الفضاء الروائي في الجازية والدراويش لعبد الحميد بن هدوقة دراسة في المبنى و المعنى

الطاهر رواينية جامعة عنابة
1- الفضاء النصي
سوف ننطلق في حديثنا عن الفضاء النصي، من الاطلاح المعمول به في حقل الدراسات السيميائية السردية، والمتمثل في كونه موضوعا مهيكلا، يتكون من عناصر غير مستمرة، لكنها منتشرة عبر احتداده ، وفق نظام هندسي متميز، حيث يسهم هذا النظام في تجسيد أو عرض مجموع التحولات والعلاقات المدركة والمحسوسة بين شتى الذوات الفاعلة داخل الخطاب السردي، ويطلق غريماس على هذا النوع من الفضاء، الفضاء الإدراكي، وعليه يصبح الفضاء في أي خطاب سردي مطابقا لخطية النص، وكذلك للصورة الشكلية التي يقدم بها هذا الخطاب للمتلقي.
وحتى لا نبحر بعيدا مستقصين كل أبعاد الفضاء النصي، فإننا سنقتصر حديثنا هنا على المكونات الشكلية لهندسة النص في رواية الجازية والدراويش، وهي العنوان، والفاتحة، والفصول، على أن نتابع حديثنا فيما يلي من الدراسة عن الفضاء الداخلي للنص الروائي، أي على الفضاء المروي في بعديه المكاني والزماني، والمتشكل من تعاضد وتشابك وحدات النسيج النصي، مركزين اهتمامنا أساسا على ما يسميه باشلار بحميمية الفضاء، أي على القيم الدلالية والرمزية للفضاء، الذي يشغله الإنساء على نحو من الإنحاء، إذ بدون هذه الحميمية يطل هذا الفضاء بمجموع أبعاده الواقعية والخيالية، مجرد مساحات هندسية، أو آنات متتالية، معطلة أو مفرغة من محتواها الإنساني.
1-1- العنوان:
يتصدر الرواية عنوان رئيس ووحيد هو "الجازية والدراويش" وهو كما توحي به الأبعاد الدلالية والرمزية للعبارة التي تتضمنه، يعد من العناوين الساحرة، التي تغزي القارئ وتشوقه، إنه عنوان مليء بالوعود ومثقل بالذكريات، ينظر إلى جهتين متعارضتين المستقبل والماضي، ما سيكون وما كان، فهو شوق إلى ما سيحدث وحنين إلى ما فات، فالجازية تعد شخصية أثيرة في القص الشعبي العربي، نسجت حولها وحول جمالها وقوة شخصيتها القصص والأساطير، حتى صار جمالها مضربا للأمثال، وهي كما تروي سيرة بني هلال ( الجمال والفتنة والذكاء الوقاد والحزم والتدبير)، وهي في الرواية تشكل البؤرة أو المركز، الذي تدور حوله محاور النص، ومنه تتوالد معانيه، وتتناسل دلالاته.
وإن الجمع بين الجازية والدراويش في عنوان الرواية قد أسهم أكثر في تعميق صلة العنوان بالنص، وإعطائه نوعا من السلطة عليه، فالكلمتان تتكاملان وتتضافران من حيث دلالتهما من عناصر ومواقف أساسية يتكون منها النص الروائي، ويلاحظ أن الكاتب لم يكتف بالجمع بين الجازية والدراويش على مستوى العنوان، بل استمر يجمع بينهما على مدى المتن الحكائي للنص، فكل ذكر للجازية لابد أن يتبعه- في الغالب- ذكر للدراويش، وكل موقف يظهر فيه الدراويش، وكل موقف يظهر فيه الدراويش لابد أن تلوح فيه الجازية بطلقتها البهية، وقد أضفى هذا التلازم، وهذه الحميمية إلى نوع من الأساطيرية، تحول بموجبها الدراويش إلى سدنة في معبد الجمال، الذي تتربع فيه الجازية بحسنها، الذي يملأ الدنيا، فهي "تضحك صباحا فتنتشر ضحكتها أغاني عذابا في العشايا، تغنيها الفتيات والرعاة، ويعلم الناس أن الجازية ضحكت! إذا سكتت هب الدراويش لإقامة زردة، استرضاء لها، واستعطافا! أشيعت حولها ألف خرافة، تفوق ما شاع من خرافات حول الجازية الهلالية... كانت غريبة الأطوار، لا تستقر على حال، عيونها تعد وتتوعد! ابتسامتها ترتفع بالنفس إلى البعيد من السدم، لكنها كالنور قربها محرق."
إضافة إلى ذلك، فإنه في أي عمل أدبي لابد أن تكون العلاقة بين العنوان والنص علاقة جدلية، إذ بدون النص يكون العنوان وحده عاجزا عن تكوين محيطه الدلالي، وبدون العنوان يكون النص باستمرار عرضه للذوبان في نصوص أخرى، وعليه فإن العنوان كعلامة أو أمارة تشير إلى النص، يكون أشبه بالهوية، أو اللافتة الإشهارية، وهو أيضا يعد عتبة للقراءة يلج منها القارئ إلى عالم النص، ولذلك فإننا حينما نلج عالم الجازية والدراويش نجد أن الجازية يلفها الكثير من الغموض، على الرغم من أنها الشخصية الأساس في الرواية، إلا أنها تبدو كعلاقة فنية، أو رمز محسوس، أو معنى مودع في الوعي الجماعي، أكثر منها شخصية ذات ملامح وسمات ومواقف تتميز بها داخل النص الروائي، فهي كائن زئبقي تظل تلح على خيال الشخصيات في الرواية، وكأنها الطيف، ساحرة وعدوانية، فهي مثلما تظهر فجأة تختفي، ومثلما تقترب تبتعد في الوقت نفسه، فتنتها تكمن في تميزها، إنها تشبه نجمة كاتب ياسين في عجائبيتها، التي قد تنتهي بها إلى أن تصبح أسطورة كونية، لكنها تختلف عنها في كون نجمة طيف براق تعانق مع أحداث الملحمة البطولية للثورة، بحيث غدت رمزا للجزائر المستعمرة، التي ما فتنت تبحث عن هويتها، بينما جسدتت الجازية الجزائر الحلم في مرحلة بناء المجتمع الجديد، لذلك كان عشاقها من مختلف فئات اشعب، وطبقاته، أجلها الدراويش، وعشقها الرعاة، ونسجت حول أصلها الأساطير: "ماتت أم الجازية أثناء الوضع، أبوها لم يعد من الحرب. رفاقه قالوا قتل بألف بندقية! لم يكن شخصا كان شعبا. كلهم يعرفون متى استشهد، لكنهم لا يعرفون قبره. لم يذقن في الأرض، دفن في حناجر الطيور"
ذاع صيتها حتى بلغت أخبارها ما وراء البحار، وتنافس في كسب ودها الجميع في قرية السعبة وخارجها، والكل يرى في الظفر بحبها غنيمة، "ابن الشامبيط الذي يقرأ من آخر الدنيا: في أمريكا... لم يكن يريد منها بتولتها فقط، كان يريد أن يتوج إسمه بهالة النور التي صنعتها بندقية أبيها ودماؤه! يريد مسح عار الشمبطة عن جبينه كما قال السكان."
أما الشاب المهاجر "عايد' فقد كان حبه للجازية يمثل حلم العودة والإستقرار في "هذه التربة الطيبة" ، وأما الجازية فقد كانت عواطفها موزعة بين الطيب بن الجبايلي وابن قرية السبعة، الذي ظل يحلم بهدوء
- حتى بعد الزج به في السجن – بضرورة حدوث انقلاب عظيم، يغير كل شيء، ويكون سببا في ولادة إنسان جديد في مجتمع جديد، يقول: "ينبغي إغراق الماضي أولا، إغراق الدراويش، إغراق السبعة، إغراق القرية بسد تبينيه الأيدي العارية، لكي تبدأ حياة أخرى في قرية أخرى، تلد رجلا جديدا من الصفر" ، وبين الطالب صاحب الحلم الأحمر، الذي جاء من المدينة بمشاريعه متحديا الجميع، حتى الجازي، لكن إصراره وتطرفه كانا سببا في حتفه، وبقيت الجازية كشجرة الصفصاف فاردة قامتها تتحدى العواصف، وتحلم بمخاض يكسر كل القيود، وهو موقف حاسم كشفت عنه الجازية في نهاية الرواية من خلال عبارتها المتفائلة بالمستقبل: "الطيب طيبه السجن، النفس تميل أحيانا تميل أحيانا عندما تهب عليها بعض السيمات العليلة، كأغصان الصفصاف، لكن الجذع يبقى ثابتا"، ومثل هذه النهايات المتفائلة التي تبشر بها نهاية الفعل الروائي في الجازية والدراويش تمنحها ملمحا من ملامح الواقعية الإشتراكية.
بق أن نشير أخيرا في مجال حديثنا عن العنوان إلى الفضاء المرجعي الذي تحيل عليه عبارة الجازية والدراويش، فنجد أن الزمن المرجعي الذي تشير إليه هذه العبارة هو الماضي، والمكان هو البادية، في مقابل الفضاء الروائي الذي يحيل على قرية السبعة، التي تعيش حاضرا من خلال هيمنة ماض يحاول أن يكون مستمرا.
2-1- الفاتحة:
ترتبط الفاتحة أو الاستهلاك في القص العربي بالقص الشعبي، حيث تسهم الفاتحة في تهيئة الجو للشروع في القص، بينما تعد الفاتحة مكونا أساسا، في بناء الرواية الواقعية، إذ تناط بها مهمة تقديم العالم التخييلي للرواية، وقد أولى كتاب الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر الفاتحة عناية فائقة وتتكون من "عنصرين أساسيين هما: الماضي والمكان"، ومع تطور الكتابة الروائية بدأ الاهتمام بالفاتحة ينحصر، حتى تم الاستغناء عنها تماما مع كتاب رواية تيار الوعي، حيث يرى أرغون أن الرواية عنده تولد من الجملة الأولى"، ثم بعثت الفاتحة من جديد متأنقة ومتعالية مع تجربة الرواية الشعرية.
وقد جاءت فاتحة الجازية والدرويش معلنة عن شعريتها، بما تحمله من إيقاع متميز، وما تتضمنه من طاقة دلالية وترميزية، تحاول من خلالها الرواية، أن تبوح بسرها المكنون، وتحقق أكبر مردودية ممكنة من المعنى؟ ولكنها تحجم عن ذلك مكتفية بمحاولة إضاءة الطريق، الذي ستسلكه القراءة، ولذلك فإننا سنكتفي بما تنفتح عنه لغة الفاتحة من إشارات تحدد بعض سما العالم الروائي.
1-2-1- فهي من حيث إشارتها إلى كينونة المكان أولا تم ولادة الزمن تحاول أن تكون سفر تكوين يحكي قصة تكون الفضاء الجغرافي للمجتمع الجزائري بمعالمة المتميزة، ثم ولادة الإنسان الذي سيعمر هذا الفضاء.
2-2-1- ولما كانت الكتابة الروائية تحاول –في الغالب- أن تجعل من الرواية الواقعية معادلا للمؤسسة الاجتماعية، أو على الأقل ترجمة لتناقضات عالم الحياة اليومية، فقد اعتمدت رواية الجازية والدراويش في بناء عالمها الخيالي على مجموع لإشارات الدالة، التي تضمنها نص الفاتحة، فالجبل والعين والصفصاف والسبعة تعد من مشمولات الفضاء المكاني في الرواية، أما الجازية والدراويش والرعاة والشامبيط، فهم من بين الشخصيات الفاعلة في الرواية، حيث تتمثل الجازية محور الصراع داخل المتن الحكائي، أو التعارض بين قيم الحاضر وقيم التاريخ.
2-1-2- ثنائية المرتفع/ المنخفض أو فضاء القرية/ المدنية:
وتتجلى هذه الثنائية أساسا من خلال الربط بين الشخصيات الروائية والمكان، حيث يصبح المكان هنا مجسدا لحدود العالم الحسي الذي تعيش فيه الشخصيات، ولما كان هذا العالم مقسما إلى قضائيين منفصلين (القرية/ المدينة). لكل منهما قوانينه الخاصة التي تحكمه وتنظمه، فإن العلاقة المكانية، التي تربط بين فضاء القرية وفضاء المدينة، تقوم أساسا على تعارض بنوي وسوسيوثقافي، تحتل فيه القرية موقعا جغرافيا وهندسيا متميزا يؤهلها لأن تكون مرصدا لاستنكاه حركة الوجود في بعديها، الواقعي والأساطيري، فهي ترتبط فوق رأس الجبل كما تربض في الوجدان الروحي لشخصيات العالم الروائي، ببطولات أبنائها أيام الإستعمار وكرامات أوليائها على مر الزمان.
وإذا كان فضاء القرية، أي فضاء المرتفع حاضرا بأبعاده الطبيعية ولتاريخية والميثولوجية المتميزة، فإن فضاء المدينة أو فضاء المنخفض يبدو غائبا، حيث لم يرد ذكر المدينة في الرواية إلا عرضا، وفي شكل مجموعة من اللمزات الساخرة، التي تتخلل محاورات القرويين ومسامراتهم وهو ما تكشف عنه حركة وعي الطيب بن الجبايلي من خلال هذا المنولوج "لابد أن تفهمي يا أختي الساذجة، أبونا عندما يتحدث عن المدينة يقول: نهبط يعني: نتصنع! دشرتنا جد عالية. أبي صادق في تعيره. المشكلة ليست في الهبوط إلى المدينة، إنما الصعود بالمينة إلى الدشرة هو المشكلة" أو ما تكشف عنه القصة التي نسجها إمام القرية حول الطالبة الوحيدة، التي جاءت من المدينة في حملة تطوع مع ستة شبان، وكانت ترتدي سروالا وتدخن أمام الملأ، وهو في كل مرة يرو فيها هذه القصة على جماعة من القرويين، يضيف إليها ما ينمقها لدى السامع، ووقد انتهى به المطاف والرواية إلى الإعلاء من شأن القروي والحط من رجل المدينة قائلا: "إذا كان قوام المرأة في المدينة ستة رجال، فامرأتان قوامهما إثنتا عشر رجلا! وبهذا الحساب رجل واحد من الدشرة يساوي أربعة وعشرين رجلا من المدينة! لأن رجل الدشرة يستطيع التزوج بأربعة نساء."
هذا من ناحية الدلالة الايجابية، التي تحاول الرواية أن تسبغها على فضاء المرتفع، انطلاقا من منظور شخوصه وتصوراتهم، لكن الطاقة الدلالية التي تجدها ثنائية المرتفع/ المنخفض لا تقف فق عند حدود هذا النظور، بل تتعداه وتنقضه تماما، ولذلك فإن تغير دلالة العلاقات المكانية المكونة لثنائية المرتفع/ المنخفض، قد أسهم من خلال صراع الأجيال، أو بالأحرى من خلال الصدام بين أفكار وتصورات شخوص الرواية لبنية العالم وجدلية التحول، في بلورة المنظور الإيديولوجي الذي تحاول الرواية أن تؤسسه عبر امتداد فضائها، وفي هذا الإطار يتحول فضاء الدشرة المرتفع إلى فضاء سالب لا ينبت سوى الضبات فضاء محافظ يقدس الماضي والثبات، ويرفض مجرد الحلم بمستقبل أفشل، بينما يتحول الفضاء المنخفض إلى فضاء موجب، هو فضاء "الأرض السفلية السهلية، حي الخصب والملايين البشرية المتصارعة على اللقمة'فضاء القرية الجديدة، التي أصبح يحلم ببنائها جيل الشباب، لأنهم أدركوا أن دشرتهم لا يمكن أن تتحمل ثقل المستقبل، بينما يعارضها الشيوخ بقوة وإصرار لأنهم يرون أن هذا التحول يجتثهم من دشرتهم كما تجتث الشجرة من عروقها.
3-1-2- ثنائي القريب/ البعيد أو فضاء الأنا وفضاء الآخر:
يعكس البناء المكاني ثنائية القريب/ البعيد التعارض القائم بين فضاء الأهل وفضاء الغربة، حيث يشكل فضاء الأهل طاقة جذب واحتواء عاطفي، وذلك لأن علاقتنا بالمكان تنطوي على جوانب شتى وعميقة، تجعل من معايشتنا له عملية قدرتنا الواعية للتوغل في لا شعورنا، لأن الإنسان لا يحتاج فقط إلى رقعة جغرافية يعش فيها، وإنما نجده يصبو دائما إلى فضاء حميمي يضرب فيه بجذوره من أجل تأصيل هويته، والتعبير عن كينونة ووجوده، حيث يتحول هذا الفضاء المكاني إلى مرآة ترى فيها (الأنا) صورتها ، وهو ما حولت رواية الجازية والدراويش أن تبلوره من خلال تجربة (عايد) في فضا الغربة، وهو فضاء أجنبي لافظ وطارد، لا يشعر فيه الإنسان بالأمان والاستقرار لأنه يعد في هذا الفضاء من الأغراب الأباعد، والشخص البعيد هو الشخص المرفوض، المستكره، وغير المرغوب فيه، ولهذا جاء قراره بالعودة إلى قرية السبعة، مسقط رأسه، أولا تنفيذا الوصية والدة، الذي مات في فضاء غريب عنه، وهو يتحرف شوقا للعودة إلى مسقط رأسه، يقول عايد: "وأنا ياعم، عاهدت أبي أن أعود، وقد قدت، وعاهدت أبي أن لا أزرع بذوري في الريح، ولكن في هذه التربة الطيبة"، وثانيا لارتباطه الحسي بفضاء الأهل والأقارب وتتبعه لأخبار الجازية: " وهكذا وجد عايد نفسه يتأهب للرجوع في وقت لم يحدده من قبل! كان عليه أن يسرع أخبار الجازية طغت في أرض الهجرة على كل الأخبار، وأحيت من نفسه أحاديث أبيه الماضية، وذكرياته الطويلة، كما ملأت مشاعره شوقا وأحلاما"، وبهذا الاحساس فقد تحول القريب، أو فضاء الأهل عند (عايد) إلى مكان حميم أليف.
وقد تتجاوز علاقة الإنسان بفضائه هذا النوع من الأحاسيس والمشاعر، وذلك حينما يرتبط هذا الفضاء عند الانسان بكرامته وشرفه، فيذود عنه، ويمنع الآخرين من الولوج إليه، فإذا سئل مثلا القرويون في الرواية عن لماذا حاربوا: أجابوا: من أجل "النيف".
وتجسد أيضا ثنائية القريب/ البعيد نوعا من الصدام الحضاري بين قضاء "الأنا" وفضاء "الآخر"، ولكنه يبقى صداما هامشيا، يكاد أن يلفه النسيان، لولا وجود "الشامبيط"، الذي ما يفتأ حضوره يذكر الناس باستمرار بالصورة البشعة الإستعمار، والتي يحاول جاهدا بتزويج ابنه من الجازية أن يمحوها م ذاكرة السبعة: "إنه حلم العمر يتحقق إذا تزوج ابنه الجازية! تغسل ماضيه بماء معطر ابنه وأحفاده من بعده سوف يصبحون في الأفواه والأفكار حفدة أكبر فاعل للتاريخ."
2-2- البناء الزماني:
يعد فن القص بصورة عامة أكثر الأنواع الأدبية التصاقا بالزمن وتعانقا معه، وإذا ما اعتبرنا الفنون التشكيلية فنونا مكانية، فإن الرواية تعد فنا زمنيا، أو عملا لغويا يجري ويمتد داخل الزمن، وعليه فإننا لا نستطيع أن نتخيل عملا روائيا يمكن أن يتخلص من الانتظام الزمني مهما بالغ في نزعته نحو تهشيم الزمن، أو تشويش دواليبه، من أجل انجاز جماليات استعارية معينة.
وعموما فإن الدراسين يتفقون على تقسيم الأزمنة المتعلقة بالرواية إلى: أزمنة خارجية تقبع خارج النص، منها زمن الكتابة وزمن القراءة، وإذا كان زمن الكتابة يشير إلى الحقبة التي أنجزت فيها كتابة الرواية- وهي بالنسبة للجازية والدراويش قد حدد بصيف 1982 حسبما هو مثبت في نهايتها، وتؤقت هذه الفترة لبداية التراجع عن النهج الإشتراكي، كما تشير إلى بداية التخلي عن مشروع القرى الفلاحية – فإن زمن القراءة يختلف باختلاف زمن القراء وتعاقبهم عبر التاريخ.
وأزمنة داخلية، وهي الأزمنة التخيلية، التي توجد مندمجة أو متداخلة في العمل الروائي في حد ذاته ويتحتم على القارئ معاينتها ووصفها وتصيفها، ويوجد ف أي عمل روائي – على الأقل- مستويان زمنيان هما: زمن القصة أو الزمن المحكي، وزمن الخطاب، أو زمن القول، أو السرد، أو الحكي.
1-2-2- زمن القصة أو الزمن المحكي:
ونقصد بزمن القصة انتظام الأحداث، أو المادة الحكائية ضمن حدود إشارات زمنية – تاريخية محددة أو مفتوحة، قد تستغرق عددا من الساعات أو الأيام، أو الأشهر، أو السنوات، وحين تتموضع هذه المادة الحكائية ضمن المرحلة المزامنة لكتابها، أو حتى حين لا تتمكن من ذلك، فإنها تصر إما على إعادة ماض بعيد للعيان، وبعث الحياة في وجوه أبطاله الذين تعتقوا واغتنموا بمرور الزمن، أو تحاول أن تستحضر عالمها الحالي بكل ما يزخر به من أحداث وصراعات ومآس، أو تشرئب في اتجاه مستقبل خيالي وهمي أو متوقع، وقد حاولت رواية الجازية والدراويش أن تموقع مادتها الحكائية ضمن حدود الفترة التاريخية الممتد بن منتصف السبعينات وصيف 1982، وهو تاريخ إعلان الكاتب عن الإنتهاء من كتابة روايته، وقد استنتجنا هذا التاريخ مما تضمنته المادة الحكائية من عينات دالة على ذلك، كالتطوع الطلابي، ومشروع بناء القرى الفلاحية.
ولما كان زمن القصة زمنا صرفيا اعتبار قبوليته أن يتخذ أنحاء عديدة، فإن المادة الحكائية، أو الأحداث المروية، وإن بدت لنا متموضعة حول رسم مصير الجازية، فإنها - في الحقيقة- قد امتدت وبرعمت داخل أبعاد زمنية متعددةة ومتداخلة، تنطلق كل راهنية الحاضر لتتعانق عبر تحولات المقامات السردية، والتغيرات التي تطرأ على أوضاع الشخصيات مع أزمنة سابقة في شكل استرجاعات، أو مع أزمنة لاحقة تشكل استباقات توحي باستشراف المستقبل، ويمكن أن نميز في زمنية المادة الحكائية أربعة أشكال:
1) الحاضر المستمر،
2) الماضي البعيد،
3) الماضي القريب،
4) المستقبل المتوقع.
أ- الحاضر المستمر: ويتمثل الحاضر الروائي انطلاقا من أن الزمن الروائي يشكل لحظة حاضرة مترامية الأطراف ، ويمكن أن يتحدد هذا الحاضر من خلال راهينة الحدث الأول في القصة، ويتمثل في بداية تنفيذ الزج بالطيب بن الجبايلي في السجن مع بداية أول فقرة من الفصل الأول، ثم يستمر تتابع الأحداث في الحاضر وبالتناوب عبر فصول الرواية كل من البداية إلى النهاية، ويتخلل هذا التتابع مجموعة من الاسترجاعات والاستباقات والوقفات والمشاهد، تجعل من هذا الحاضر المستمر بؤرة تتقاطع عندها أزمنة أخرى متعددة ومتشابكة وعلى امتداد هذا الحاضر المستمر في رواية الجازية والدراويش يتقاطع، بل يتعانق زمن القصة ع زمن الخطاب، ويتداخل منطق الزمن الواقعي مع اسقاطات الزمن النفسي اللاشعوري، ويتجسد هذا الحاضر في الرواية عبر تتابع وقائع تجربة الطبيب بن الجبايلي في السجن، وكذلك عبر المجرى الطولي للحياة اليومية في قرية السبعة منذ مقدم (عايد) إلى القرية وإلى غاية إعلان خطبته لحجيلة بن الجبايلي في نهاية الرواية، بعد فشل كل مساعيه من أجل الفوز بالجازية.
ب- الماضي البعيد: وهو نوعان من الماضي، التاريخي والأسطوري، ويشكل الماضي التاريخي الخلفية التاريخية للحاضر، ويتم استحضاره عند الحديث عن تاريخ بعض شخصيات الرواية، وبخاصة فيما يتعلق بمشاركتهم في الثورة، من أمثال والد الجازية، الذي تحولت قصة استشهاده إلى أسطورة يرويها الكبار والصغار، وكذا الأخضر الجبايلي الذي يمتاز بمهارته في القنض، السايح والد عايد الذي نفى نفسه في المهجر مع مطلع الاستقلال، أو عن الذي خانوا الثورة بتعاونهم مع الاستعمار من أمثال الشامبيط، أما الماضي الأسطوري فإنه يرتبط أساسا بالتاريخ الروحي لقرية السبعة، وبكرامات أوليائها وشطحات دراويشها.
ج- الماضي القريب: ويتشكل من الأحاديث التي وقعت خلال الفترة الممتدة بين منتصف السبعينات وبداية الثمانينات، ولكنها لم تذكر في حين حدوثها، بل أجلت تأجيلا مؤقتا إلى ما بعد ذلك، فانتقلت بذلك من زمنية الحاضر إلى زمني الماضي، وتحولت إلى نوع من أنواع الإسترجاعات، نذكر منها حادثة عشق الطالب الأحمر للجازية بعد مراقصتها، والتي جاءت تالية في القصة لحادثة قتله.
د- المستقبل المتوقع: ويتمثل في زمن الأحداث التي تم التنبؤ بوقوعها قبل أوانها، من بينها مقتل الشامبيط.
2-2-2- زمن الخطاب، أو زمن الرد:
إن الفرق بين زمن الخطاب وزمن القصة يكمن في خطية زمن الخطاب، وتعدد أبعاد زمن القصة، وعله فإن اي مادة حكائية لا تستطيع ان تحقق كينونتها إلا عبر جريانها داخل الزمن في شكل لسلة متوالية من الآنات بهذا الترتيب الواعي للمادة الحكائية، يسقط شكلا هندسيا معقدا على خط مستقيم. وقد أشرنا في موضع سابق إلى أن التسلسل النصي في الجازية والدراويش يخضع عبر خطية خطابة، لهندسة متميزة، يحكمها منطق سردي، يعتمد اساسا على نظام التداول، من حيث المخطط العام لترتيب الفصول، والذي يقوم على سرد قصتين في وقت واحد بطريقة التناوب، ومن هنا يأتي تحريف الزمن أو تحصمه وخرق تتابعيته في رواية الجازية والدراويش، من اجل أغراض جمالية، ترتبط أساسا بتشكيل المادة المحكية فيها وفق أنساق سردية متميزة، منها نسق التوازي، الذي يحكم تحولات المقامات السردية في قصة الزمن الأول، والتي تتمحور أحداثها حول شخصية الطيب بن الجبايلي عبر الفصول (7،5،3،1)، والذي يبدو معاينا لحركة الأحداث ومعاينا لها في الوقت نفسه، وذلك من خلال المزاوجة بين نظامي التتابع والاسترجاع.
وضمن تتالي الأحداث عبر خطية الخطاب في هذه القصة، يقوم الصوت الراوي بتضمين مجموعة من القصص داخل قصة الطيب بن الجبايلي، منها قصة الطالب الدرويش، وقصة الشاعر السجين... الخ.
أما قصة الزمن الثاني، والتي تتمحور أحداثها حول شخصية (عايد) فإنها تخضع أساسا لنظام التتابع أو النظم، حيث يتوالى فيها سرد الأحداث عبر الفصول (8،6،4،2) من بداية بعينها، يمكن أن نؤقت لها برجوع (عايد) إلى قرية السعة، وتقف عند خاتمة الرواية، ويتخلل خطية الخطاب في هذه القصة تحريف زمني، يأتي مجسدا لمجموعة من السوابق واللواحق، منتشرة في شكل علامات دالة على امتداد القصة، تسهم في تخطيب زمن القصة، أي في إعطائه بعدا نحويا وتركيبا متميزا.
وعليه فإنه بالإعتماد على الزمن الصرفي للقصة، والزمن النحوي للخطاب نصل إلى بلورة الزمن الدلالي للنص الروائي، منطلقين في كل ذلك من مجموعة من المقامات السردية المتحولة عبر النص بتحول أوضاع الشخصيات بحسب حركة الفعل وبرد الفعل، التي تمنح النص توسعات غير منتظرة، تشكل داخل النص انزياحات دلالية تجعل المنظور المتفائل يهيمن ويتكرس، مشكلا منها بؤرا للتمهن والتأويل داخل الرواية.
هوامش
A.J Greimas et J. Courtes, Sémiotique, sectionnaire raisonne de la 1- théorie du langage, Hachette, Paris, 1979 P133.
Ibid, P134. 2-
3- جاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، كتال الأقلام، بغداد، 1980 ص209 وما بعدها.
4- عبد الفتاح كليوطو، الغائب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1987، 2700.
5- الطاهر قيقة، من أقاصيص بني هلال، الدار التونسية للنشر، تونسي، 1968، ص59.
6- عبد الحميد بن هدوقة، الجازية والدراويش، المؤسسة الوطنية للكتابة، الجزائر1983 ص 25.
7- الجازية والدراويش، ص24.
8- الرواية، ص14،25.
9- الرواية، ص 221.
10- الرواية، ص 11.
11- الرواية، ص 220.
12- سيزا قاسم، بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، 1984، ص30.
13- R Bourneuf et R Ouellet, l’univers du roman P U F Paris 2 éd ,1975,P4.
14- يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني، ضمن جماليات المكان، ترجمة سيزا قاسم، حميون، الدار البيضاء، ط2، 1988، ص69.
15- سيزا قاسم، المكان ودلالاته، ضمن جماليات المكان، ص66.
16- الرواية، ص 7.
17- الرواية، ص 9.
18- الرواية، ص 8-9.
19- الرواية، ص 07.
20- الرواية، ص 8،55.
21- يوري لوثمان، مشكلة المكان الفني، ص69.
22- الرواية، ص 83.
23- الرواية، ص 17.
24- الرواية، ص 81.
25- الرواية، ص 23.
26- الرواية، ص 23.
27- سيزا قاسم، المكان ودلالاته، ص63.
28- الرواية، ص 221.
29- الرواية، ص 29.
30- الرواية، ص 40.
31- الرواية، ص 211.
J.P Goedesistein, Pour lire le roman, DUCLOT, Pari1985,P103. 32-
33- د. سيزا قاسم، بناء الرواية، ص28.