النصّ وهوّية المتلقي قراءة في رواية "بوح الرّجل القادم من الظلام" لابراهيم سعدي

فاطمة ديلمي/ جامعة بجاية
من سلطة النص إلى سلطة القارئ:
لا يستطيع الكاتب أبدا معرفة قارئه الفعلي إلاّ أنّه يتخيل قارئا ضمنيا يضمنه نصه وإلا لما تمكّن من الكتابة، وإذا كانت السلطة في الماضي ملكا للكاتب تارة (المنهج النفسي...) وللنص تارة أخرى (البنيوية) فإن الدراسات التي قامت بها مدرسة كونستان في إطار جماليات التلقي- منذ السبعينات من القرن الماضي – سمحت بنقل الاهتمام إلى التنائي النص/ القارئ، فالظاهرة الأدبية هي علاقة جدلية بين النص والقارئ، والعمل الأدبي هو أيضا إنشاء للنص في وعي القارئ. ولقد تطورت في ظل نظرية القراءة المفاهيم التالية:
* الرصيد (le répertoire) ويتضمن الاتفاقيات المشتركة بين الكاتب والقارئ.
* الإستراتيجية (la stratégie) وتشمل محتوى النص: التناصية، المعايير الاجتماعية والتاريخية، السياق السوسيوتاريخي.
* القارئ الضمني (le lecteur implicite) وهو صورة القارئ التي يبنيها الكاتب عبر النص.
ونتيجة لتطور البحث في هذا المجال قد:
- تعددت المصطلحات الواصفة للقارئ (le lecteur : implicite, implique, coopérant, visé, modèle idéal, réel, historique… Architecteur.)
- والمعرفة لوظيفته لأن كل نص يمنح لقرائه المحتملين دورا معينا (حسب أتباع مدرسة كونستانس، أو ريفاتير، أو السميائي أومبرتو إيكو)
- والباحثة في هويته.
وكما أن الشخصية في إطار السميائيات السردية بياض دلالي لا يكتمل إلا بنهاية العمل القصصي، فإن الأمر كذلك بالنسبة للمتلقي الضمني فهويته بياض يمتلأ بفعل القراءة، وعناصرها يبوح بها متن النص وما يحيط به من نصوص (Les paratextes)، فهو كالكاتب- وهو يكتب- حتى وإن لم يشر إليه صراحة يضمن نصه برنامجا يسمح بل ويفرض على القارئ الفعلي بناء كاتب هو الآخر متضمن في النص الذي لا يفترض قارئه فحسب وإنما يبدعه أيضا، وهذا البرنامج يتحكم مباشرة في القراءة ويقترح على القارئ:
* الفعلي الكيفية التي ينبغي له أن يقرأ بها النص.
* الثائر متى يختار القراءة مخالفا هذا البرنامج.
إشكالية النص/القارئ:
لقد دخلت هذه القضية منذ الستينيات من القرن الماضي- في لب بحث جماعة الباحثين السميائيين "تارتو" التي استفادت من علوم كثيرة خاصة السميائيات اللغوية والسيبرنطيقا في دراستهم للآلية السميائية للثقافة باعتبارها الوعاء الشامل لجميع نواحي السلوك البشري فبناء على فهمها للثقافة دعت إلى دراسة النص الثقافي على ضوء: تحديد وضع النص وعلاقته بكل من الباث والمتلقي، إذ يمكن للنص كرسالة ثقافية أن تكون موجهة نحو المتلقي، كما قد تكون موجهة ناحية الباث، وهو أمر يتضح في أن "المخاطب- في الحالة الأولى- يكيف نفسه طبقا لنموذج المتلقي". وما يندمج من الذاكرة في قناة الاتصال بين الباث والمتلقي يسمح بتمييز أكبر قدر من سمات المتلقي الضمني للاقتراب من هوية المتلقي الفعلي، وذلك عبر الخصائص الجمالية التي تتطابق مع عصر وجيل وجماعة محددة.
وبما أن القارئ هو إنسان- ثقافته بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية- تشكل طريقته في القراءة والتلقي والاستجابة بالتالي فإن البحث في هويته وفي كيفية تلقيه للنص، لا يمكن أن تتم إلا من خلال النقد الثقافي. وعلى هذا الأساس ستنبني دراستنا لنص "البوح" كنص ثقافي مكون من اتحاد عدة أنظمة سميائية دراستها تسمح بتحديد هوية المتلقي، ووظيفته. ولابد أن تكون هذه الدراسة تتوجا لدراسات سياقية تبدأ بالسياق البراغماتي/ التداولي، وبعدها السياق الاجتماعي، فالسياق الإدراكي، ثم السياق النفسي.
والمنطلق الأساسي في هذه القراءة هو التعامل مع الحقائق المتاحة للقارئ والتي بإمكانه إدراكها أثناء تعامله مع الرواية- أو ما يدعو ميشال أوتن بمواضع اليقين- لتكون نقط تثبيت تتيح تأويل مواضع الشك أي المفترضات والمضمرات.
السياق التداولي:
إن اللغة في إطار الدراسات التداولية لا تتحقق إلا في إطار وضعية خطابية تبادلية ومقيدة بقيود خاصة، وبالتالي سيكون هدفنا في هذا الجزء من الدراسة هو معرفة الكيفية التي تحققت بها اللغة عند استعمالها في هذه الرواية، التي يمكن النظر إليها باعتبارها خطابا يتكون من سلسلة من أفعال الكلام (de langage Actes) ينطق بها الباث (Locuteur)/ السارد (Narrataire) كما أنه يطمح لأن يحدث تغييرا في حالته، أما المتلقي فإنه يقوم بتشخيص مضمون الخطاب وتحديد غرضه التداولي، ثم الاستجابة، أي أداء رد فعل مناسب، وكلها عناصر تسمح بتحديد هوية كل من الباث/ الكاتب الضمني والمتلقي/ القارئ الضمني.
ونص هذه الرواية ينقسم إلى:
1- كلمة الناشر: يتوجه بها الكاتب الضمني على لسان ناشر وهمي إلى المتلقي الذي سيلاحظ حتما أن:
1-1- ملفوظ البيان هو الذي يسمها، وهو ملفوظ حالة يحيل إلى:
*المخطوط.
*زصاحبه (وهو راوي متن الرواية).
*وحامله (وهو إحدى شخصيات الرواية).
*وإشارة إلى أسباب نشره.
1-2- ملفوظ الوعد الذي ورد في معرض إبراز دافع الحاج منصور لكتابة مذكراته إذ "لم يؤلف كتابة الوحيد هذا لغرض النشر بل لغاية أخرى سيعرفها القارئ."
1-3- ملفوظ الممارسة إذ ثمة استباق للمتلقي غرضه نزع الشك لديه "وحول ما إذا كان كل ما ذكره الدكتور الحاج منصور قد وقع فعلا. أكد- على لسان الذي تفضل بأن يكون الواسطة بيننا- بأن الوقائع التي تسنى له أن يكون شاهدا فيها، قد تمت كما وصفها خاله، وماعدا ذلك، لا يستطيع أن يتصور أن يكون خاله قد حاد عن الحقيقة."
2- خطاب الحاج منصور والذي يتفرع بدوره إلى:
2-1- توطئة:
2-1-1- وملفوظ البيان الذي يسمها وهو يعرض من خلاله أسباب كتابة المذكرات.
2-1-2- إلى جانب ملفوظ الوعد الذي يلتزم فيه السارد أمام مسرود قائلا "وإنني... ألتزم ألا أغفل شيئا."
2-1-3- وملفوظ الممارسة: إذ
*بعد أن كشف السارد دافع كتابته لمذكراته يتبع ملفوظ البيان بملفوظ الممارسة،وغايته نفي ما قد يتوهمه القارئ من دوافع أخرى فيقول "قر عزمي على تأليف هذا الكتاب. لكن ليس سعيا وراء شهرة أو مكسب.".
*وفي الأخير يوجه دعاء إلى الله قائلا "أرجو الله أن يوفقني وأن يجعل من هذا العمل شفائي... وأن يطفئ نار الفتنة بين المسلمين في بلدي..."
2-2- متن: وملفوظات البيان هو الذي يطغى فيها حيث يقوم السارد فيها برواية ذكرياتها، ويتخللها أحيانا أثناء الحوار بعض ملفوظات الممارسة.
3- خطاب ضاوية كخاتمة:
3-1- هو الآخر يطغى فيه ملفوظ البيان الذي كشف عن النهاية التي لم يتمكن السارد السابق من روايتها بسبب موته.
3-2- وثمة ملفوظ ممارسة كان هدفه إقناع القارئ بواقعية المروي وتمامه "لا شك أن الحاج كشف كل شيء."
إن دراسة أفعال الكلام في هذه الخطابات تكشف أن الهدف منها هو نقل ذهن ومشاعر المتلقي الضمني من عالم الواقع إلى عالم الخيال عن طريق ملفوظات البيان (expositifs) والتي تسمح له بالاندماج ضمن رؤية معينة للعالم هي رؤية الكاتب الضمني، فنجده قد عول على الكلام لإحداث تغيير هو نقل المتلقي من حالة جهل إلى حالة معرفة.
السياق الاجتماعي
إن الوضعية الاجتماعية للباث هي التي تمنح لخطابه قوة الفعل، فثمة مواقف معينة خاصة أو عامة تسمح للملفوظ لأن يكون فعلا كلاميا، فكل راغب في تثبيت وضعية أو إحداث تحول فيها عبر الكلام يستند إلى سلطة اجتماعية تمنح لخطابه قوة الفعل، لأنها تفرض على المتلقي الاستجابة المناسبة.
ولكل موقف اجتماعي أفعال كلامية محددة ممكنة تلائمه، وهكذا فإن الخطاب يكتسب خصائص مميزة انطلاقا من ذلك، كما أن المتلقي يتأثر بهذا الخطاب إذا تعرض لموقف اجتماعي مماثل.
ونظرا لأهمية علاقة الفعل الكلامي بالموقف الاجتماعي، فإننا سنقوم في هذا القسم من الدراسة بتحديد الوضعيات الاجتماعية التي تمنح لخطاب الباتين/ الساردين قوة الفعل.
إن نص البوح- كخطاب- تؤطره العلاقة التالية:
الباث: |
المتلقي: |
الناشر الوهمي. الحاج منصور. ضاوية
الكاتب الضمني. |
المتلقي الضمني. |
إن كلا من هؤلاء الباتين يملك معرفة محددة يريد تبليغها، وجهل المتلقي لها هو ما يمنحهم السلطة، ولكنهم يدركون محدوديتها بما أنهم يتقاسمونها- أي السلطة- ومتلقي يدرك حاجته لهذه المعرفة، ولكنه يعي في الوقت ذاته امتلاكه سلطة
*الامتناع عن القراءة،
*أومخالفة برنامج القراءة الذي وضعه الكاتب.
فثمة إذن موقف اتصالي يؤطره عقد اجتماعي بين:
الباث الذي يكتفي بملفوظات البيان لتقديم المعرفة، وملفوظي الوعد، والممارسة لحث المتلقي على متابعة القراءة لنيلها، وبين المتلقي الذي يتابع القراءة وفقا للبرنامج الذي وضعه الكاتب.
السياق الإدراكي:
إن نقل الوقائع وتقديمها في قالب لغوي شفاهي أو كتابي يتطلب هيئة تلفظية هي السارد، فالحكاية مادة خام طيعة قابلة لأن تصاغ بما لا حصر له من الأشكال التعبيرية، وهو يصوغها وفقا
لرغبته وتمشيا والاستراتيجية المتبناة من قبله، أو كما يقول "تودوروف" فإن الأحداث التي "يتألف منها العالم التخيلي لا تقدم لنا أبدا في ذاتها بل... انطلاقا من وجهة نظر معينة"، فبدون السارد لا توجد رواية فهو الذي يختار نوع الخطاب، ويختار التتابع الزمني أو الانقلابات، بل إن تودوروف يعتبر فصله كليا عن الكاتب الفعلي خطأ*.وما أن نتعرف على السارد، حتى نضطر للبحث عن مرافقه أي المسرود له والذي "يمثل محطة بين السارد والقارئ ويساعد على تدقيق إطار السرد ويفيدنا في تمييز السارد ويبرز بعض الأغراض، ويجعل الحبكة تتقدم، ويصبح الناطق باسم العبرة من العمل". وهذا ما يجعل دراسة المسرود له لا تقل أهمية عن دراسة السارد، فلا يمكن معرفة تأثير النص على المتلقي الفعلي إذا لم يتم التعرف عليه.
فكيف رسم سارد هذه الرواية عالمه؟ وما علاقته به؟
تتضمن هذه الرواية أربعة ساردين داخليين هم: الكاتب الضمني، الناشر الوهمي، الحاج منصور نعمان، ضاوية، ونقصد بالكاتب الضمني الحالة العامة للسارد فـ "تودوروف" يميز بين السارد والكاتب الضمني قائلا: "لا حديث عن السارد إلا في حالة... التمثيل الصريح، ولا تخصص عبارة الكاتب الضمني إلا للحالة العامة". إن السارد كحالة خاصة هو الفاعل في عملية البناء التي وردت في ملفوظه، أما الكاتب الضمني فهو الفاعل الحقيقي في عملية البناء الكلية للنص، فكل ما أخفاه، أو كشف عنه الساردون هو الذي سمح به، وبالتالي فإن المعرفة الكلية التي يبرزها النص تدل عليه.
1- الناشر الوهمي (الكاتب الضمني المقنع): والذي يبدو من خلال كلمته واعيا بقطبي عملية التبليغ فهو الباث الذي يملك معرفة حول المخطوط لذلك يتكفل بتبليغها للمتلقي الذي يجهلها والذي هو بحاجة إليها لإدراك ما هو متوقع منه أي القراءة وفقا للبرنامج الذي وضعه.
2- الحاج منصور نعمان: وهو سارد داخل حكائي، يسرد مستعملا ضمير المتكلم، وسرده مجزأ إلى فصول مرقمة ومنظمة زمنيا وهي مجزأة إلى قسمين (فيما عدا الفصل21) على النحو التالي:
*الجزء الأول من الفصل ينطلق فيه القص من أحداث الماضي البعيد (منذ سن البلوغ) باتجاه أحداث الحاضر (بداية تصعيد الحركة الاسلامية المسلحة).
*والجزء الثاني من الحاضر باتجاه أحداث الماضي القريب (سنوات الجمر كما يدعوها السارد).
وهكذا يلاحق الماضي الحاضر إلى أن يلتقي به في الخاتمة.
وهو يقدم نوعين من المعرفة:
2-1- المعرفة الموضوعية (عن المدرك) وفيها يمتد زمن الأحداث من السنوات الأولى للحرب التحريرية ليتوقف عند ما يدعوه السارد بسنوات الجمر أي منتصف التسعينات وهي تحيل إلى الوضع الأمني لجزائر ما قبل الاستقلال- الحواجز، التفتيش، انفجارات القنابل، اغتيال الفنانين-
ويتوقف السارد في تصويره لهذه الأوضاع عند تفاصيل ومحطات تبرز الكثير من المفارقات كمسألة خروج المرأة إلى "الحمام" مثلا، إلا أن عملية الانتقاء والحذف هذه التي كان من المفروض أن تمنح القارئ رؤية واضحة هي تفرض عليه التساؤل حول غاية السارد في كونه يتتبع تصوير الوضع الأمني/ السياسي: الحرب التحريرية، فتنة ما بعد الاستقلال، انقلاب سنة 1965، أحداث أكتوبر 1988، اغتيال الرئيس بوضياف، سنوات الجمر، والسرد سريع إلا حينما يتعلق الأمر بتصوير بشاعة الجرائم التي كانت ترتكب- ذبح الأطفال والشيوخ، الرؤوس المفصولة، جرحى وقتلى الانفجارات،...
- وما ترتب عن ذلك من رعب ومحاكمات من طرف الأمن مرة ومن جهة أعضاء الجماعات المسلحة مرة أخرى فإن التصوير يصير بطيئا،
*ليمنح القارئ صورة أخرى عن الفترة الاستعمارية أقل بشاعة؟ (تصحيح التاريخ)
*أم ليقول له تاريخ الجزائر كله دموي فما حدث في التسعينات ما هو إلا حلقة من حلقاته؟ (تفسير التاريخ)
*أم ليفهمه أن الاستقلال لم يحل جميع المشاكل؟ (تفسير التاريخ)
*أم ليترك قراءته حرة؟ (كتابة التاريخ)
2-2-الذاتية (عن المدرك) وتحيل إلى مختلف العلاقات الغرامية التي عاشها السارد منذ سن بلوغه مع نصيرة، خالتي وردية، مسعودة المطلقة، زكية،... والسرد يسير سريعا إلا حينما يتعلق الأمر بتصوير حميمية هذه العلاقات فالسارد يقوم بالتبئير على التفاصيل ليصير السرد بطيئا يذكرنا بالتصوير السنيمائي للعلاقات الغرامية، مما يجعل القارئ بعد ذلك يتوقع مثل هذه الصور بظهور كل اسم علم مؤنث جديد في السرد.
وإذا كان السرد العام في النص يخبرنا عن المدرك الذي هو السارد فإنه يخبرنا عن المدرك الذي هو السارد فإنه يخبرنا أكثر عن المدرك أي الوقائع الموضوعية، فالرواية تسرد مغامرات وانهزامات فرد معزول مما يوهم المتلقي بأنه بصدد قراءة أوتوبيوغرافيا، ولكنه فرد سحقته حمي التاريخ، والكاتب منذ الغلاف قد أكد له أن الأمر متعلق بنوع أدبي مختلف تماما هو الرواية، وهذا ما قد يوقعه في الالباس وتصور أنها رواية تاريخية.
2-3-ضاوية والهدف من سردها هو إتمام حكاية الحاج منصور، وهنا يفقد هذا النص طابع الاعترافات ليكتسب صفة الرواية.
2-4-الكاتب الضمني: وهو يختلف عن الكاتب الفعلي فهو شخصية متخيلة أو كائن من ورق شأنه في ذلك شأن بقية الشخصيات، ومع ذلك فإنه يتميز عن باقي الشخصيات بكونه وسيلة المؤلف لتمرير خطابه الإيديولوجي، فهو شخصية "يتوسل بها المؤلف وهو يؤسس عالمه الحكائي لتنوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابه الإيديولوجي، وأيضا ممارسة لعبة الإيهام بواقعية ما يروي".وبالفعل فدوره كان دور الشاهد على صحة وقوع أحداث الرواية، كما يبدو لنا الكاتب الضمني من خلال منح الكلمة لعدة ساردين حريصا على تقديم صورة مجسمة (Stéréoscopique) عما في تاريخ الجزائر من مفارقات، كتلك التي ظهرت من خلال إبراز مصير الحاج منصور، فقد اغتالته الجماعات المسلحة بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. أما المسرود له/ المتلقي الضمني فالمطلوب منه أن يكون متحريا يتابع القراءة لا لتصحيح معرفته وإنما لاستكمالها، ليتحول إلى كائن عارف.
السياق النفسي:
إننا في هذه المرحلة من الدراسة سيكون هدفنا هو تحديد الوسائط التي أراد السارد أن ينفذ عبرها إلى مشاعر المتلقي لإحداث مفعول نفسي فيه، وهذا يعني معرفة الجوانب النصية التي من شأنها إحداث مضاعفات اجتماعية، فثمة خصائص نصية مرتبطة بتحقيق هدف تغيير، أو تثبيت مواقف وآراء ومعارف معينة لدى المتلقي، ولاستنباطها لابد من تحرير النص، للتمكن من قراءة ما فيه من تلميحات دلالية...
والكاتب الضمني يستقطب اهتمام متلقيه ببرنامج يبدأ بالتحقيق منذ:
العنوان:
الذي يتشكل من كلمات هي أقرب إلى الألغاز:
*البوح: والبوح هو خرق لمنع الكشف عما ينبغي أن يظل في السر.
*رجل: المعروف ثقافيا هو صعوبة الكلام والبوح عند الرجل، وفعله مثير للفضول.
*قادم: والقدوم يوحي بالمجهول سواء ارتبط بالمكان أم بالزمان.
*من الظلام: أهو ظلام الزمان أو المكان، الحقيقة أم المجاز؟
كلمة الناشر:
*لا يقدم الناشر لهذه الكلمة بما يناسبها من عنوان إنما الشروع في قراءتها هو ما يوهم بذلك.
*وهو يموضع تاريخ النشر في سنة 2015، وإذا علمنا أن سنة النشر الفعلية للرواية هي 2002 فإن ذلك يذكرنا بقصص وأفلام الخيال العلمي التي تموضع أحداثها في المستقبل، وهذا ما يؤدي إلى خلق حالة إبهام في ذهن المتلقي فهل هو بصدد قراءة اعترافات، أم رواية تلريخية/ واقعية أم رواية استباق الأحداث Roman d’anticipation.
ت.أ. فان ديجك، النص: بناه ووظائفه، مقدمة أولية لعلم النص، ترجمة جورج أبي صالح، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الانماء القومي، العدد5، شتاء 1989، ص60-77.
فالكاتب الضمني المتخفي يفاجئه، ويثير فضوله لمتابعة القراءة، بعد أن أكد له أن:
*الشهادة متعلقة بالوقائع الموضوعية التي شهدها كل من الحاج منصور والفنان الأصم
أسماء بعض الشخصيات وامتنع عن ذكر وذكر له*
أسماء البعض الآخر.
والسرية. لإيهامه بالواقعية
التوطئة:
يستلم سارد آخر هو الحاج منصور المتلقي ليخضعه إلى برنامجي:
إثارة الفضول: من خلال إقناعه أنه:
*يكتب باسم مستعار "كل ما سأذكره صدق... إلا فيما يتعلق باسمي".
*استجاب للشيطان وخجل من نفسه وما اقترفت لدرجة التقزز "إبليس يسكن جوانحي ويضلل سبيلي"، "الخجل من نفسي ومن حياتي الماضية"
*يعتذر له على ما قد يصدمه لأنه "لاحياء في الدين".
الإيهام بالواقعية: من خلال التأكيد على أن البوح سيكون تاما "لن أغفل أي شيئ ولن أحجب أي أمر"
متن الرواية:
يواصل الحاج منصور سرد حكايته فقد قضى شبابه عابثا بكل القيم الدينية والأخلاقية، وهذا ما جعله يشعر أن هذه المأساة الباطنية تستحق أن تبلغ إلى القارئ بالكلمات، فهو يريد أن يقدم طبيب نفسي أو في الكنائس (وكل حصص البوح كانت تتم داخل غرفة المكتب والسارد وحيد)، فهو يدرك خطاياه ويريد أن يشفى منها ويكفر عنها، لذلك يبحث عن مأوى في الكلمات قائلا" وإني أرجو الله العلي... أن يجعل من هذا العمل شفائي" بحثا عن راحة الضمير."
والكاتب مثلما يتوقع قارئا فضوليا، يتوقع قارئا ثائرا، لذلك يقوم بـ:
*تعرية منطق القارئ الثائر الذي قد يحاكم السارد ويوبخه لجرأته على المعصية من جهة وعلى الكشف عنها من جهة أخرى وهذا لاستمالته، من خلال الإصرار على الإكثار من استعمال بعض العبارات التي تثبت حدوث التوبة مثل "الله سبحانه وتعالى"، "غفر الله له"، "رحمهما الله"، "أمام الله العزيز القدير"...
*إثارة فضول المتلقي غير الثائر بـ:
- بموضعة زمن القصة ابتداء من زمن البلوغ إذ اعتمادا على ألغاز سابقة يصير ذلك حافزا على متابعة القراءة.
- واستمرار الحكي سريعا إلا حينما يتعلق الأمر بسرد المغامرات الغرامية.
- السفر عبر الزمن.
* إيهامه بواقعية الأحداث من خلال موضعتها ضمن علامات تاريخية، لمنحه نمطا مختلفا من الجاذبية أي واقعا أكثر غرابة وبشاعة مما يوجد في افلام الخيال العلمي والرعب.
خطاب ضاوية:
ويقوم بإيهام المتلقي بواقعية المسرود وصدق السرد السابق "لا شك أن الحاج كشف كل شيئ"فالمتوقع إذن من المتلقي هو:
*القيام بعمل المتحري بمطاردة الإشارات لنيل المعرفة.
*الانتباه لما يقال له، وتصديقه.
*التواطؤ مع الكاتب في إنتاج الدلالات حسب برنامجه.
أي أن الكاتب الضمني يريد من متلقيه تشكيل استجابة كتلك المتوقعة من متلقي القصص البولوسية وقصص المغامرات، وتتأكد الرغبة في ممارسة هذه الوصاية من خلال هوسه في اللجوء إلى التوضيح واستعمال أداة التفسير "أي" عبر النص كله، والكتابة بلغة تتميز بسهولتها، والكاتب يتعمد هذه السهولة التي توهم بالعامية كما في استعمال الفعل "يعيط" أو لفظة "الكونتوار" فهو لا يكلف المتلقي القيام بجهد أكبر من متابعة القراءة. وهو برنامج ظاهر غايته توسيع كفاءة المتلقي، وباطنها التحكم في قراءته، وهذا حتى حينما يظهر الكاتب مدعيا محاورة القارئ التائر، لأنه حوار حوار غرضه امتصاص ثورته.
السياق الثقافي: إن حضور التاريخ في النص الأدبي أو الفني عموما قد يتخذ عدة أوجه، -وقد حدد "بيارباربريس" (P. Barberis) أربع إمكانيات يتم عبرها التحاور بين الفني والتاريخي. وإذا كان هذا النص ينغرس في فترة تاريخية محددة، فإن قراءته للتاريخ لا تخضع لتصور محدد وواضح، وهذا ما يحرمنا إمكانية إدراك إيديولوجية الكاتب الضمني ورؤيته للعالم، وقد يكون ذلك إستراتيجية يتبناها ليجعل خطابه يؤدي وظيفة محددة هي تحرير القارئ من هيمنة إيديولوجية مبنية مسبقا في العمل ليكون بذلك كاتبا للتاريخ فحسب.
ومتن الرواية مجزأ إلى فصول، كل فصل فيه مقسم بدوره إلى قسمين – الماضي والحاضر- لذلك هو وحدة ذات أهمية مزدوجة، فهو يرتبط بالفصل الذي يليه في الزمان وفي المكان، لان الكاتب قد قام بعملية التجزيء على أساس الزمان والمكان، ولا يتم الانتقال من قسم إلى آخر بشكل مفاجئ بل بطريقة تبرز مابين الزمنين من مفارقات أو قواسم،وهذه الطريقة في التجزيء تذكرنا بلقطات الفيلم السينمائي، فكلاهما يخضع لمقاييس محددة متشابهة في عملية التقطيع هما مقياسا الزمان والمكان، وكلاهما تم فيه المونتاج خدمة لغايتين: جمالية، ودلالية. حتى أن تدخل الكاتب في البداية على لسان الناشر مرة ومن خلال توطئة الحاج منصور مرة أخرى تذكرنا بتدخل أحد المخرجين وهو ألفرد هيتشكوك لإغراء متلقيه بمتابعة مشاهدة أفلامه بإثارة فضولهم ومشاعر الخوف لديهم.
إنّ الكاتب يتوجه إلى متلقي شحذت هواياته وكفاءاته في التلقي الوسائل السمعية البصرية، وهي وسائل تعول في تسوق منتوجها الإعلامي أو الفني على:
*الإيهام بالواقعية فعالم السينما يقترب إلى حد كبير من ظاهر الحياة المرئي، وهذا ما يمنح للرواية وهم المصداقية الذي يعد أحد خصائص عالم السينما الأساسية فكما يقول ي. لوتمان "ليس عالم السينما إلا العالم الذي نراه مضافا إليه التجزؤ فهو عالم منقسم إلى قطع، لكل قطعة درجة من الاستقلال، تمتلك- نتيجة لها- قدرة على التجميعات المركبة لا تتاح لنا في العالم الحقيقي... وفي عالم السينما المجزأ إلى لقطات ثمة إمكانية للتركيز على أي جزئية، فللقطة السينمائية نوع من الحرية اللصيقة الصلة بالكلمة ومن ثمة يمكن عزلها وربطها بغيرها من اللقطات حسب الدلالة".
*الإثارة قامت جانيت موراي (Janet Murray) بدراسة حول الأفلام السينمائية وإعلاناتها الالكترونية وتوصلت إلى أنها تعتمد على ثلاثة مبادئ جمالية في شكل طعم أو غراء دعتها:
الغمر(Immersion ): وتعني به إحساس المتلقي بالمتعة نتيجة التحرك خارج عالمه المألوف.
- الوكالة (Agence): وهي القدرة على المساهمة في النص من خلال التحري الذي تتيحه البيئة الماغزة.
- التحول (Transformation): وهو القدرة على تغيير الهويات وتقمص عدة أدوار.
وإذا كانت الرواية لم تتعامل مع متلقيها بالمبدأ الثالث بشكل بارز، فالمبدآن والثاني واضح حضورهما.
وقد يكون الكاتب يتوقع متلقيا آخر هو المخرج السينمائي الذي سيمنح لروايته حياة أخرى من خلال إحدى الشاشتين الصغرى أو الكبرى. وهكذا فإن النص إذا نظرنا إليه كمجموعة من العلامات المتكاملة، يسمح لنا:
أولا: بتمييز بعض ملامح المتلقي الضمني، فهو قارئ عادي، معارفه اللغوية والتاريخية محدودة، هو فضولي، شكلت ذوقه وسائل الإعلام المعاصرة، تستهوية صور المغامرات الغرامية، يفضل المعرفة الجاهزة، والقراءة- في أدنى مستوياتها- في حد ذاتها بالنسبة إليه تمثل جهدا معتبرا.
ثانيا: أن نص "بوح الرجل القادم من الظلام" هو نموذج لنصوص الثقافة التي تتجه ناحية المتلقي، فالكاتب يراعي كل متطلبات المتلقي المحتمل، وكل ما هو منتظر منه هو متابعة القراءة للحصول على معرفة يفتقر إليها ثم تكوين رؤية خاصة به.
- تعددت المصطلحات الواصفة للقارئ (le lecteur : implicte, implique, coopérent, visé, modèle idèal, réel, historique… Archilecteur.)
- والمعرفة لوظيفته لأن كل نص يمنح لقرائه المحتملين دورا معينا (حسب أتباع مدرسة كونستانس، أو ريفارتير، أو السميائي أومبرتو إيكو)
- والباحثة في هويته.
وكما أن الشخصية في إطار السميائيات السردية بياض دلالي لا يكتمل إلا بنهاية العمل القصصي، فإن الأمر كذلك بالنسبة للمتلقي الضمني فهويته بياض يمتلأ بفعل القراءة، وعناصرها يبوح بها متن النص وما يحيط به من نصوص (Les paratextes)، فهو كالكاتب الضمني كيان خيالي ينتج عن آثار نصية، ف إيزر يبحث عنه في ظروف التلقي التي يمنحها النص لمتلقيه، فالكاتب- وهو يكتب- حتى وإن لم يشر إليه صراحة يضمن نصه برنامجا يسمح بل ويفرض على القارئ الفعلي بناء كاتب هو الآخر متضمن في النص الذي لا يفترض قارءه فحسب وإنما يبدعه أيضا، وهذا البرنامج يتحكم مباشرة في القراءة ويقترح على القارئ:
*الفعلي الكيفية التي ينبغي له أن يقرأ بها النص.
*التائر متى يختار القراءة مخالفا هذا البرنامج.
إشكالية النص/ القارئ:
لقد دخلت هذه القضية منذ الستينات- من القرن الماضي- في لب بحث جماعة الباحثين السميائيين "تارتو" التي استفادت من علوم كثيرة خاصة السميائيات اللغوية والسيبرنطيقا في دراستهم للآلية السميائية للثقافة باعتبارها الوعاء الشامل لجميع نواحي السلوك البشري فبناء على فهمها للثقافة دعت إلى دراسة النص الثقافي على ضوء: تحديد وضع النص وعلاقته بكل من الباث والمتلقي، إذ يمكن للنص كرسالة ثقافية أن تكون موجهة نحو المتلقي، كما قد تكون موجهة ناحية الباث، وهو أمر يتضح في أن "المخاطب- في الحالة الأولى- يكيف نفسه طبقا لنموذج المتلقي". وما يندمج من الذاكرة في قناة الاتصال بين الباث والمتلقي يسمح بتمييز أكبر قدر من سمات المتلقي الضمني للاقتراب من هوية المتلقي الفعلي، وذلك عبر الخصائص الجمالية التي تتطابق مع عصر وجيل وجماعة محددة.
وبما أن القارئ هو إنسان- ثقافة بكل ابعادها النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية- تشكل طريقته في القراءة والتلقي والاستجابة بالتالي فإن البحث في هويته وفي كيفية تلقية للنص، لا يمكن أن تتم إلا من خلال النقد الثقافي. وعلى هذا الأساس ستنبني دراستنا لنص "البوح" كنص ثقافي مكون من اتحاد عدة أنظمة سميائية دراستها تسمح بتحديد هوية المتلقي، ووظيفته. ولابد أن تكون هذه الدراسة تتويجا لدراسات سياقية تبدأ بالسياق البراغماتي/التداولي، بعدها السياق الاجتماعي، فالسياق الإدراكي، ثم السياق النفسي.
والمنطلق الأساسي في هذه القراءة هو التعامل مع الحقائق المتاحة للقارئ والتي بإمكانه إدراكها أثناء تعامله مع الرواية- أو ما يدعوه ميشال أوتن بمواضع اليقين- لتكون نقط تثبيت تتيح تأويل مواضع الشك أي المفترضات والمضمرات.
السياق التداولي:
إن اللغة في إطار الدراسات التداولية لا تتحقق إلا في إطار وضعية خطابية تبادلية ومقيدة بقيود خاصة، وبالتالي سيكون هدفنا في هذا الجزء من الدراسة هو معرفة الكيفية التي تحققت بها اللغة عند استعمالها في هذه الرواية، التي يمكن النظر إليها باعتبارها خطابا يتكون من سلسلة من أفعال الكلام Actes de langage ينطق بها الباث Locuteur السارد Narrateur
ويقوم بتركيبها، وهو إذ يفعل ذلك فإنه يقيم علاقة محددة بينه وبين متلقي الخطاب Allocutaire/ المسرود له Narrataire
كما أنه يطمح لأن يحدث تغييرا في حالته، أما المتلقي فإنه يقوم بتشخيص مضمون الخطاب وتحديد غرضه التداولي، ثم الاستجابة، أي أداء رد فعل مناسب، وكلها عناصر تسمح بتحديد هوية كل من الباث/ الكاتب الضمني والمتلقي/القارئ الضمني.
ونص هذه الرواية ينقسم إلى:
1- كلمة الناشر: يتوجه بها الكاتب الضمني على لسان ناشر وهمي إلى المتلقي الذي سيلاحظ حتما أن:
1-1-ملفوظ البيان هو الذي يسمها، وهو ملفوظ حالة يحيل إلى:
*المخطوط.
*وصاحبه (وهو راوي متن الرواية)
*وحامله (وهو إحدى شخصيات الرواية)
*وإشارة إلى أسباب نشره.
1-2- ملفوظ الوعد الذي ورد في معرض إبراز دافع الحاج منصور لكتابة مذكراته إذ "لم يؤلف كتابه الوحيد هذا لغرض النشر بل لغاية أخرى سيعرفها القارئ."
1-3- ملفوظ الممارسة إذ ثمة استباق للمتلقي غرضه نزع الشك لديه "وحل ما إذا كان ما ذكره الدكتور الحاج منصور قد وقع فعلا. أكد- على لسان الذي تفضل بأن يكون الواسطة بيننا- بأن الوقائع التي تسنى له أن يكون شاهدا فيها، قد تمت كما وصفها خاله، وما عدا ذلك، لا يستطيع أن يتصور أن يكون خاله قد حاد عن الحقيقة."
2- خطاب الحاج منصور والذي يتفرع بدوره إلى:
2-1- توطئة:
2-1-1- وملفوظ البيان هو الذي يسمها وهو يعرض من خلاله أسباب كتابة المذكرات.
2-1-2- إلى جانب ملفوظ الوعد الذي يلتزم فيه السارد أمام مسرود قائلا "وإنني... ألتزم ألا أغفل شيئا."
2-1-3- وملفوظ الممارسة: إذ
*بعد أن كشف السارد دافع كتابته لمذكراته يتبع ملفوظ البيان بملفوظ الممارسة، وغايته نفي ما قد يتوهمه القارئ من دوافع أخرى فيقول "قر عزمي على تأليف هذا الكتاب. لكن ليس سعيا وراء شهرة أو مكسب."
*وفي الأخير يوجه دعاء إلى الله قائلا "أرجو الله أن يوفقني وأن يجعل من هذا العمل شفائي... وأن يطفئ نار الفتنة بين المسلمين في بلدي.."
2-2- متن: وملفوظات البيان هو الذي يطغى فيها حيث يقوم السارد فيها برواية ذكرياته، ويتخللها أحيانا أثناء الحوار بعض ملفوظات الممارسة.
3- خطاب ضاوية كخاتمة:
3-1- هو الآخر يطغى فيه ملفوظ البيان الذي كشف عن النهاية التي لم يتمكن السارد السابق من روايتها بسبب موته.
3-2- وثمة ملفوظ ممارسة كان هدفه إقناع القارئ بواقعية المروي وتمامه " لا شك أن الحاج كشف كل شيء."
إن دراسة أفعال الكلام في هذه الخطابات تكشف أن الهدف منها هو نقل ذهن ومشاعر المتلقي الضمني من عالم الواقع إلى عالم الخيال عن طريق ملفوظات البيان éxpositifsوالتي تسمح له بالاندماج ضمن رؤية معينة للعالم هي رؤية الكاتب الضمني، فنجده قد عول على الكلام لإحداث تغيير هو نقل المتلقي من حالة جهل إلى حالة معرفة.
السياق الاجتماعي:
إن الوضعية الاجتماعية للباث هي التي تمنح لخطابه قوة الفعل، فثمة مواقف معينة خاصة أو عامة تسمح للملفوظ لأن يكون فعلا كلاميا، فكل راغب في تثبيت وضعية أو إحداث تحولفيها عبر الكلام يستند إلى سلطة اجتماعية تمنح لخطابه قوة الفعل، لأنها تفرض على المتلقي الاستجابة المناسبة.
ولكل موقف اجتماعي أفعال كلامية محددة ممكنة تلائمه، وهكذا فإن الخطاب يكتسب خصائص مميزة انطلاقا من ذلك، كما أن المتلقي يتأثر بهذا الخطاب إذا تعرض لموقف اجتماعي مماثل.
ونظرا لأهمية علاقة الفعل الكلامي بالموقف الاجتماعي، فإننا سنقوم في هذا القسم من الدراسة بتحديد الوضعيات الاجتماعية التي تمنح لخطاب الباثين/ الساردين قوة الفعل. إن نص البوح- كخطاب- تؤطره العلاقة التالية:
الباث: |
المتلقي: |
الناشر الوهمي. الحاج منصور. ضاوية
الكاتب الضمني.
|
المتلقي الضمني. |
إن كلا من هؤلاء الباثين يملك معرفة محددة يريد تبليغها، وجهل المتلقي لها هو ما يمنحهم السلطة، ولكنهم يدركون محدوديتها بما أنهم يتقاسمونها- أي السلطة- ومتلقي يدرك حاجته لهذه المعرفة، ولكنه يعي في الوقت ذاته امتلاكه سلطة:
*الامتناع عن القراءة،
*أومخالفة برنامج القراءة الذي وضعه الكاتب.
فثمة إذن موقف اتصالي يؤطره عقد اجتماعي بين:
الباث الذي يكتفي بملفوظات البيان لتقديم المعرفة، وملفوظي الوعد، والممارسة لحث المتلقي على متابعة القراءة لنيلها، وبين المتلقي الذي يتابع القراءة وفقا للبرنامج الذي وضعه الكاتب.
السياق الإدراكي:
إن نقل الوقائع وتقديمها في قالب لغوي شفاهي أو كتابي يتطلب هيئة تلفظية هي السارد، فالحكاية مادة خام طيعة قابلة لأن تصاغ بما لا حصر له من الأشكال التعبيرية، وهو يصوغها وفقا.
لرغبته وتمشيا والإستراتيجية المتبناة من قبله، أو كما يقول "تودوروف" فإن الأحداث التي "يتألف منها العالم التخيلي لا تقدم لنا أبدا في ذاتها بل... انطلاقا من وجهة نظر معينة"، فبدون السارد لا توجد رواية فهو الذي يختار نوع الخطاب، ويختار التتابع الزمني أو الانقلابات، بل إن تودوروف يعتبر فصله كليا عن الكاتب الفعلي خطأ*. وما أن نتعرف على السارد، حتى نضطر للبحث عن مرافقه أي المسرود له والذي "يمثل محطة بين السارد والقارئ ويساعد على تدقيق إطار السرد ويفيدنا في تمييز السارد ويبرز بعض الأغراض، ويجعل الحبكة تتقدم، ويصبح الناطق باسم العبرة من العمل". وهذا ما يجعل دراسة المسرود له لا تقل أهمية عن دراسة السارد، فلا يمكن معرفة تأثير النص على المتلقي الفعلي إذا لم يتم التعرف عليه. فكيف رسم سارد هذه الرواية عالمه؟ وما علاقته به؟
ما طبيعة المسرود له؟ وما علاقته بالسارد؟
تتضمن هذه الرواية أربعة ساردين داخليين هم: الكاتب الضمني، الناشر الوهمي، الحاج منصور نعمان، ضاوية، ونقصد بالكاتب الضمني الحالة العامة للسارد فـ "تودوروف" يميز بين السارد والكاتب الضمني قائلا: " لاحديث عن السارد إلا في حالة... التمثيل الصريح، ولا تخصص عبارة الكاتب الضمني إلا للحالة العامة". إن السارد كحالة خاصة هو الفاعل في عملية البناء التي وردت في ملفوظه، أما الكاتب الضمني فهو الفاعل الحقيقي في عملية البناء الكلية للنص، فكل ما أخفاه، أو كشف عنه الساردون هو الذي سمح به، وبالتالي فإن المعرفة الكلية التي يبرزها النص تدل عليه.
1- الناشر الوهمي (الكاتب الضمني المقنع): والذي يبدو من خلال كلمته واعيا بقطبي عملية التبليغ فهو الباث الذي يملك معرفة حول المخطوط لذلك يتكفل بتبليغها للمتلقي الذي يجهلها والذي هو بحاجة إليها لإدراك ما هو متوقع منه أي القراءة وفقا للبرنامج الذي وضعه.
2- الحاج منصور نعمان: وهو سارد داخل حكائي، يسرد مستعملا ضمير المتكلم، وسرده مجزأ إلى فصول مرقمة ومنظمة زمنيا وهي مجزأة إلى قسمين (فيما عدا الفصل21) على النحو التالي:
* الجزء الأول من الفصل ينطلق فيه القص من أحداث الماضي البعيد (منذ سن البلوغ) باتجاه أحداث الحاضر (بداية تصعيد الحركة الاسلامية المسلحة).
* والجزء الثاني من الحاضر باتجاه أحداث الماضي القريب (سنوات الجمر كما يدعوها السارد).
وهكذا يلاحق الماضي الحاضر إلى أن يلتقي بع في الخاتمة.
وهو يقدم نوعين من المعرفة:
2-1-المعرفة الموضوعية (عن المدرك) وفيها يمتد زمن الأحداث من السنوات الأولى للحرب التحريرية ليتوقف عند ما يدعوه السارد بسنوات الجمر أي منتصف التسعينات وهي تحيل إلى الوضع الأمني لجزائرما قبل الاستقلال- الحواجز، التفتيش، انفجارات القنابل-، وجزائر ما بعده- الحواجز المزيفة، انفجارات القنابل، اغتيال الفنانين-
ويتوقف السارد في تصويره لهذه الأوضاع عند تفاصيل ومحطات تبرز الكثير من المفارقات كمسألة خروج المرأة إلى "الحمام" مثلا، إلا أن عملية الانتقاء والحذف هذه التي كان من المفروض أن تمنح القارئ رؤية واضحة هي تفرض عليه التساؤل حول غاية السارد في كونه يتتبع تصوير الوضع الأمني/السياسي: الحرب التحريرية، فتنة ما بعد الاستقلال، انقلاب سنة 1965، أحداث أكتوبر1988، غغتيال الرئيس بوضياف، سنوات الجمر، والسرد سريع إلا حينما يتعلق الأمر بتصوير بشاعة الجرائم التي كانت ترتكب- ذبح الأطفال والشيوخ، الرؤوس المفصولة، جرحى وقتلى الانفجارات،...
- وما ترتب عن ذلك من رعب ومحاكمات من طرف الأمن مرة ومن جهة أعضاء الجماعات المسلحة مرة أخرى فإن التصوير يصير بطيئا،
* ليمنح القارئ صورة أخرى عن الفترة الاستعمارية أقل بشاعة؟ (تصحيح التاريخ)
* أم ليقول له أن تاريخ الجزائر كله دموي فما حدث في التسعينات ما هو إلا حلقة من حلقاته؟ (تفسير التاريخ)
* أم ليفهمه أن الاستقلال لم يحل جميع المشاكل؟ (تفسير التاريخ)
* أم ليترك قراءته حرة؟ (كتابة التاريخ)
2-2- الذاتية (عن المدرك) وتحيل إلى مختلف العلاقات الغرامية التي عاشها السارد منذ سن بلوغه مع نصيرة، خالتي وردية،مسعودة المطلقة، زكية،... والسرد يسير سريعا إلا حينما يتعلق الأمر بتصوير حميمية هذه العلاقات فالسارد يقوم بالتبئير على التفاصيل ليصير السرد بطيئا يذكرنا بالتصوير السنيمائي للعلاقات الغرامية، مما يجعل القارئ بعد ذلك يتوقع مثل هذه الصور بظهور كل اسم علم مؤنث جديد في السرد.
وإذا كان السرد العام في النص يخبرنا عن المدرك الذي هو السارد فإنه يخبرنا أكثر عن المدرك أي الوقائع الموضوعية، فالرواية تسرد مغامرات وانهزامات فرد معزول مما يوهم المتلقي بأنه بصدد قراءة أوتوبيوغرافيا، ولكنه فرد سحقته حمي التاريخ، والكاتب منذ الغلاف قد أكد له أن الأمر متعلق بنوع أدبي مختلف تماما هو الرواية، وهذا ما قد يوقعه في الألباس وتصور أنها رواية تاريخية.
2-3- ضاوية والهدف من سردها هو إتمام حكاية الحاج منصور، وهنا يفقد هذا النص طابع الاعترافات ليكتسب صفة الرواية.
2-4- الكاتب الضمني: وهو يختلف عن الكاتب الفعلي فهو شخصية متخيلة أو كائن من ورق شأنه في ذلك شأن بقية الشخصيات، ومع ذلك فإنه يتميز عن باقي الشخصيات بكونه وسيلة المؤلف لتمرير خطابه الإيديولوجين فهو شخصية "يتوسل بها المؤلف وهو يؤسس عالمه الحكائي لتنوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابه الغيديولوجي، وايضا ممارسة لعبة الإيهام بواقعية ما يروي".
وبالفعل فدوره كان دور الشاهد على صحة وقوع أحداث الرواية، كما يبدو لنا الكاتب الضمني من خلال منح الكلمة لعدة ساردين حريصا على تقديم صورة مجسمة (Sterioscopique) عما في تاريخ الجزائر من مفارقات، كتلك التي ظهرت من خلال إبراز مصير الحاج منصور، فقد اغتالته الجماعات المسلحة بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. أما المسرود له/ المتلقي الضمني فالمطلوب منه أن يكون متحريا يتابع القراءة لا لتصحيح معرفته وإنما لاستكمالها، ليتحول إلى كائن عارف.
السياق النفسي:
إننا في هذه المرحلة من الدراسة سيكون هدفنا هو تحديد الوسائط التي أراد السارد أن ينفذ عبرها إلى مشاعر المتلقي لإحداث مفعول نفسي فيه، وهذا يعني معرفة الجوانب النصية التي من شأنها إحداث مضاعفات اجتماعية، فثمة خصائص نصية مرتبطة بتحقيق هدف تغيير، أو تثبيت مواقف وآراء ومعارف معينة لدى المتلقي، ولاستنباطها لابد من تحرير النص، للتمكن من قراءة ما فيه من تلميحات وإيحاءات دلالية...
والكاتب الضمني يستقطب اهتمام متلقية ببرنامج يبدأ بالتحقق منذ:
العنوان:
الذي يتشكل من كلمات هي أقرب إلى الألغاز:
*بوح: والبوح هو خرق لمنع الكشف عما ينبغي أن يظل في السر.
*رجل:المعروف ثقافيا هو صعوبة الكلام والبوح عند الرجل، وفعله مثير للفضول.
*قادم: والقدوم يوحي بالمجهول سواء ارتبط بالمكان أم بالزمان.
*من الظلام: أهو ظلام الزمان أم المكان، الحقيقة أم المجاز؟
كلمة الناشر:
*لا يقدم الناشر لهذه الكلمة بما يناسبها من عنوان إنما الشروع في قراءتها هو ما يوهم بذلك.
*وهو يموضع تاريخ النشر في سنة2015، وإذا علمنا أن سنة النشر الفعلية للرواية هي 2002 فإن ذلك يذكرنا بقصص وأفلام الخيال العلمي التي تموضع أحداثها في المستقبل، وهذا ما يؤدي إلى خلق حالة إبهام في ذهن المتلقي فهل هو بصدد قراءة اعترافات، أم رواية تاريخية/ واقعية أم رواية استباق الأحداث Roman d’anticipation.
فالكاتب الضمني المتخفي يفاجئه، ويثير فضوله لمتابعة القراءة، بعد أن أكد له أن:
*الشهادة متعلقة بالوقائع الموضوعية التي شهدها كل من الحاج منصور والفنان الأصم
*وذكر له أسماء بعض الشخصيات وامتنع عن ذكر أسماء البعض الآخر.
لإيهامه بالواقعية والسرية.
التوطئة:
يستلم سارد آخر هو الحاج منصور المتلقي ليخضعه إلى برنامجي:
إثارة الفضول: من خلال إقناعه أنه:
*يكتب باسم مستعار "كل ما سأذكره صدق... إلا فيما يتعلق باسمي"
*استجاب للشيطان وخجل من نفسه وما اقترفت لدرجة التقزز"إبليس يسكن جوانحي ويضلل سبيلي"، "الخجل من نفسي ومن حياتي الماضية"
*يعتذر له على ما قد يصدمه لأنه "لا حياء في الدين"
الإيهام بالواقعية: من خلال التأكيد على أن البوح سيكون تاما "لن أغفل أي شيئ ولن أحجب أي أمر"
متن الرواية:
يواصل الحاج منصور سرد حكايته فقد قضى شبابه عابثا بكل القيم الدينية والأخلاقية، وهذا ما جعله يشعر أن هذه المأساة الباطنية تستحق أن تبلغ إلى القارئ بالكلمات، فهو يريد أن يقدم اعترافاته أمام القارئ كتلك الاعترافات التي تجري في حضرة طبيب نفسي أو في الكنائس (وكل حصص البوح كانت تتم داخل غرفة المكتب والسارد وحيد)، فهو يدرك خطاياه ويريد أن يشفى منها ويكفر عنها، لذلك يبحث عن مأوى في الكلمات قائلا" وإني أرجو الله العلي... أن يجعل من هذا العمل شفائي". "بحثا عن راحة الضمير"
والكاتب مثلما يتوقع قارئا فضوليا، يتوقع قارئا ثائرا، لذلك يقوم ب:
*تعرية منطق القارئ التائر الذي يحاكم السارد ويوبخه لجرأته على المعصية من جهة وعلى الكشف عنها من جهة أخرى وهذا لاستمالته، من خلال الإصرار على الإكثار من استعمال بعض العبارات التي تثبت حدوث التوبة مثل "الله سبحانه بعض العبارات التي تثبث حدوث التوبة مثل "الله سبحانه وتعالى"، "غفر الله له"، "رحمهما الله"، "أمام الله العزيز القدير"...
*إثارة فضول المتلقي غير الثائر بـ:
- بموضعه زمن القصة ابتداء من زمن البلوغ إذا اعتمادا على ألغاز سابقة يصير ذلك حافزا على متابعة القراءة.
- واستمرار الحكي سريعا إلا حينما يتعلق الأمر بسرد المغارات الغرامية.
- السفر عبر الزمن.
* إيهامه بواقعية الأحداث من خلال موضعتها ضمن علامات تاريخية، لمنحه نمطا مختلفا من الجاذبية أي واقعا أكثر غرابة وبشاعة مما يوجد في أفلام الخيال العلمي والرعب.
خطاب ضاوية: ويقوم بإيهام المتلقي بواقعية المسرود وصدق السرد السابق "لا شك أن الحاج كشف كل شيئ" فالمتوقع إذن من المتلقي هو:
الإشارات لنيل المعرفة. القيام بعمل المتحري بمطاردة *يقال له، وتصديقه. الانتباه لما*
* التولطؤ مع الكاتب في إنتاج الدلالات حسب برنامجه. أي أن الكاتب الضمني يريد من متلقية تشكيل استجابة كتلك المتوقعة من متلقي القصص البوليسية وقصص المغامرات، وتتأكد الرغبة في ممارسة هذه الوصاية من خلال هوسه في اللجوء إلى التوضيح واستعمال أداة التفسير "أي" عبر النص كله، والكتابة بلغة تتميز بسهولتها، والكاتب يتعمد هذه السهولة التي توهم بالعامية كما في استعمال الفعل "يعيط" أو لفظة "الكونتوار" فهو لا يكلف المتلقي القيام بجهد أكبر من متابعة القراءة. وهو برنامج ظاهر غايته توسيع كفاءة المتلقي، وباطنها التحكم في قراءته، وهذا حتى حينما يظهر الكاتب مدعيا محاورة القارئ التائر، لأنه حوار غرضه امتصاص ثورته.
السياق الثقافي:
إن حضور التاريخ في النص الأدبي أو الفني عموما قد يتخذ عدة أوجه، -وقد حدد "بيارباربريس" (P. Barberis) أربع إمكانيات يتم عبرها التحاور بين الفني والتاريخي. وإذا كان هذا النص ينغرس في فترة تاريخية محددة، فإن قراءته للتاريخ لا تخضع لتصور محدد وواضح، وهذا ما يحرمنا إمكانية إدراك إيديولوجية الكاتب الضمني ورؤيته للعالم، وقد يكون ذلك إستراتيجية يتبناها ليجعل خطابه يؤدي وظيفة محددة هي تحرير القارئ من هيمنة إيديولوجية مبنية مسبقا في العمل ليكون هذا العمل المنطلق لتكوين إيديولوجية خاصة به، و يكون بذلك كاتبا للتاريخ فحسب.
ومتن الرواية مجزأ إلى فصول، كل فصل فيه مقسم بدوره إلى قسمين- الماضي والحاضر- لذلك هو وحدة ذات أهمية مزدوجة، فهو يرتبط بالفصل الذي يليه في الزمان وفي المكان، لأن الكاتب قد قام بعملية التجزيء على أساس الزمان والمكان، ولا يتم الانتقال من قسم إلى آخر بشكل مفاجئ بل بطريقة تبرز ما بين الزمنين من مفارقات أو قواسم، وهذه الطريقة في التجزيء تذكرنا بلقطات الفيلم السينمائي، فكلاهما يخضع لمقاييس محددة متشابهة في عملية التقطيع هما مقياسا الزمان والمكان، وكلاهما تم فيه المونتاج خدمة لغايتين: جمالية، ودلالية. حتى أن تدخل الكاتب في البداية على لسان الناشر مرة ومن خلال توطئة الحاج منصور مرة أخرى تذكرنا بتدخل أحد المخرجين وهو ألفرد هيتشكوك لإغراء متلقيه بمتابعة مشاهدة أفلامه بإثارة فضولهم ومشاعر الخوف لديهم.
إن الكاتب يتوجه إلى متلقي شحذت هواياته وكفاءاته في التلقي الوسائل السمعية البصرية، وهي وسائل تعول في تسويق منتوجها الإعلامي أو الفني على:
*الإيهام بالواقعية فعالم السينما يقترب إلى حد كبير من ظاهر الحياة المرئي، وهذا ما يمنح للرواية وهم المصداقية الذي يعد أحد خصائص عالم السينما الأساسية فكما يقول ي .لوتمان" ليس عالم السينما إلا العالم الذي نراه مضافا إليه التجزؤ فهو عالم منقسم إلى قطع، لكل قطعة درجة من الاستقلال، تمتلك- نتيجة لها- قدرة على التجميعات المركبة لا تتاح لنا في العالم الحقيقي... وفي عالم السينما المجزأ إلى لقطات ثمة إمكانية للتركيز على أي جزئية، فللقطة السينمائية نوع من الحرية اللصيقة الصلة بالكلمة ومن ثمة يمكن عزلها وربطها بغيرها من اللقطات حسب الدلالة".
* الإثارة قامت جانيت موراي (Janet Murray) بدراسة حول الأفلام السينمائية وإعلاناتها الالكترونية وتوصلت إلى أنها تعتمد على ثلاثة مبادئ جمالية في شكل طعم أو إغراء دعتها:
- الغمر(Immersion): وتعني به إحساس المتلقي بالمتعة نتيجة التحرك خارج عالمه المألوف.
- الوكالة (Agence): وهي القدرة على المساهمة في النص من خلال التحري الذي تتيحه البيئة الملغزة.
- التحول(Transformation): وهو القدرة على تغيير الهويات وتقمص عدة أدوار.
وإذا كانت الرواية لم تتعامل مع متلقيها بالمبدأ الثالث بشكل بارز، فالمبدأ الأول والثاني واضح حضورهما.
وقد يكون الكاتب يتوقع متلقيا آخر هو المخرج السينمائي الذي سيمنح لروايته حياة أخرى من خلال إحدى الشاشتين الصغرى أو الكبرى. وهكذا فإن النص إذا نظرنا إليه كمجموعة من العلامات المتكاملة، يسمح لنا:
أولا: بتمييز بعض ملامح المتلقي الضمني، فهو قارئ عادي، معارفه اللغوية والتاريخية محدودة، هو فضولي، شكلت ذوقه وسائل الإعلام الجاهزة، والقراءة- في أدنى مستوياتها- في حد ذاتها بالنسبة إليه تمثل جهدا معتبرا.
ثانيا: أن نص "بوح الرجل القادم من الظلام" هو نموذج لنصوص الثقافة التي تتجه ناحية المتلقي، فالكاتب يراعي كل متطلبات المتلقي المحتمل، وكل ما هو منتظر منه هو متابعة القراءة للحصول على معرفة يفتقر إليها ثم تكوين رؤية خاصة به.
مدرسة نقدية تأسست في ألمانيا واشتهرت ببحوثها في جماليات التلقي، اعتمدت في دراساتها على أبحاث فولفجانج إيز( (wolfgang Iser)خاصة كتابة: فعل القراءة (Der Akt des lesens)) H.R. Jauss ومن مؤسسيها: "هانس روبرت جويس" )
لمعرفة المزيد حول جماليات التلقي أنظر: Jauss H-R. Pour une esthétique de la réception Eco Umberto. Lector in fabula ou la coopération interprétative dans les textes narratifs.
يدعو ميشال أوتن M.Otten ميثاق القراءة.
المرجع نفسه، ص164.
ليصير النقد الأدبي جزءا من سياق أشمل وأوسع هو الفضاء الثقافي العام
حسب تقسيم أوستين. ولمعرفة المزيد أنظر كتاب : Ed. du Seuil, 1970., J.L.Austin, Quand dire, c’est faire :
ابراهيم سعدي، بوح الرجل القادم من الظلام، منشورات الاختلاف، ط1الجزائر 2002، ص5.
م ن، ص6.
- م س، ص10.
- م س، ص10
- م س، ص10
م س، ص328
ترفيتان تودوروف، الشعرية، ص50
* م ن، ص57.
م س، ص58
م ن، ص56.
عبد العالي بوطيب، مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الائتلاف والاختلاف، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد98-99، بيروت-لبنان، سنة 1992، ص98.
قد حدد"فان ديجك" ثلاثة مبادئ* فعالة تضمن تكوين أو تغيير المعرفة، وهي: الوظيفية، الانسجام المعرفي، التماهي الاجتماعي والشخصي. ولمعرفة المزيد أنظر:
ابراهيم سعدي، بوح الرجل القادم من الظلال، ص9
م ن، ص9
م ن، ص10
م ن، ص10
م ن، ص10
م ن، ص10
م ن ، ص328
م ن ص5، 6، 12، 15...336
C.Achour et S. Rezzoug, Convergences critiques, Introduction à la lecture du littéraire, O.P.U, Alger 1990, P268.
أنظر مثلا الفصلين رقم 6’4’...
يوري لوتمان، سميوطيقا السينما، ترجمة نصر حامد أبو زيد، مدخل إلى السيميوطيقا مقالات مترجمة ودراسات، الجزء الثاني، ط2، دار قرطبة المغرب، ص112.
أنظر مشروع ساحرة بلير بين السينما والأنترنيت، ج ب تيلوت، ترجمة عيسى صيودة، الثقافة العالمية، ملف النقد السنيمائي: منظور عالمي، الكويت ع109، ديسمبر، ص 182-183
يدعوه ميشال أوتن M. Ottenميثاق القراءة.
المرجع نفسه، ص164.
ليصير النقد الأدبي جزءا من سياق أشمل وأوسع هو الفضاء الثقافي العام
حسب تقسيم أوستين. ولمعرفة المزيد أنظر كتابEd. Du, J.L.Austin, Quand dire, c’est faireM Seuil, 1970.
ابراهيم سعدي، بوح الرجل القادم من الظلام، منشورات الاختلاف، ط1 الجزائر 2002، ص5.
م ن، ص6.
م س، ص10
م س، ص10
م س، ص10
م س، ص328
تزفيتان تودوروف، الشعرية، ص50
* م ن، ص57.
م س، ص58.
م ن، ص56.
عبد العالي بوطيب، مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي بين الائتلاف والاختلاف، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 98-99، بيروت- لبنان، سنة 1992، ص98.
قد حدد "فان ديجك" ثلاثة مبادئ* فعالة تضمن تكوين أو تغيير المعرفة، وهي: الوظيفية، الانسجام المعرفي، التماهي الاجتماعي والشخصي. ولمعرفة المزيد أنظر:
ت.أ. فان ديجك، النص: بناه ووظائفه، مقدمة أولية لعلم النص، ترجمة جورج أبي صالح ، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، العدد5، شتاء 1989، ص60-77.
ابراهيم سعدي، بوح الرجل القادم من الظلام، ص9
م ن، ص9
م ن، ص10
م ن، ص10
م ن، ص10
م ن، ص10
م ن ص328
م ن ص 5،6،12،15...336
C. Achour et S. Rezzoug, Convergences critiques, Introduction à la lecture du littéraire, O.P.U, Alger 1990, P268.
أنظر مثلا الفصلين رقم 6،4،..
يوري لوتمان، سميوطيقا السينما، ترجمة نصر حامد أبو زيد، مدخل إلى السيميوطيقا مقالات مترجمة ودراسات، الجزء الثاني، ط2، دار قرطبة المغرب، ص112
أنظر مشروع ساحرة بلير بين السينما والأنترنيت، ج ب تيلوت، ترجمة عيسى صيودة، الثقافة العالمية، ملف النقد السنيمائي: منظور عالمي، الكويت ع109، ديسمبر2001، ص182-183