الكتابة على الأطلال يوسف أبو رية

جدار أول:
ماذا ينظر من ولد هو آخر العنقود في أسرته؟ وماذا يمكن أن ينتظر من هذا المولود بفارق في العمر وبينه وبين ابيه يبلغ الستين عاما؟
وماذا- أخيرا- نتوقع من صبي يعيش في مركز دائرة تتشكل من كهول
جدار أول:
ماذا ينظر من ولد هو آخر العنقود في أسرته؟ وماذا يمكن أن ينتظر من هذا المولود بفارق في العمر وبينه وبين ابيه يبلغ الستين عاما؟
وماذا- أخيرا- نتوقع من صبي يعيش في مركز دائرة تتشكل من كهول
وشيوخ وعجائز، لا عمل لهم غير القص عن حياة بعيدة لها اكتمالها، وختامها المحتوم.
فيض من الحكايات القديمة، لأناس عاشوا في حياته عمرهم القصير، ثم سرعان ما ودعهم الواحد اثرى الآخر، فما أن ينتهي من حمل نعش حتى يتهيأ للمسير في رحلة جنائزية، فصار للموت حضور باذج ، اعتاده، وجعل منه- في قصصه التي سيكتبها- قرينا للحياة.
عالم لا ينتهي من حكايات الموتى، عن حياتهم التي تسبق شهقة الروح، فلم يعد يفرق بين ما رددوه في لياليهم المضاءة بنور مصباح، لا يأكد الوجوه المطموسة بقدر ما يجعل من ظلالهم الممتدة أشباحا لعالم سحري، غامض.
كيف يمسك بحياتهم المحدودة التي مرت على أيامه بومض شاحب؟ وكيف يوصل من قطع من حكاياتهم؟
حكايات الراحلين، يقبض على روغانها العنيد ليتواصل معها آخرون سوف يرحلون ذات يوم. العوالم الغامضة لهؤلاء الراحلين اتخذت لنفسها حياة خاصة، تتوازى مع الواقعي، بل، ربما، أصبحت هي الواقعي نفسه، فلم يعد يميز بين العالمين، فقد تداخلا، وتبادلا كل منهما موقع الآخر، حتى شكلا كل، لا انفصام له، فانغلق على نفسه، وقطع الصلة بدبيب الحياة المتغيرة من حوله، تدخل خلوته، يحاورهم، وينصت إليهم. هنا الحقيقي والجوهري، أما ما يراه عبر نافذته التي تأتيه بالضوء، وأصوات البشر فهو هامش، ومؤقت.
العزلة صارت قدرا، لا فكاك منه.
وأضاف هذا الولد في سنيه الأولى غلى أمواته الذين ضموه في أحضانهم حين كان الدم يجري في عروقهم- أمواتا آخرين، سجلوا حياتهم على الورق، في فكرة، في قصة، في قصيدة، في واقعة تاريخية، وهنا كان عقله يخلط بين ما ترويه الصفحات المكتوبة، وما سجلته ذاكرته البكر من حديث الأسلاف، ولا يتجاوز حين يؤكد أن هذه الصفحات المكتوبة لم تفعل في نفسه أكثر من أشغال الذاكرة كلما خمدت.
النافدة، وحكايات الأولين، والصفحات المكتوبة.. دنيا من الأشباح تمر على عينيه، وتتقلب كائنتها الطيفية في عقل صغير، يتلمس طريقا للخلاص.
فماذا يفعل في عزلته؟
والعزلة أكدت العجز عن التواصل مع الأحياء.
يتصل مع الحي حين يحيله إلى وهم، يصوغه على طريقته، وبمزاجه الخاص، وان لم يكن، يقع الصدام، والفراق. حياة من المثال، ودنيا كهفية كاملة، تنازعه نفسه في الخروج، فلا يستطيع.
فكان لابد من تبرير العزلة..
كانت الكتابة هنا كما يستشهد بسارتر "حاجة لتبرير الوجود، جعلت الأدب مطلقا".
فنبش كلمة من هنا، وكلمة من هناك، مستعينا بأصوات شفاهية من حكايات السلف، ومتكأ على صياغات لغوية من موروث الكتابة، كتابة الأجداد طبعا.
- لا .. ليس هذا صوتي.
انتبه لهذه الحقيقة مبكرا..
- كيف أقتلع من حنجرتي الصامتة سيماء صوتي؟
- هذه مجاهدة أخرى، لا تمام لها إلا باكتشاف القانون العام لفعل الشفاهي، كما لفعل المكتوب.
ومن العام يستنبط الخاص.
الفناء.. الفناء.. في جلال الكلمة، وما الله سوى كلمة، أدنو من العرش لتحترق بنارها حين تقبس منها قبس.
ودنا، ووقع اليجلي، وانكشف المستور.
فيالها من رحلة.
منحته الأصوات الأولية، كما منحته اللغة بعضا من سرها المكنون.
قالت: كن نفسك.
- كيف؟
- لك دنيا لم يعشها سواك، فأمسك بها.
وأنت في سعيك إلى المطلق لا تغادر النسبي، لأنك محدود بزمان ومكان.
وكانت القصة الأولى، ثم الثانية، فالثالثة.
وانطلقت العين الناقدة تتحدث عن قصص القرى، والريف. تواطأ عن حين، ثم طال الصمت، وكان لابد من كشف الحقيقة بينه وبين نفسه أولا.
- هل ما أكتب ينتمي إلى الريف حقا؟
كيف وهو ابن مدينة صغيرة تتجاوز الريف غلى الحضر، وإن لم تبلغ منتهاه؟
إنه ليس قرويا صرفا، وليس حضريا بالقدر الكافي. هذا عن النشأة، وهذا عن الشخصيات التي أطلت من عماله الفني.
إذا هناك عجز ما، أو لم يكن صادقا بالقدر المطلوب، هل تسربت إليه أصوات الآخرين دون وعي منه؟ لا أظن.
لأنه تخلص من النصوص التي أشتم فيها أنفه رائحة الآخرين، ولم يخرج على الناس إلا بنصوص تنتمي غليه بقدر معقول.
إذا القصة القصيرة قمقم تضيق به الشخصية التي تطالب رحابة الحياة.
فكانت الرواية، روايته الأولى.
لا ينكر أنه صحب بعضا من شخصياته السابقة ليبرز ملاحمها تحت مصابيح الشوارع المنيرة، فساروا معه بين دروب هذه المدينة الصغيرة، داسوا على إسفلت طرقها، وتطلعوا إلى عمائرها العالية، وعبروا معه مزلقان السكة الحديد، وسافروا معه في السيارة، كما في القطار، إلى مدن أخرى، منها عاصمة الإقليم وعاصمة البلاد ذاتها، وعادوا برفقته ليصعدوا سلالم حجرية لمنازل حجرية، وشاهدوا التلفزيون في غرفهم، وفي الصباح لحق بهم في جلسات المحاكم، وقضي بعض مصالحهم في البنوك، ثم أخيرا رحل بعضهم إلى القرية التي تنأى قليلا عن هذه المدينة الصغيرة، والتي كان - من قبل- أرض الإلهام، ومانحه الوهم.
هنا صار النقد جديرا بأن ينسب إليه كتابة المدن الصغيرة، وهي قليلة، بل نادرة في أدبنا، ففي تاريخنا الحديث لم تتجاوز الكتابة غير محورين أساسيين: كتابة المدينة- العاصمة، سواء من شوارعها الخلفية، أو الأمامية. وكتابة الريف بمعناه التقليدي.
وتأكد للبض أن لهذه المدن الصغيرة مذاقا خاصا، لأنها تتسم بصراعات لا تتوافر في الحالتين المكتوبتين سلفا. على أرض هذه المدن يتصارع العنصران معا، ما هو مدني، وما هو قروي، وهي تحتوي الإثنين ولا تخلص لأحدهما. وهنا براعة الالتقاط فهذه المدن التي كانت تضم حانة الخواجة، وبرصة الأجنبي، هي نفسها التي تورد الأنفار للعمل في داير الناحية، هي يشقها شارع تجاري واحد لا تحرم فيه من شيء، هي التي تسمق فيها العمائر على الطرز الحديثة كما تحتضن البيوت الطينية منزوعة الأحقاد، هي التي تقوم على مصنع صغير، ربما يعمل في حلج القطن، أو ما شابه، ويذهب عمالها إليه في سراويل، وسترات، وهم يعتمرون طواقي الفلاحين الصوفية وتضم الورش الصغيرة، يتزيا صاحبها وعاملها بنفس الزي، وتراه يرتدي السترة فوق الصديري
هل أفلحت (عطش الصبار) روايتي الأولى في الإمساك بخصوصية هذه الحياة؟ هو لا يدري.
كل ما يخصه في الأمر أنه لم يرتوي بعد وخرج منها رغم ازدحامها بالناس، والمواقف المتشابكة بين عائلة لها فروع كثيرة، كما أن لها أسماء متشابهة، ومعادة، وهذا أيضا من الموروث العائلي الريفي، المجاملة بالأسماء.
كان يضن في حينها أنها قضت عليه تماما، وعاد مرة أخرى إلى القصة القصيرة، وعاوده الحنين إلى غرفته المغلقة، واستحضر أرواح الراحلين، واستخراج من بطون الكتب وجوها كثيرة، وكانت نافذته تنداح على الجانبين فيتضاعف نورها وتجعل ملامح الأحياء أكثر وضوحا.
هذا المكان يلح عليه كثيرا... لماذا؟
سيضل الراحل دوما في مراوحة أكثر جرأة ما بين العاصمة ومدينته الصغيرة، ويتسع الزمان، فيمتظي دراجته ويقطع رحلة تمتد من العام الثامن والتسعين من القرن قبل الماضي، حتى العام الواحد والثمانين من القرن الماضي، وينفض عن نفسه الزحام، ويستخلص من الوجوه الكثيرة وجهين أساسيين، هما وجه الأب، ووجه الأم، ليقول للمكان وداعا، إلى غير رجعة.
يبدو أن البكاء على الأطلال حرفته الأزلية.
كيف الخلاص من الموتى؟ ومن المكان الذي يهرب منه؟
سيسلم أمره، ولن يشغل ذهنه بقضايا فكرية جامدة، هذه هي الدنيا التي يعرفها جيدا، وهؤلاء البشر هم الأقرب إلى جلده، من أي بشر يقيم بينهم، سيضل ينصت إليهم حتى يفرغوا ما في جعبتهم، أو حتى يعجز عن تحقيق رغائبهم.
هو آداتهم في التعريف بهم، في تثبيتهم في لوحة الوجود، هم قدرهم، وكأنهم وجدوا في حياتهم الأولى بغرض الإملاء عليه، هو مشلول الإرادة تجاههم، لا يملك غير تسجيل أقوالهم.
وكانت (الجزيرة البيضاء) رواية الثانية مقاطع مرهقة من الزمان والمكان عبر حياتين متداخلتين، ومفارقتين أيضا. حياتان وموتان، لا يفرق بينهما غير شهور خمسة.
عشق كامن، خفي، ليس من حق البشر الاطلاع عليه، لأنه يخصهما وحدهما، وغدا استعملت عين الأديب الفاحصة في الكشف عنه يزجر أنك بقوة، فأنت هاتك للسر، ويخشى منك، فلا جدوى من ممارسة خبثك الذي يزعج البعض، أن ترى ولا ترى. شاهد لنفسك، وعلى الكتابة مهمة الكشف، فلا ينسب إليك، إنما ينسب لهذه الملعونة تاريخيا، صاحبة الماضي الطويل في الإزاحة والفضح.
فهل أفلحت في اماطة السر؟ هل أفلحت في أن تقول للمكان: وداعا.
أنها هدنة إلى حين..بينما يسجل هذه الكلمات فاجأته المعركة، واحتدمت الهدنة لم تطل كثيرا، فقد عاوده المكان في عمل أسماه (تل الهوى). وعمل آخر أسماه (ليلة عرس).
هذه المرة الاحتفاء بالبشر أكثر منه الاحتفاء بالمكان.
ها هو يعود إليه في نص جديد. لا تنزعج فما المكان غلا جماعة من الناس. يضفي عليهم بقدر ما يضفونهم عليه، لا تضن أن هناك انقطاعا ما بين المكان وكائناته التي تعيد تشكيله من وقت إلى آخر.
فلمكان ليس الجغرافية فحسب.
المكان هو موروث الحكي، شفاهة، وكتابة.
- جدار ثان:
الزمن، دورة الكوكب، فلكيا. عمر الانسان بيولوجيا. طبقات الأرض جيولوجيا، تاريخ الوعي المكتوب أنثروبولوجيا. الزمن تثبيت اللحظة بالنقش على الحجر، أو بالكتابة، والكتابة رسم أو حرف.
ونحن فصيل ينتمي للصنف الأخير..
التسجيل بالحرف، ولكن، تسجيل ماذا؟
انفلات الطفولة، وهلاك الأخرين، وانقراض القرى، وفوات الذكريات.
ما الفرق هنا، بين فعل الكاتب، وفعل المؤرخ؟
تسجيل المؤرخ بلا مشاعر، ربما. بلا روح، ربما. تسجيل المسافة لا يعتمد غير الرصد المحايد.
أما الكاتب، أما نحن، فاننا نسجل الآلام والأفراح، ونتأثر بفعل الآخرين فينا، مع ادراك ما فات وما ولى.
وأنا أنتمي لسلالة لم تنشغل بشيء قدر انشغالها بالزمن، هؤلاء الفراعين الذين مهدت لهم الطبيعة (جرانيت) يرسخ أحداثهم، وصورهم من أسرة غلى أسرة، حتى نفذ الحجر واستعصى على جاء بعدهم.
حين جاء العرب نهضا لاحتفاء بالذاكرة، بالشفاهي، فشحذت ألسنة الرواة، راو عن راو، حتى يصل غلى اللحظة المضيئة من الزمن، لحظة التقاء السماء بالأرض.
وحين خبا فعل الذاكرة لجأوا إلى الأوراق، فأنشأوا الموسوعة تلوى الموسوعة، وتعددت الحكايات، وتناقضت الروايات حتى صار العثور على جوهر الواقعة جهدا موصولا، وصار الذهاب غلى الماضي رحلة غلى النور، وغدا المستقبل قلقا، ومنبوذا، واستحالت الحياة الدنيا دار مفر، فالمستقبل معتم وغامض لا وجود له، وكمنت في أفئدتنا الرغبة في الرحيل غلى دار المقر، فهي المستقبل الآمن.
من هنا خلع عنا الحاضر والمستقبل، ولم نعد نملك غير عباءة الماضي تقين غولة الحياة، بعد أن أسقطنا الحاضر تحت أقدامنا، ولم يبق لنا من الزمن غير ثلثه (الماضي).
هذا على مستوى الفضاء المتوارث، كما يقول النقاد، ماذا عن فضائك الشخصي؟
ما تقول عن ولد لم يرث من الأب غير نكهة الحكايات المعتقة، يجلس الأب على عرشه العائلي المتهالك، ويسرح في ماضيه، يسرد بطولات شبابه، والولد مسحور بما يقص.
الرحلة الطويلة جعلت من الأيام الأولى أسطورة.. فهل استقى من ها هنا أولى مكوناته؟ أيكون الزمن –هنا – بحضوره الماضوي الباهظ زمن الأوائل أم زمن الأب الحميم؟ اختلطت الأمور عليه.
هل كان الخروج من مكان النشأة غلى العاصمة الكبيرة بكل تعقيداتها سببا في تحوله غلى خرافة أولى، أم يكون ذلك بسبب المتغيرات التي وصلت غلى حد القطيعة بين رواسخ طفولته، والتكوينات المستحدثة التي تشكلت مع استقبال شبابه؟ تضاعفت القطيعة، فصار يمتلك أكثر من ماض، أي أكثر من جزء من الزمن.
قصص البدايات كما استمرت في قصص النهايات كانت مجردة حفر عميق في الذاكرة. وهل نملك غيرها؟
سئل: لماذا لا تصطدم بالحاضر. اننا لا نراه ممثلا بين سطورك كثيرا؟
أسئلة الحاضر ستجدها بكل يسر في أطروحات الذاكرة، هو المفتاح لإعادة القراءة، سواء لتاريخك الشخصي أو لتاريخ بلادك.
أاقول أن الاحتفاء بالذاكرة، أي بتقليب الماضي، واستنهاضه، للاستمساك بثوابت عالمك القروي التي انهارت غلى غير رجعة. اندثرت القرية التي أسسها الفراعنة واستمرت تقاوم الأزمنة بثوابتها الطينية والبدائية غلى ما قبل عصر الانفتاح بقليل، لقد بادلت المدينة التشويه، فهي تسعى اليها لترييفها، أو تجيء المدينة اليها بيدها الغاشمة فتنشى بيوتا من حجر ذات أدوات متعددة، وليهمد غلى الأبد في ركن من أركان النسيان، النورج، والمحراث، والتابوت، والساقية، والشادوف. وتضج في سمائها ماكنات الري ووابورات الحراث.
أخشى أن يقع لوطننا الكبير ما وقع لقرانا، الاندثار غلى الأبد بكل مقومات حياته، ومكونات خصوصيى من أجل تقبل عوالم غربية، لا تنتمي اليه. يسعى تجاهها شبابه بكل همة ونشاط على اعتقاد بأنها تمثل سماة التحضر والتحديث.
قدرنا أن يشار إلينا كآخر الأجيال القابضة على الجذوات الراسخة للعوالم القديمة، العوالم التي قاومت الأزمنة بالتمسك بما فيها القديم.
وقدرنا أن نكون آخر الأجيال الحالمة والمحبطة في آن معا.
فالأجيال الحالية تلهو مع تناقضات حاضرها دون مبالاة، ودون خوف من المستقبل لأنها ارتضت قبول ابتذاله، ولا يعنيها التمسك بحلم بديل.