" بان الصبح" لعبد الحميد بن هدوقة صراع الأجيال " الآباء والأبناء"

بقلم الدكتور مصطفى فاسي
ترتكز رواية " بان الصبح" على محورين رئيسيين هما: صراع الأجيال، الذي يتجلى في الفارق الواضح في نمط التفكير وطبيعة الشخصية بين كل من الشيخ علاوة الأب والشخصية الأساسية في أسرته التي تعتبر الركيزة الأساسية لهذه الرواية، وبعض أبنائه وبناته وغيرهم.
هذا هو المحور الأول، أما المحور الثاني، فإنه يتعلق بطرح موضوع المرأة، بشكل أكثر حدة مما طرحه بن هدوقة في رواياته السابقة. ونشير في البداية إلى أن البيئة التي اختارها الكاتب لروايته هي بيئة المدينة. وهي بيئة العاصمة بالذات، والكاتب كثيرا ما يحدد في هذه البيئة أماكن معينة مثل الجامعة، وشارع محمد الخامس، والمرادية إلخ... وهو يصف أحيانا بعض الأماكن بكل دقة حتى يقرب هذه البيئة من القارئ: " وكانتا قد وصلتا إلى نهاية نهج شاراس المتصل في أسفله بشارع العقيد عميروش، فرجعتا معه في اتجاه موقف التافورة الذي يقع في أصفل البريد المركزي إلى جانب حديقة صوفيا" ( بان الصبح ص 90).
مثل هذا الوصف نعثر عليه في مواضع أخرى من الرواية، ولذلك نشعر في كثير من الأحيان أن الكاتب يتحدث عن حياتنا اليومية العادية، فالبيئة هي العاصمة بهمومها المختلفة ومشاكلها، ومن بين ذلك مثلا، مشكل المواصلات، والسرقة في الحافلات، والخصومات، وفوضى الأطفال المهملين في الساحات والشوارع إلخ...
ثم إن الموضوعين الرئيسيين اللذين ترتكز عليهما الرواية قريبان منا بل هما من صميم حياتنا، فصراع الأجيال موضوع دائم، وهام في كل الأوقات، إلاّ أن الكاتب لم يكتف بمعالجة هذا الموضوع لحيويته الدائمة وأهميته المستمرة، ولكنه اختار أن يعالجه من خلال حدث هام هو مناقشة الميثاق الوطني سنة 1976. فهذا الميثاق الذي طرح كل الأفكار، وكل المواضيع، وكل المبادئ، وكل القضايا للمناقشة، كان فرصة ممتازة ورائعة لكي تبرز الآراء والأفكار المختلفة والمتناقضة والمتباينة.
ومع ذلك وعلى الرغم من أن جانبا هاما من الصراع، صراع الأجيال، وصراع الأفكار، قد برز من خلال مناقشة الميثاق الوطني، فإن هذه المناقشة لم تمثل – في الواقع- سوى جانبا من هذا الصراع، الذي يصح زيادة في التوضيح أن نسميه الصراع النظري، بينما يتمثل الجانب الآخر من الصراع في صراع الآباء والأبناء، وهو الجانب العملي في الرواية.
ينطلق بن هدوقة في طرح الصراع النظري من خلال وجهات النظر المختلفة، من موقع التأييد الكامل لهذه المناقشة، والمعجب بها، " ولعل أهم ما أدهش نعيمة، وأدهش كل ملاحظ هو هذه الحرية في التعبير لتي أعطت فجأة صورة أخرى لجزائر ظنها الكثير ماتت..."
والشيء الذي تأكدت منه نعيمة، وتأكد منه كل جزائري بهذه المناسبة هو أن الأنظمة التي تخشى أو تحارب حرية التعبير هي أنظمة ديكتاتورية، لا خير فيها لأي وطني، لأن حرية التعبير لم تكن في يوم من الأيام شرا على وطني " ( بان الصبح، ص 122)
والكاتب يقدم وجهات النظر المختلفة، لمختلف الطبقات، والفئات التي شاركت جميعها في مناقشة الميثاق، ومواضيعه المتنوعة، كموضوع اللغة، والاشتراكية، والأغنياء الجدد إلخ...
تقول " دلاكة" الحمام مثلا: " باية السمينة، امرأة القهواجي، امرأة عمك...أتظنين أشفق عليهن؟ لا لن أشفق على أحد، هذا يوم الفقراء أمثالنا" ( بان الصبح، ص 127)
وبن هدوقة في روايته هذه كثيرا ما يعمل على خلق فرص للحوار، والمناقشة، وهو كثيرا ما يطيل في ذلك محاولا أن يطرح ويناقش – عن طريق بعض الشخوص- مختلف المواضيع والقضايا التي تشغله، مما يجعل حدث الرواية في بعض الأحيان يثقل كثيرا، وخاصة عندما تكون هذه المواضيع المطروحة للمناقشة مواضيع فكرية لا تتناسب مع ما يتطلبه الفن الروائي، والأمثلة على ذلك نعثر عليها في أكثر من موضع في الرواية، ومن بينها – مثلا- ذلك الحوار الطويل الذي يجريه الكاتب على لسان دليلة ونصيرة، في بيت هذه الأخيرة، والذي يستغرق الفصل الثامن كله، أي أكثر من عشرين صفحة، والذي تناقش فيه مواضيع مختلفة من بينها، الطبقية، وحرية المرأة، والجنس، والثورة، واليمين واليسار إلخ...
كل هذا في الصباح عند قيام دليلة ونصيرة من نومهما، وحتى قبل شرب القهوة.
وكأن الكاتب نفسه أحس بخطأه، أو مبالغته في ذلك عندما جعل دليلة تقول: " قبل السابعة نتكلم عن اليمين واليسارظ كما لو أن حياتنا معلقة بهما" ( بان الصبح، ص 185).
فبعض فصول الرواية تتحول أحيانا إلى جلسات للحوار، خالية من أية حركة، أو حيوية.
مما لاشك فيه أن هنالك فرقا واضحا في خفة الحدث الروائي أو نقله بين فصول الرواية وصفحاتها المخصصة لمناقشة الأفكار النظرية، وبين تلك الفصول والصفحات التي يخصصها الكاتب لتصوير شخوصه في حياتهم، وفي صراع بعضهم مع بعض، وخاصة – منهم – أفراد عائلة الشيخ علاوة.
نريد منذ البداية، وقبل الدخول في الحديث المفصل عن الشخوص، أن نقرر أمرا، وهو أن بن هدوقة وفق كل التوفيق في اختياره لتركيبة الأسرة التي يمثل أفرادها أحداث الرواية، وإن كان – في الواقع – وفي اختياره هذا لم يخرج عن طريقة بعض كبار كتاب الرواية العربية مثل نجيب محفوظ، وخاصة في ثلاثيته، أو بعض الكتاب العالميين الكبار من أمثال الروسي المعروف دستويفسكي، وخاصة في روايته الشهيرة " الإخوة كرامازوف" إلخ...
وذلك في اختيار أسرة – لعله يجوز لنا أن نسميها اشكالية أي أسرة يمثل أفرادها جميع التناقضات، مما يجعلهم مؤهلين – عن جدارة – للقيام بدورهم كاملا في تمثيل جميع الاتجاهات والتناقضات، وهو ما يسمح للكاتب، ويتيح له أن يقيم روايته على الصراع الذي يمنح الحدث الروائي حيويته المطلوبة.
ولاشك أن هذا التناقض بين أفراد أسرة الشيخ علاوة هو ما كان يفكر فيه أحد أفرادها وهو رضا ابن الشيخ علاوة عندما كانت الأسرة مجتمعة كعادتها، يناقش أفرادها أحد المواضيع كل من وجهة نظره، ففكر رضا أن ما يجري أمامه هي " كوميديا لأسرة لا تعرف أين تقع بالنسبة للطبقات الاجتماعية الموجودة أو التي هي في طريق التكوين" ( بان الصبح ص 159).
هي أسرة ريفية، طارئة على العاصمة، وهذا الاختيار نفسه مقصود، فإذا كان الأبناء قد ولدوا أو على الأقل تربوا في العاصمة، فإن الشيخ علاوة وزوجته ريفيان يحاولان أن يتمدنا، ولكن بطريقتهما الخاصة التي تختلف – بدون شك – عن طريقة الأولاد.
تتألف أسرة الشيخ علاوة خاصة منه ومن زوجته، وأبنائه: عمر، ومراد، ورضا، وبناته زبيدة وهالة بالإضافة إلى منى زوجة عمر وأبنائهما، كما يمكن أن نضيف نعيمة الطالبة ابنة أخ الشيخ علاوة، وهو صالح المجاهد سابقا والمقيم في الريف، ومع أهمية جميع هؤلاء، الشخوص، وغيرهم، ومع تفاوت هذه الأهمية – بطبيعة الحال بين شخص وآخر، فإن أهم شخصيتين تستوليان على الأحداث – بدون شك – هما الشيخ علاوة، وابنته دليلة.
تتمثل أهمية الشيخ علاوة في كونه يمثل جيلا كاملا متميزا بعقليته الخاصة وبنمط تفكيره وحياته التقليديين، وهو لذلك يقف في زاوية محددة في مواجهة أبنائه، وجيل كامل من الشباب الحامل لأفكار جديدة، وطرق جديدة في الحياة لا يقرها هو أو يؤمن بها.
بينما تمثل دليلة المرأة الجزائرية، أو بالأحرى فئة من النساء الجزائريات اللواتي تمكن من التعليم الجامعي، والمؤمنات بالحرية إلى أبعد الحدود، وهي لذلك تذهب ضحية هذه الحرية بالذات.
***
الرواية لا تقدم صورة شخصية الشيخ علاوة دفعة واحدة، ولكن هذه الصورة تبدأ في النشوء منذ بداية الرواية، وتزداد وضوحا كلما مضينا في القراءة، ولعلها لا تكتمل إلاّ مع نهايتها، والشيخ علاوة يقدم أحيانا، وفي بعض جوانب شخصيته مباشرة من خلال السرد، بينما يضيء جوانب أخرى من هذه الشخصية تلك الأراء، والتعاليق التي تصدر من حين لآخر عن أفراد أسرته، يقول الشيخ علاوة عن نفسه: " أبوتي ليست سلطة روحية، إنها سلطة مادية أيضا... من عصاني أخرجته من بيتي" ( بان الصبح، ص 46)، وتقول عنه ابنته دليلة : " أبي لا يتحدث معه أحد، أليس هو الشيخ علاوة؟ " ( بان الصبح، ص 67).
بينما تصفه زبيدة بأنه " إقطاعي بفكره ولو لم يكن من الملاك" ( بان الصبح، ص 67).
وتقول عنه دليلة في موضع آخر بأنه " رجل أضاع زمانه وبقي بلا زمان.. كلما رأى شخصا وأعجبه حاول تقليده، أو التقرب إليه" ( بان الصبح، ص 110)
تجتمع في الشيخ علاوة كل الصفات التي تجعل منه رجلا محافظا، فهو محافظ في أفكاره عندما يتناقش، مع العلم أنه من تلاميذ ابن باديس، محافظ في تصرفاته وحركاته، فهو مثلا رأى شابا يلتصق بفتاة في الحافلة بدأ يسعل ويكرر سعاله لعله يلفت انتباه الفتاة، عوض أن يتحدث إليها مباشرة، وهو " لا يحكم على الأشياء بالعقل، ولكن بالشرع" ( بان الصبح، ص 20).
وهو مصطلح دائما وباستمرار، كلما رأى منكرا تدخل لكي يصلحه، أو على الأقل استنكر وجوده إن لم يستطع إصلاحه. ميثاقه الأول والأخير هو الإسلام : " قالوا لنا الإسلام متأخر، لا يحل مشاكل العصر! ها هو الميثاق بدل الإسلام" ( بان الصبح، ص 22).
الشيخ علاوة إذن محافظ في فكره، فهو صاحب ثقافة سلفية لا تخرج عن إطار القرآن والحديث والنحو إلخ... وهو من تلاميذ ابن باديس المخلصين له كل الإخلاص، والمعجب بدستوره: شعب الجزائر مسلم، وإلى العروبة ينتسب.
وهو محافظ في طريقة حياته بصفة عامة فأثاث بيته، وصوره وتحفه كلها تدل على ثقافته وطبيعة شخصيته، وهو لا يخرج من غرفة نومه إلى الصالون الذي يجتمع فيه عادة مع أفراد الأسرة إلاّ بلباسه التقليدي السمي.
لذلك كله يصعب عليه فهم هذه الأمور الجديدة التي تحدث أمام عينه، وتتجدد كل يوم، فالاشتراكية – مثلا- هذا المفهوم الجديد عليه الذي لم يرد في ثقافته كلها التي عرفها، هذه الاشتراكية يصعب عليه فهمها، فما بالك الإيمان بها، وهي لذلك – دائما- أمر سيء في نفسه، وهو لا يبذل أي مجهود لفهمها، أو التعرف على مضمونها، ولكنه ينطق بهذه اللفظة على أنها أمر قبيح: " هؤلاء ليسوا عمالا، ليسوا آباء وأبناء، ولا حتى بشرا، هم ملاحدة، أوباش، نشالون، هم اشتراكيون، يشتركون في كل شيء، حتى في حلائلهم" ( بان الصبح، ص 30). فعداوته للاشتراكية متأصلة فيه، ولا مجال لمناقشة هذا الموضوع مع أي كان، مادام الاشتراكيون يقفون في صف واحد مع الملاحدة، والأوباش، والنشالين ومن شابهم.
أليست هذه الاشتراكية هي التي قلبت تماما صورة هذا الاستقلال الذي كان الشيخ علاوة يفكر أنه يجب أن يكون بشكل آخر تماما. " لماذا كافحنا إذن؟ لماذا تعذبنا؟ ألنصير اشتراكيين؟ الاستعمار على الأقل كان يحترم نفسه ودينه، وهؤلاء ماذا يحترمون؟ أي شيء هم؟ من أي جنس؟ بل من أين خرجوا هكذا فجأة باشتراكيتهم وميثاقهم؟ يا إلهي !" ( بان الصبح، ص 31).
ومثلا سيتضح معنا – فيما بعد- بأن صورة الشيخ علاوة الأبوية شبه الاقطاعية ستتزعزع أمام إبنائه وبناته، وسيفقد تلك الزعامة التاريخية الموروثة عن أبائه وأجداده، فكذلك يصدم الشيخ علاوة في ثقافته التي ظل طول حياته يعتز بها، والتي بها وحده ظل يحتفظ بمكانته وقيمته وأهميته؛ فعندما يستشهد الشيخ علاوة أثناء مناقشته إحدى فقرات الميثاق بالآية: ﴿ الأرض لله يرثها من يشاء من عباده﴾ مدافعا عن الملكية الخاصة يرد أحد الشبان بأن الأرض موضوع الحديث يملكها أشخاص استولوا عليها بغير حق "وهم يستغلون الشعب بها" ( بان الصبح، ص34).
ثقافته هذه إذن أصبحت لا تدافع عنه، وعن مواقفه أمام هذا الجيل الجديد، وهو على كل حال يقف ضد كل جديد غير مألوف، ضد الثورة الزراعية التي ستمس طبقته بشكل واضح، رغم أننا لا نعرف ماذا كان يملك أرضا أم لا، فذلك مذكور في ثنايا الرواية، ويقف ضد العلاج المجاني الذي سيؤدي – في رأيه- بالطب إلى الفشل النهائي، مع العلم أن هذا الموضوع يهمه مباشرة، فأحد أبنائه، وهو طبيب جراح تخرج من فرنسا.
وتتضح صورة الصراع أكثر في ذلك اللقاء الذي يتم مصادفة بين رضا أصغر أبناء الشيخ علاوة الحامل لليسانس الأدب، والذي يحضر رسالة دبلوم الدراسات المعمقة، والذي يقف مع أبيه على طرفي نقيض، إذ أنه من بين الذين يتزعمون التطوع في الجامعة، ذلك اللقاء الذي يتم مصادفة بينه وبين أحد أساتذته السابقين.
فعندما كان رضا ذاهبا إلى أحد اجتماعات الميثاق في مدرسة الحي اعترض طريقه هذا الأستاذ، وبدأ ينصحه بطريق غير مباشر بالوقوف مع الجانب المحافظ، محاولا العمل على استمالته بصفته الأب الروحي له، إلاّ أن رضا يتركه ويدخل بكل برود إلى الاجتماع مع نعيمة ابنة عمه التي يقول لها – معلقا- بعد قليل : " هذا النوع من الناس مثل ( جبرالنا) كما تسميه دليلة يعيشون في عصر لا يعرفونه، ويدافعون عن عصور لا يعرفونها " ( بان الصبح، ص 124)، وعندما تقول له نعيمة بعد قليل : " ألا تظن بأنهم يدافعون عن مصالحهم ليس إلاّ" ( بان الصبح، ص 125)، يرد رضا " هل ما قلته يناقض هذا؟ إنهم يوهمون الشعب أن ماضي العرب لم يكن إلاّ عدلا، وأخوة وسلاما، وأنهم لا يردون سوى إحياء تلك القيم والأمجاد" ( بان الصبح، ص 125).
وهو يتساءل بعد قليل محتارا : " أين كنت؟ لماذا لم أشعر بهذا الإنقلاب المريع في حياتنا، قبل اليوم؟ ماذا فتح عيني بهذه الصورة الفجائية؟ أهم أولئك الشبان الخبثاء الملاحدة في الاجتماع؟" (بان الصبح، ص 131).
ونحن نجد شبها واضحا بين كل من الشيخ علاوة بطل " بان الصبح" والشيخ بوالأرواح، بطل الزلزال، فهما معا شبه اقطاعيين، مع أن أحدهما " بوالأرواح" يملك الأرض، والآخر " الشيخ علاوة" لا يملك، وهما معا ينتميان إلى طبقة تتضرر إذا طبقت الاشتراكية، " بو الأرواح" ستؤمم أرضه، والشيخ علاوة سيتضرر بسبب أن الاشتراكية تقف ضد طموحاته في الانتماء إلى الطبقة العليا والانتساب إليها، مع العلم أن أحد أبنائه وهو الجراح مراد، متضرر مباشرة بسبب العلاج المجاني.
وهما معا ينتميان إلى جيل محافظ، بسبب الثقافة السلفية، والعقلية السلفية، مع العلم أنهما من تلاميذ الشيخ ابن باديس، مع بعض الاختلاف في الإيمان بأفكار استاذهم، فأحدهما الشيخ علاوة يؤمن بها جملة وتفصيلا، وثانيهما – وهو عبد المجيد بوالارواح- يؤمن بها، ولكن لحاجة في نفس يعقوب، فهو يختلف معه في بعض التفاصيل التي لا تخدم مصلحته، وهما معا، وبسبب ثقافتهما السلفية بالذات، أي غفلتهما يجدان نفسهما، وقد تجاوزهما الزمن، فبوالارواح يحاول استباق الزمن، وتوزيع أراضيه على أقاربه تطبيق الثورة الزراعية، ولكن هيهات، أن يتم له ذلك فقد سبقه الزمن، والشيخ علاوة يجد نفسه فجأة – مع مناقشة الميثاق الوطني – غريبا عن كل شيء، عن الثقافة التي كان يظن نفسه صاحبهما، وعن الناس، والمدينة التي عاش فيها زمنا طويلا.
وهنالك أيضا بعض الشبه بينهما، فيما يتعلق بعلاقة كل واحد منهما بأقاربه وأفراد أسؤته، وإن كان الأمر الذي نعنيه هنا، يتعلق بأقارب بوالارواح من أبناء عمومته وأصهاره، وذوي الشيخ علاوة من أبنائه وبناته أي أفراد أسرته بالذات، والشبه بين الشيخين يتمثل في غفلة كل منهما عن التطورات التي حدثت لدى هؤلاء الأقارب وأفراد الأسرة، مع الفارق أن بوالارواح يتعرف على هذه التطورات ويفاجأ بها لدى أقاربه بعد غيابه مدة طويلة عنهم، بينما يظل الشيخ علاوة في غفلة عما يحدث من تطورات وأمور جديدة لدى أبنائه وبناته، وهو لا يبدأ الشعور بها والتعرف عليها إلاّ أخيرا وبعد أن استفحل أمرها، فهو – مثلا- وعن طريق المصادفة فقط، يفتح بعض رسائل أبنائه وبناته ليطلع فيها على أمور هامة وخطيرة، فهذا ابنه مراد الطبيب الجراح الهادئ يقيم علاقة مع إمرة فرنسية، لابد أنه تعرف عليها عندما كان يدرس في بلادها، وهي تبعث له بهذه الرسالة لتستشيره في أمر الزواج منها، وهذا ابنه الكبير الذي يعتز به الشيخ علاوة بصفته نائبه وممثله الشرعي، والذي – وهو مدير لأحد البنوك – يدعي دائما أن لا مال له، يجد في رسالة قادمة له من أحد البنوك أن الرسالة تعلن عن أنه يملك رصيدا في هذا البنك يبلغ مليونا وخمسمائة ألف دينار.
وهذه ابنته دليلة – وإن كانت الرسالة القادمة اليها كتبت قصد التمويه باسم ابنة أخيه نعيمة – تنغمس في علاقة جنسية مع أحد أصدقائه الى درجة الحمل منه.
أين الاخلاق إذن؟ أين التربية؟ أين المبادئ التي تربى عليها الشيخ علاوة، والتي ظل حتى الآن يظن أنه يربي عليها أبناءه؟ لقد اتضح للشيخ علاوة انه كان حتى الان يعيش في أكذوبة كبيرة.
وبالإضافة الى أن الشيخ علاوة لا يعرف ما الذي يجري حوله، ولا التطورات التي تحدث سواء في الواقع، وفي المجتمع، أم في أفراد أسرته بالذات، بالإضافة الى هذا كله، فانه يحمل في نفسه وفي ذاته كثيرا من التناقضات، ولكن دون ان يشعر بها أيضا، فهذا رضا ابنه يقول عنه انه "مجموعة من قطع الغيار.. يريد أن يكون من عداد الاغنياء..ومع المثقفين، ومع الزعماء، ومع الحكام، يناصر الحق، ويناصر الجلادين، أب طيب وفظ..يريد ان يكون كل ذلك وهو ليس شيئا من ذلك، يعتقد أنه أذكى الناس وهو أبلههم" (بان الصبح ص 276).
وتقول عنه هالة ابنته الصغرى: "إن أبي ليس جبريلا ولا حتى جنديا، هو يعرف أنه لا يقدر علينا ولذلك يفتعل القوة والغضب والتعالي" (بان الصبح ص 278).
ويعود رضا ليحكم على أبيه بأنه "لا يفكر بعقله، وإنما بمحفوظاته" (بان الصبح ص 279).
بينما تحكم دليلة على شخصية أبيها بأنها "ليست بكل هذا التعقيد، انه جل يجري باستمرار للحاق بالقطار، ولكنه في كل مرة يصل الى المحطة يجد القطار قد أقلع" (بان الصبح ص 279، وكما مر بنا سابقا فإن الشيخ علاوة ليس اقطاعيا، ولا حتى غنيا، ولكنه يملك تلك الثقافة السلفية، والعقلية المحافظة التي تؤهله للاندماج في الطبقة البرجوازية الكبيرة على الأقل من جانب الانتماء الذهني، والاتفاق مع هذه الطبقة في التفكير، ولذلك فلا غرابة أن نجد الشيخ علاوة يحمل في نفسه – هو وزوجته التي لا تزيد على أن تكون صورة مشوهة منه- كثيرا من الطموح والتطلعات للاندماج في هذه الطبقة، وهو لذلك يحاول هذا التقرب بكل الطرق، والوسائل، و"يسعى إلى أن يربط صلاته بكل ما استطاع بمن يسميهم علية القوم، من أثرياء المدينة، وبرجوازييها، سواء بالمعاملة أو المصاهرة، أو أي نوع من أنواع التحالف، ليمحو إلى الأبد مركب رجل القرية الذي لا نباهة له ولا شأن" (بان الصبح، ص46).
وهو لذلك لا يتورع عن المتاجرة حتى بابنته، التي صارت عانسا، والتي " إن خطبها مثقف فضل لها الغني، وإن خطبها غني تمنى لها يجمع المال والثراء، وإن تقدم هذا ود لها من له حسب ونسب.." (بان الصبح، ص59).
والكاتب بعد هذا يقدمه بأنه معجب شديد الاعجاب بهذه الطبقة التي تعتبر مثاله الأعلى، والممثل لهذه الطبقة والذي يثير اعجاب الشيخ علاوة، فيتخذه المثل الأعلى للمكانة، والأهمية، والأخلاق ، وما شابه ذلك من الصفات الحميدة هو ابن عبد الجليل أحد أغنياء العاصمة.
قال الشيخ علاوة عن ابن عبد الجليل: "سي عبد الكبير هذا رجل معروف في كل الأوساط، لا لثرائه فقط، بل لقيمته وكريم محتده، وله ابن مهذب رقيق الشمائل، وبنات أصيلات مثقفات، فأضافت الأم تؤيد زوجها: وهيبة أجمل فتاة في الجزائر بلا مبالغة" ( بان الصبح، ص164).
وهذا حوار آخر بين الشيخ علاوة وزوجته عبر عن هذا الاعجاب الشديد: "إنها دار ابن عبد الجليل، ليست دار أحد من الناس!
هل تريدين أن يدعو خاصته من أعيان البلد مع أي كان؟
هل أقبل أنا أن أحضر أي حفل ومع أي مدعو؟
- سألتك لأن العادة ليست هكذا.
- من أين تعرفين أنت العوائد؟ إنها أسرة من الأسر التي تسطر للناس عوائدهم"( بان الصبح، ص 211-212).
ومثلما أن الكاتب بني روايته على عنصر التناقض فيما يتعلق بالعلاقة بين الشيخ علاوة وأبنائه، فإنه لجأ إلى هذا العنصر نفسه في تقديم صورة كل من السيد ابن عبد الجليل وابنه كريمو، ولابد أن الكاتب كان يقصد إلى السخرية، سخرية المصادفة، وسخرية القدر عندما جعل "الشيخ علاوة يثني على ابن عبد الجليل وابنه كما لو أنهما مثال الأخلاق المستقيمة" ( بان الصبح، ص213).
فإذا كنا لا نعلم عن السيد ابن عبد الجليل سوى كونه من كبار أغنياء العاصمة، كما نعرف عنه بعض المظاهر التي تدل على أنه يعيش في عالم آخر غير عالم مناقشة الميثاق الوطني أو ما شابه ذلك، ونعرف عنه أيضا مظاهر الغنى الفاحش الذي يعيش فيه مع أفراد أسرته، وإقامته للحفلات والسهرات الضخمة التي تكلف كثيرا، والتي يجمع فيها بين المتناقضات بحيث يدعو إليها علية القوم من أصدقائه المقربين، كما يدعو إليها بعض معارفه من العلماء ورجال الدين والمثقفين مثل الشيخ علاوة، هذه السهرات التي تجمع الجميع في جانب من حديقة البيت للتمتع بالاستماع للطرب الأندلسي الأصيل، بينما في جانب آخر منه وهنالك تحت احدى الأشجار، يقام بار صغير خاص بمن يريد أن يتسرب من هؤلاء المدعوين لتناول كأس لذيذ، ثم العودة إلى هذه الجلسة المحترمة دون خدش إحساس من لا يشربون، بينما يقيم في أوقات أخرى سهرات الجاز الصاخبة الخاصة بالشباب.
إذا كنا لا نعلم عن السيد ابن عبد الجليل سوى هذا، أو ما شابهه من مظاهر الرفاهية والأبهة، أي دون أن نعرف شيئا عما يتعلق بخصوصية شخصيته بالذات، فإننا نعرف عن ابنه "كريمو" الكثير.
فقد شاء الكاتب- وعن طريق المصادفة وحدها-أن الجامعة بين دليلة ابنة الشيخ علاوة، وكريمو ابن ابن عبد الجليل، هذا الشاب بالذات الذي يصفه الشيخ علاوة بأنه مثال الأخلاق المستقيمة، دون أن يكون على علم بتلك العلاقة الجسدية القائمة بين ابنته وهذا الشاب منذ مدة، والتي كانت نتيجتها حمل ابنته منه.
فالشيخ علاوة أذن غارق في الإعجاب بهذه الأسرة، ولا حدود لإعجابه هذا، وهو يرد على ابنه عمر الذي سأله عن بنات ابن عبد الجليل ماذا يعملن بقوله: "يا رجل الناس لا يسألون عن بنات سي عبد الكبير(ابن عبد الجليل) ما يعملن، أنهن الجزائر" (بان الصبح، ص214)
لابد أن تقديم الكاتب للشيخ علاوة بهذا الشكل، أي في طموحه الزائد، وتقربه الملح من أسرة ابن عبد الجليل، كان القصد منه الإشارة إلى زيف هذا الرجل وتفاهة تفكيره على الرغم مما يحاولون إحاطة نفسه به من مظاهر الأبهة والاحترام.
ولابد من جهة أخرى أن إعجاب الشيخ علاوة الشديد بهذه الأسرة كان قصد الكاتب منه تأكيد بلادة هذا الرجل في عدم فهمه للواقع وتتبعه له، وإلا لما كان عبر عن هذا الإعجاب كله لمجرد أن ابن عبد الجليل يعرفه من بعيد، وأنه دعاه لحفل خطبة إحدى بناته مما جعله ينساق في مدح كل أفراد هذه الأسرة بما فيهم ابن عبد الجليل وابنه كريمو اللذان وصفهما بأنهما مثال الأخلاق المستقيمة، وهو لا يعرف عنهما إلا القليل.
والكاتب يعمل بعد هذا – من خلال أسرة الشيخ علاوة- على فضح تلك الطبقة الاجتماعية الجديدة التب بدأت تتكون بعد الاستقلال وتتطلع إلى الحياة البرجوازية، إلا أن هذه الطبقة منخورة من داخلها، فالأب والأم مرضهما التطلع البرجوازي، والتقرب إلى الطبقة العليا، طبقة الأغنياء الكبار، وعمر الابن الأكبر الذي يعتبره الأب خليفته الحقيقي، شخصية مزيفة لم تكفه علاقاته مع سكريتاراته، ولكنه لا يتورع عن محاولة الاعتداء – وفي منزل الأسرة بالذات – على ابنة عمه نعيمة، ودليل البنت المتوسطة حامل من كريمو، وزبيدة راحت ضحية طمع أبيها الذي رفض كثيرا من خطابها طمعا في خاطب على مزاجه مما أدى بها إلى التعنس في النهاية، أما مراد فلا يهمه سوى طبه، وهو يعيش بصفة اللامبالي تقريبا، كان على علاقة بفرنسية مع احتمال الزواج منها، ثم اقنعوه بسهولة بالزواج بوهيبة ابنة ابن عبد الجليل، ويبقى الايجابي الوحيد والواضح في هذه الأسرة، وإن كان قليل الظهور هو الابن الأصغر رضا الذي يناقض أفكار أبيه جملة وتفصيلا، ويتزعم حركة التطوع في الجامعة، ويتعاطف مع نعيمة ابنة عمه في محنتها عندما تتهم – خطأ- من طرف عمها وزوجته بأنها حامل.
وعلى العموم فإن هذه الأسرة تنبني على المتناقضات التي عرف الكاتب كيف يختارها –فبينما- مثلا- الشيخ علاوة يفكر في المصيبة التي نزلت بالأسرة بسبب نعيمة "دليلة" الحامل، تكون زوجته العجوز كلثوم مع ابنتها زبيدة ومع نعيمة في الحمام يتناقشن في أمور أخرى تتعلق بالزواج، وتكون "دليلة" جالسة على كنبة وثيرة بشقة "العزوبية" التي يملكها كريمو بشارع محمد الخامس"(بان الصبح، ص75).
والتناقض في هذه الأسرة لا يوجد فقط بين الأباء و الأبناء، ولكنه موجود أيضا بين الأبناء فيما بينهم. فعمر ومراد ورضا كل له عالمه الخاص، عمر مدير البنك المختلس البيروقراطي الذي يتسبب في ثورة النقابة والموظفين ضده، مما يؤدي في النهاية إلى طرده من وظيفته، ومراد الطبيب الجراح السلبي الذي لا يهمه سوى طبه، والذي يقبل في بساطة زواجا يقترحه عليه والده.
ورضا المختلف بسبب ايجابيته عن الاثنين، وهو الوحيد الذي يملك خطه الواضح، ويعمل له باقتناع.
والبنات أيضا كل لها عالمها المتميز، وإذا كانت هالة البنت الصغرى لم تتميز أفكارها بعد بشكل واضح بسبب سنها، مع أنها تعبر، في المرات القليلة التي تظهر فيها عن ثورتها على والدها خاصة فإن صورة أختيها الآخريين واضحة، فزبيدة الكبرى وبسبب تعنسها كل تفكيرها يتخلص في ايجاد رجل أي رجل ترتمي في أحضانه وتتزوجه، بينما دليلة شخصية من نوع آخر مختلف دخنت الدخان، وشربت الوسكي، وجربت علاقة كانت نتيجتها الحمل المتخبط في بطنها، وهي ثائرة باستمرار على عالم الرجال، وكأنها تريد أن تغير نواميس الطبيعة نفسها، في بعض الأحيان.
أن كل ما ذكرناه، وغيره أدى بنعيمة مرة إلى الحكم على دار عمها بأنها "قائمة على بركان" (بان الصبح، ص176).
من المعروف لدى متتبعي تطور المجتمعات العربية الحديثة، ـنه يمكن اتخاذ موضوع تطور المرأة مقياسا لتطور هذه المجتمعات، نعني بذلك خروج المرأة من البيت ودخولها المدرسة الابتدائية والثانوية والجامعة، إلى دخولها بعد ذلك عالم الثقافة والشغل، أي مشاركتها تقريبا في جميع الميادين التي كانت حكرا على الرجل ونحن لذلك نجد إلى جانب المفكرين ورجال الاصلاح والمثقفين العرب الذين طرحوا موضوع المرأة، في إطار الدفاع عن حريتها وتعليمها وخروجها إلى العمل. وذلك ابتداء- على الخصوص- من أواخر القرن الماضي وبدايات هذا القرن، نجد إلى جانب هؤلاء أن الأدباء لم يقصروا بدورهم في تصوير وضع المرأة العربية، وتبني جانب الدفاع عنها، إلى درجة أن الراوية العربية الحديثة في أوضح نماذجها عند نشأتها الأولى- مثل "زينب" ظهرت مرتبطة بموضوع المرأة، كما خاض الأدباء من خلال الشعر والقصة معارك واسعة في تصوير وضعية المرأة والدفاع عنها.
وفي الرواية الجزائرية الحديثة فإن ابن هدوقة يولي الجانب الأهم من اهتمامه لقضية المرأة الجزائرية، ولعل موضوع المرأة عنده هو الموضوع الغالب، ولعلها ليست مجرد مصادفة كون أول رواية له "ريح الجنوب" ترتكز أساسا على موضوع المرأة.
لقد طرح عبد الحميد بن هدوقة في "ريح الجنوب" موضوع المرأة بشكل آخر مختلف تماما، وذلك لأسباب موضوعية من بينها على الأقل سببان اثنان أكثر وضوحا، هما:
أولا إن الرواية تجري أحداثها زمانيا في فترة بدايات الاستقلال الاولى.
وثانيا إنها تجري مكانيا في البيئة الريفية.
لهذا كله يظهر الفرق واضحا بين الطرحين لوضع المرأة في الروايتين.
وحتى لا يتشعب بنا الموضوع كثيرا نقتصر على تناول الشخصيتين النسائيتين الرئيسيتين وهما شخصية نفيسة في "ريح الجنوب" وشخصية "دليلة" في "بان الصبح"، وسنوجز أيضا هذه المقارنة، بين الشخصيتين، فقد مر بنا دراسة شخصية نفيسة في "ريح الجنوب"، وسنتعرض ببعض التفاصيل لشخصية "دليلة" في "بان الصبح".
موضوع المرأة المطروح في ريح الجنوب من خلال شخصية نفيسة هو موضوع التعليم من ناحية، والزواج من ناحية أخرى، فالفترة الزمنية، هي السنوات الأولى لما بعد الاستقلال، والبيئة ريفية تقليدية، والأب فلاح، والبنت "نفيسة" ريفية أصلا ولكنها عاشت فترة مهمة في المدينة وتذوقت بعض أجواء التنفس الحر فيها، عندما كانت تتابع دراستها الثانوية هناك. وهي وإن لم تقطع شوطا بعيدا في مجال التحرر مثلما سنجد عند دليلة، إلا أنها تنال من الوعي-على الأقل- ما يؤهلها لكي تعترض على زواج يريد أبوها فرضه عيها في وقت لم تكن تفكر فيه أصلا في الزواج، كما يؤهلها هذا الوعي لأن تفكر في الهروب من دار أبيها إلى العاصمة، وتشرع في تطبيق فكرتها عندما تنسد في وجهها جميع الطرق.
وبهذا فإن موضوع المرأة الرئيسي في ريح الجنوب يتخلص من خلال "نفيسة" في الاعتراض على ازواج المقترح من طرف الأب، والرغبة في مواصلة التعليم، والأمران مرتبط أحدهما بالأخر، فالزواج المرغم تقييد من حرية المرأة، ومنعها من مواصلة تعليمها حرمان لها من تحقيق هذه الحرية في أكمل صورها.
هذه هي صورة نفيسة، بإيجاز كبير، كما تراءت في "ريح الجنوب" فهل دليلة التي ظهرت بعد ذلك بحوالي عشر سنوات- كما نقدر- و التي ظهرت في مرحلة ازداد فيها التعليم انتشارا، كما ازدادت حرية المرأة، التي ظهرت في مجالات العمل المختلفة، هل دليلة هذه هي نفيسة نفسها بعد مرور حوالي عشر سنوات من الزمن إذا افترضنا أنها انتقلت إلى المدينة مع أفراد أسرتها؟ خاصة وأن عائلة الشيخ علاوة في "بان الصبح" أصلها ريفي أيضا، وأن الأب في هذه العائلة مازال رجلا محافظا تقليديا.
هذه - على كل حال- مجرد افتراضات، لا يمكن التعويل عليها لكي تبني عليها دراسات ذات نتائج مؤكدة.
ولكن ومهما يكن، فإننا نشعر أن "ريح الجنوب" تصور مرحلة، في تاريخ الجزائر الحديثة، بينما تصور بان الصبح مرحلة أخرى تالية لها، فعلى الرغم من أن أحداث "ريح الجنوب" تجري في الريف، وأحداث "بان الصبح" تجري في المدينة، وفي العاصمة بالذات، فإننا، نرجح أن الكاتب لم يكن يريد بكتابته "بان الصبح" مجرد تصوير بيئة المدينة، في مقابل بيئة الريف، ولكنه كان يقصد إلى تصوير مرحلة أخرى أكثر تطورا، وأكثر تعقيدا في تاريخ الجزائر الحديث، ونعني بذلك أن العاصمة نفسها لم تكن بدايات الاستقلال، بهذا الشكل الذي ظهرت به في منتصف السبعينات من خلال، رواية "بان الصبح".
ومهما يكن فإن ابن هدوقة أراد من خلال هذه الرواية أن يشير إلى التطور الكبير الذي وقع في الجزائر في هذه المرحلة في المجالات المختلفة، ففي مجال الأفكار، رأينا في ما يبق ذلك الصراع بدأ يطرح في الساحة من خلال مناقشة الميثاق، وفي مجال صراع الآباء والأبناء مر بنا التعرض لذلك التناقض الكبير بين الشيخ علاوة وأبنائه، وذلك التطور الكبير الذي حدث بالنسبة إلى الأبناء بايجابياته وسلبياته.
وأما بالنسبة إلى المرأة فلا شك أن ابن هدوقة يريد أن يطرح من خلال شخصية "دليلة" مدى ما وصل إليه التعقد الاجتماعي والحضاري في الجزائر الحديثة.
وابن هدوقة – بعد هذا – لم يرد مجرد الإشارة إلى انتشار الفساد في المجتمع- مثلا- أو ضياع المرأة، ولكنه قدم لنا من خلال "دليلة". امرأة مثقفة، ناضجة، واعية بما تفعل، ومسؤولة على حمل دليلة، المنسوب خطأ وبسبب رسالة من كريمو إلى دليلة عن طريق نعيمة – إلى نعيمة، مع العلم أن هذه الرسالة تمثل إلى حد ما بعض الضعف في بناء الحدث، إذ من غير المعقول أن يلجأ كريمو – الذي تعرف دليلة بيته جيدا، والذي تكلمه باستمرار في الهاتف – إلى طريقة المراسلة، وبالذات لكي يتحدث لدليلة عن حملها، ولكن الكاتب لجأ إلى استخدام هذه الرسالة قصدا، لكي تبني عليها بعد ذلك أحداث هامة للغاية في الرواية بعدما يفتحها الشيخ علاوة، ويقرأ محتواها ظانا أنها موجهة لابنة أخيه نعيمة التي جاءت باسمها – وهي حيلة (؟) كانت تلجأ إليها دليلة حتى لا يعرف أحد شيئا عن هذه المراسلة.
إن مسؤولية دليلة عن فعلها، وعن مصيرها واضحة منذ البداية، فالكاتب لم يقدم قصة حب، بين دليلة وكريمو، كما جرت العادة لدى كثير من كتاب القصة أو الرواية الذين يقدمون المرأة في صورة المخلصة للحب كامل الاخلاص، بينما يقدمون الرجل في صورة العابث اللاهي الباحث عن اللذة، حتى إذا وقع ملا تحمد عقباه كأن تحمل المرأة هجرها الرجل، وتركها لمصيرها التعس.
ابن هدوقة – منذ البداية- لم يقدم قصة حب بين الطرفين، ولكنه قدم صورة علاقة بينهما، والفرق – بدون شك- شاسع، من الناحية الأخلاقية – بين العلاقة المبنية على الحب، و العلاقة المقامة على مجرد الصداقة، كما أن الفرق بينن نوعي العلاقتين له مدلوله الكبير –أيضا- من الناحية الاجتماعية.
فالفرق بين علاقة الحب وعلاقة الصداقة، أن كلا الطرفين – في حالة الصداقة – يتحمل مسؤوليته الكاملة، فكريمو هنا لم يخدع دليلة، لأنه لم يمنها بشيء كالوعد بالزواج مثلا، أي أنه لم يعلن لها عن حبه الذي ستبنى عليه أمور كثيرة في مستقبل علاقتهما، وهي من جهتها لم تلجأ إليه ليفكر معها في حل إلا أنها وقعت في أزمة حقيقية تحتاج إلى حل ما بعد حملها.
أما من الناحية الاجتماعية فإن صورة الصداقة بين الجنسين بالطريقة التي وردت بها في الرواية لها مدلولها الهام أيضا، إذ أن وصول المرأة إلى إقامة علاقة مثل هذه – وهي المرأة المثقفة الناضجة – لهو دليل واضح، على حدوث تطور في شخصية المرأة من حيث تحررها و تحملها لمسؤوليتها، ومهما كان ضعف نسبة عدد النساء اللواتي يتصرفن مثل دليلة، فإن هذه النسبة موجودة بدون شك.
وكما مر ذكره فإن دليلة تتصرف بكامل وعيها، وكامل إرادتها، ومع الوضع الذي صارت إليه بسبب الحمل، فإنها لم تنزو للبكاء على خطئها، ولكنها استقبلت هذا الحمل بكامل الارادة والمسؤولية، وهي بعد هذا ثائرة على وضعها كامرأة في كامل الرواية، وترى أن كل مشاكلها متأنية من سبب واحد هو كونها امرأة، في مجتمع الرجال، أي يأتي دورها في الدرجة الثانية، تقول مرة لكريمو، وبعد مناقشتها مناقشة حادة له، تطلب منه مساعدتها في البحث عن حل لحملها: " أتدري فيماذا أفكر؟ ولم أنا في هذه المرارة؟ لأني امرأة، وضعي كامرأة في مجتمع الرجال هو الذي يحزنني .." (بان الصبح، ص81).
كما تبدي دليلة ثورتها على عالم الرجال، أو قل تهورها عندما تلتقي – وبعد أن شربت كاسات من الوسكي- في الشارع بصديقتها نصيرة صوناكوم، فتعبر مرتفع عن ثورتها على عالم الرجال.
ولكن دليلة التي تحاول أن تفرض وجودها في عالم يحكمه الرجال، تجد نفسها في النهاية قد اخفقت اخفاقا ذريعا، فحتى محاولة حصولها على حريتها باستقلالها عن عائلتها عن طريق كراء بيت مستقل في أبسط مكان بالجزائر، وهو حي القصبة، حتى هذه المحاولة فشلت، فهذا البيت الذي وعدت به تمنع سكناه.
ويؤزم الكاتب الموقف – بالنسبة إلى دليلة – أكثر عندما يتبين لها أن الرجل الذي تعرفت به من قبل – والمسمى عبد العزيز، والذي وعدها بالمساعدة في موضوع السكن، هذا الرجل يشتغل في الأعمال الادارية لمصانع البلاستيك التي يملكها ابن عبد الجليل أبو كريمو، وبهذا تقع دليلة بين فكي كماشة كبيرة.
هنالك من جهة كريمو، الذي أقامت معه صداقة وحملت منه، والذي تهاون في مساعدتها للخروج من أزمتها، والذي تعود أن يجلب إلى بيته في شارع محمد الخامس الفتيات اللواتي يستهويهن بمختلف إمكانياته ووسائله كالمشروبات الروحية المختلفة، والصور والأفلام البرنوغرافية. وهنالك من جهة أخرى أبو كريمو، الذي تنتشر مؤسساته في كل مكان والذي يحاصر من جهته دليلة في وقت ظنت أنها ابتعدت عنه وعن ابنه.
كل شيء أذن ضد دليلة، وتنتهي الرواية باتصالها هاتفيا بنصيرة صوناكوم التي ترحب بإيوائها أياما في انتظار أن تجد حلا.
على الرغم من كل شيء بالنسبة إلى دليلة، على الرغم من الجرأة، والشجاعة، وحمل الأفكار الثائرة، وتحمل المسؤولية كاملة، وعلى الرغم من أنها تعبر عن تطور، أو مرحلة جديدة لدى المرأة الجزائرية، على الرغم من هذا كله وغيره، هذا، فإن دليلة تظل بدون شك وضعا استثنائيا لا قاعدة، أي أنها بصيغة أخرى لا تمثل التطور الحقيقي الذي تتجه إليه المرأة الجزائرية، ولكنها تمثل فئة قليلة من النساء في مجتمعنا، والدليل على ذلك النهاية المأزومة التي انتهت إليها، فهي إذن تمثل الاستثناء لا القاعدة.
ونحن نشعر من خلال الرواية أن شخصية المرأة التي يمكن أن تمثل المرأة الجزائرية المستقبلية فعلا، والتي تتطور بشكل منطقي، واقفة على أرض صلبة، هي شخصية نصيرة صوناكوم، لا شخصية دليلة.
وفي مقارنة بسيطة وسريعة بين الفتاتين في جملة من الأمور يتضح الفرق، مع العلم أن الكاتب نفسه قصد قصدا إلى هذه المقارنة لكي يميز القارئ بين الشخصيتين بشكل واضح.
نشير أولا إلى أن كلا الفتاتين جامعية، دليلة على أبواب التخرج في الحقوق، بينما نصيرة عاملة بمصلحة البحوث النقابية.
ونعتقد أن الكاتب وفق بناء الشخصيتين، فقدم لنا شخصية دليلة المنتمية إلى الطبقة البرجوازية الوسطى المذبذبة، ذات الأحلام الكثيرة، وقد جعلها في طبيعتها مؤهلة لأن تقوم بدورها أحسن قيام، ثورتها على طبيعة أخلاقيات أسرتها، وعلى وضع المرأة، واندفاعها للبحث عن عالم الحرية كما تفهمه هي، لا كما يجب أن يكون، فعالم الحرية لديها يتمثل في حرية التدخين، وحرية الشرب، وممارسة الجنس، أي حرية المرأة بلا حدود، تقول مرة لابنة عمها نعيمة: " إذا شئت أعطيتك سيجارة، وخرجنا بهما موقدتين يملأ دخانهما ممرات البيت! لنتحد كل واحد! قومي " (بان الصبح، ص232).
بينما نصيرة المنتمية إلى الطبقة العاملة، جعلها الكاتب مثقفة واعية، واقعية مع نفسها، ومع أسرتها ومحيطها، مستقيمة في أخلاقها، متزنة صريحة وايجابية بصفة عامة.
وبينما تقع دليلة بسهولة في حبائل كريمو، تقول نصيرة لها، " أنا لم تربطني بكريمو صداقة، تعارفنا كما يتعارف كل الطلبة، ولما اكتشفت حقيقته تركته' بان الصبح، ص 94).
والكاتب يميل دائما إلى تغليب أفكار، نصيرة، الواعية المتزنة، على أفكار دليلة المهتزة، وهذا حوار آخر يدل على هذا الأمر:
- " صحيح مجتمعنا قذر، أليس كذلك
- لا، بعض الطبقات فيه قذرة!" ( بان الصبح، ص105).
ويمكن أن نجد أمثلة عدة من مثل هذا الاختلاف الواضح في التفكير بين الفتاتين: " الجزائر ليست تافهة، إنما سكانها هم التافهون!
- أصحح لك كلامك لثاني مرة: ليس كل السكان، بعض السكان تافهون! الشعوب ليست تافهة" ( بان الصبح، ص106).
ويجعل الكاتب دليلة نفسها تعترف برجاحة عقا نصيرة، " خسارة لم أعرفك بهذه الصورة قبل اليوم.. لكنت الآن امرأة أخرى" ( بان الصبح، ص107)، ويقدم لوحة كاملة عن الفرق بين الشخصيتين في تفكيرهما، وطبيعتهما، فبينما تفكر دليلة أن المرأة بلا وسكي، ولا غيفارا لا يمكن أن تكون ثائرة، ترد نصيرة بأن " الثورة ليست سكرا، ولا وسيلة إلى إشباع الجنس" ( بان الصبح، ص 186).
وعندما تتحدثا عن اليمين واليسار يتبين أن نصيرة أكثر عمقا في اليسار، وأكثر التصاقا به: " أنا كلي يسار، لو استطعت أن أغير اسم ذراعي ويدي اليمنى لفعلت! أنا من طبقة فقيرة عمالية، أبي ميكانيكي" ( بان الصبح، ص187).
وعندما تتطرقان إلى موضوع الثراء وارتباطه بالرجعية، تقول نصيرة بأن الثراء ركيزة للرجعية، وتصرح لدليلة بأنها لا تكره الثراء في حد ذاته، ولكن الثراء الذي يكون على حساب الفقراء.
وتعترف دليلة لنصيرة مرة أخرى بأنها معها: "كالذي يدخل عالما جديدا، يتنقل فيه من اكتشاف لآخر!" ( بان الصبح، ص189)، نصير إذن تؤمن بالعمل، بالجدية، بأعمال التفكير، حتى السعادة لديها " ليست شيئا نحصل عليه ثم ننتهي منه ونبقى دائما سعداء.. هي كالحرية، كلاهما يكتسب باستمرار وتجدد، وإلا فقدت الحياة معناها" ( بان الصبح، 191).
هذه هي نصيرة، الفتاة العاملة، الجادة المنسجمة مع نفسها، ومع أفراد أسرتها، والصريحة معهم، بينما تصرح دليلة بأنها شخصيتين: " شخصية من تصميم أهلي، وأبي على الخصوص، وشخصية من تصميمي أنا، ولست سعيدة لا بالأولى ولا بالثانية" ( بان الصبح، 192)، وتلاحظ دليلة تواضع أبي نصيرة بخلاف أبيها، كما تلاحظ اختلاف أم نصيرة عن أمها، فهي امرأة حضرية في غير تكلف.
وربما يغلب الكاتب الايديولوجية أحيانا على شخصية نصيرة، ولا يتركها تتصرف بحريتها وشعورها، فعند الحديث عن الألبسة الأجنبية تقول بأنها تعيش في الجزائر وتلبس ما في الجزائر. وعند الحديث عن بلدان الخارج تقول بأن الحياة في بلدان الناس أيضا ليست سهلة، كما أنها تبرر عدم ارتباطها بكريمو بسبب عدم انتمائهما إلى طبقة واحدة.
ولذلك فإن دليلة لم تخطئ عندما قالت لها: " تتكلمين أحيانا كمعلمي المدارس" ( بان الصبح، 197).
وعلى العموم فإن ابن هدوقة أراد من خلال شخصيتي دليلة ونصيرة أن يقدم نموذجين مختلفين متباينين للمرأة الجزائرية المعاصرة، مع انتصاره للمرأة المثقفة الواعية الجادة المتزنة الواقعية متمثلة في نصيرة. بينما يحكم الواقع نفسه على هزيمة دليلة، وهي على كل حال، وعلى الرغم من نهايتها المادية والعملية بالهزيمة، فإنها تنتهي معنويا نهاية ايجابية، فما أعجابها بشخصية نصيرة وأفكارها سوى تحول في أفكارها هي وطبيعتها من السلبية إلى الايجابية:
وللخلاصة، نقول أن الكاتب بنى روايته – من حيث اختياره للأسر والشخوص- بناء مدروسا ومتقنا.
فقد اختار ثلاث أسر، لكي تمثل طبقات، أسرة ابن عبد الجليل الممثلة للبرجوازية الكبيرة، وأسرة نصيرة صوناكوم الممثلة للطبقة العاملة، وبينهما أسرة الشيخ علاوة الممثلة للبرجوازية الصغيرة.
ولقد عرف كيف يجعل كل أسرة تؤدي دورها المنوط بها، أسرة ابن عبد الجليل تعيش في أبهة الغنى، كما تستغل مكانتها وامكانياتها – عن طريق أحد أفرادها، "كريمو" – للإيقاع بفرد من أسرة الشيخ علاوة "دليلة".
وأسرة نصيرة، تمثل النقاء، والصفاء والعمل والجدية، أي الطبقة العاملة في اخلاصها للعمل وللوطن، بينما تمثل أسرة الشيخ علاوة التي هي لب الموضوع في الرواية التذبذب المعروف عادة لدى البرجوازية الصغيرة، ولقد تمثل هذا التذبذب بشكل واضح وجميل في هذه الرواية من خلال أفراد هذه الأسرة، والتناقض فيما بينهم، فالأب الشيخ علاوة وزوجته يحلمان بالاندماج في الطبقة البرجوازية الغنية، ويعملان- وخاصة الشيخ علاوة- لتحقيق ذلك.
وابنهما الأكبر عمر، لا يختلف عنهما في حب الوصول، وإن كانت له طريقته الخاصة، والتي تمثلت في اختلاس أموال الدولة. بينما يقف مقابلا لهما رضا المخلص للثورة الزراعية، أي لكل ماهو اشتراكي، ودليلة التي تعيش نوعا من الضياع واللامبالاة أو الثورة مدة من الزمن، بطريقتها الخاصة، ولكنها لا تلبث أن تنتهي في الأخيرة، معجبة بنصيرة وبأفكارها.
ولا شك أن الرمز الممتاز في هذه الرواية هو المتمثل في شخصية دليلة، ضحية البرجوازية الكبيرة، والملتجئة في النهاية إلى الطبقة العاملة