحق في النص.
(8) ميشيل بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجة فريد أنطنيوس، بيروت، دار عويدات، 105.