الفضاء الحكائي في رواية "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة

بوقرومة حكيمة - أستاذة مساعدة بجامعة المسيلة
لقد ظل الفضاء مكونا هامشيا في الخطابات النقدية المعاصرة، بالرغم من بعض الإشارات الخفيفة والعابرة إليه وبالرغم من تطور الوعي الأدبي في العقود الأخيرة، لذلك تعتبر الأبحاث المتعلقة بدراسة الفضاء الحكائي حديثة العهد مما يؤكد أنها أبحاث لا تزال فعلا في بداية الطريق، وتعد الآراء التي نجدها حول هذا الموضوع عبارة عن اجتهادات متفرقة، ويمكنها إذا تراكمت أن تساعد على بناء تصور متكامل حول هذا الموضوع حيث يقول (هنري ميتران) (H.Mitterand) "لا وجود لنظرية مشكلة من فضائية حكائية، ولكن هناك فقط مسار للبحث مرسوم بدقة، كما توجد مسارات أخرى على هيئة نقط متقطعة" (1).
وثمة أسباب كثيرة جعلت السرديات بكل اجتهاداتها النظرية المتماسكة لم تهتم بالفضاء الروائي، هنري هنري ميتران، ومنها: "الطبيعة غير المضمرة للفضاء [هكذا يبدو له]، أو على الأقل الخاصية غير الطبيعية لنظام معين للأمكنة ولصفاته الفضائية كوحدات تمثل (بخلاف الشخصيات أو المراحل الحديثة للفعل). لقد انشغلت السرديات من جهتها، بدراسة مقولات المحكي، بصيغ إحداثها والأولويات التي تفصلها بعضها ببعض، أكثر مما اهتمت بالتمثلات التي تكون المادة وتكون بنبيتها الخاصة (أي التمثلات)..." (2)، ولذلك أخذن هذه الدراسة تقاوم كل منزع يجعل الزمن يحل محل القضاء على مستوى وصف الاشتغال الأدبي وتحليله.
قد يفهم الفضاء على انه الحيز المكاني في الرواية أو الحكي عامة، ويطلق عليه الفضاء الجغرافي l’espace géographique، فالروائي يقدم دائما حدا أدبيا من الإشارات الجغرافية التي تشكل نقطة انطلاق من أجل تحريك خيال القارئ (3)، إذ يكون الفضاء معادلا لمفهوم المكان في الرواية (ذلك المكان الذي تصوره قصتها المتخيلة).
ويرى ميشال بوتور أن الفضاء النصي ليس له ارتباط كبير بمضمون الحكي ولكنه لا يخلو من أهميته، إذ يحدد طبيعة تعامل القارئ مع النص الروائي أو الحكائي، وقد يوجه القارئ إلى فهم خاص للعمل، فالفضاء النصي هو أيضا فضاء مكاني ولكنه محدود لا علاقة له بالمكان الذي يتحرك فيه الأبطال، فهو مكان تتحرك فيه عن القارئ (4).
أما الفضاء الدلالي، فيشير إلى الصورة التي تخلقها لغة الحكي وما ينشأ عنها من بعد ومرتبط بالدلالة المجازية (5). بينما يشير الفضاء الدلالي إلى الطريقة التي يستطيع الراوي بواسطتها أن يهيمن على عالمه الحكائي بما فيه من أبطال يتحركون على واجهة معينة (6).
ينطلق التحليل السيميائي من فرضية مفادها أن الفضاء نظام دال يمكن تحليله بإحداث التعاليق بين شكلي التعبير والمضمون، وينظر إليه على أنه مركب كالكلام، أي أن ما يدل عليه المضمون من غير طبيعة ما يدل عليه التعبير (7). ويرتهن في وجوده الدلالي إلى الفعل الممارس فيه والقيم المحققة من استعماله (8).
تركز الرواية على عنصرين مهمين هما: الأرض والمرأة، تناولت أبطالا عديدين، فحللت نفسيتهم تحليلا عميقا، حتى جعلت منهم رموزا لطائفات تتصارع في كل مجتمع يسعى إلى تحطيم الأغلال لبناء مجتمع جديد، فرسم الكاتب لذلك مجموعة من الشخصيات تتحرك في فضاء معين، فنفيسة طالبة ثائرة متمردة على أوضاع قريتها وسلطة والدها الإقطاعي الانتهازي، الذي يسعى إلى تزويجها من شيخ البلدية، من أجل الحفاظ على أراضيه الزراعية. ورحمة (صانعة الفخار) تحاول أن ترسم وقائع الثورة على فخارها. وغيرها من الأشخاص الذين نكاد نعرفهم ونراهم في كل قرية من القرى الجزائرية، فكانت "ريح الجنوب" رواية لها مكانتها المرموقة في الأدب الجزائري الحديث.
تبدأ الرواية بسكون ريح الجنوب: "كانت الريح قد سكتت منذ أن طلع أول شعاع للفجر" (9). وتنتهي بتحركها: "وتحركت الريح وأخذ دويها يتصارخ بين جبال القرية ورباها" (10)، فهذه الريح يسميها سكان القرية (القبلي) سمة من سمات تلك القرية التي عادت إليها نفيسة من الجزائر العاصمة، لتقضي بها عطلتها الصيفية بعد موسم جامعي. والريح دلالة على تمزيق السكون وتكسير الرتابة والروتين الذي يسود القرية ودليل على نفسية البطلة (نفيسة) الطالبة الثائرة على أوضاع قريتها وسلطة والدها ثوران الريح.
إذا تأملنا الفضاء الفني لرواية "ريح الجنوب" نجد أن العلاقات المكانية تتأسس على ثنائيات ضدية، تتوزع على محورين أساسيين هما: القرية والمدينة، حيث تنتمي إلى المحور الأول مجموعة من الأماكن، كالجبل، التربة، الدشرة، القرية المركزية، أشجار التين، أشجار اللوز، الفلاح، الدجاج الريفي، الغابة. بينما ينتمي إلى المحور الثاني: المدينة، البحر، الجزائر، الشوارع الطويلة، الياسمين (عطر لا تعرفه البادية) (11)، ومن ثم ينشأ الصراع النفسي للبطلة، الناتج عن الفرق الكبير بين عالم القرية وعالم المدينة، حيث يصدر هذا الفارق تلك الثقافة الغيبية والأسطورية التي تحكم عقلية الريف، وعالم المدينة الذي تنشده نفيسة هو في الحقيقة رغبة ملحة للانتصار على الريف، وهو في الوقت نفسه نقمة على تلك العقلية المتخلفة التي اتسمت بها قرية نفيسة.
فالرواية تبدأ بوضع مضطرب ناتج عن عدم قدرة نفيسة على الانسجام مع واقع القرية، مما سبب لها جوا من الخلوة والصمت والحزن: "أظن أن القنابل الذرية التي يتحدثون عنها لا تستطيع أن تجعل مكانا أشد خرابا من هذه القرية" (12)، إذ تبدو نفيسة من خلال هذا المقطع السردي في حالة ضياع كلي يتجلى عبر مسار صوري تجسده مجموعة من الصور المتجانسة التي تحيل في مجملها على الواقع المأساوي للقرية، الذي يحيل إلى عالم الصمت والخراب. هذا الفضاء القروي في سكونيته وافتقاره إلى عناصر الحياة الضرورية، يقف كحاجز أو كفاعل مضاد ضد تحقيق رغبة نفيسة في الاستراحة في وسط أهلها، فتتحول القرية في نظرها من فضاء للعطلة والراحة إلى فضاء السجن والانغلاق، مما يجعل مسألة تحقيق برنامجها السردي المخطط لقضاء العطلة الصيفية أمرا يكاد يكون مستحيلا، وتزدادا حالتها تأزما عندما تجد نفسها في فضاء عائلي مغلق، خاصة تلك الغرفة التي نجد من أوصافها الشيء الكثير، حتى لا تكاد تظهر للعيان بوصفها الدقيق "الحجرة ضيقة طولها ثلاثة أمتار وعرضها كذلك بها كورة خارجية مطلة على جزء من البستان، ارتفاعها سبعون سنتيم وعرضها خمسون سنتيم، وفي هذه المساحة السرير القديم الذي تنام عليه نفيسة، وخزانة أشد قدما منه حيث حقيبتها وأثوابها وكتبها وقرب الكوة منضدة، ومقعد خشبي" (13)، فنفيسة تتذمر من وضعها هذا الذي تكاد تنعدم فيه كل ضروريات الحياة، ولكنها رغم ذلك بقيت في هذه الحجرة تنام فيها وتقضي فيها حياتها المظلمة، وما يدفعها للتأقلم مع هذا الوضع، وجود الكوة الخارجية التي تفسح لها مجالا لتشاهد منظرا جميلا ونهايته القصوى بجبال جرجراء، إضافة إلى أنها لا تستطيع أن تقتسم الغرفة مع أخيها وأمها "فهي تفضل هذه الحجرة الضيقة على الذوبان النهائي في الأسرة"(14)، وهي بذلك تستمر في مراجعة دروسها السنوية ومطالعة بعض الكتب والقصص التي جلبتها معها من الجزائر.
ومن هنا تتخذ الغرفة مدلولها المتسم بالبشاعة والباعث على الانقباض، ليتعالق ضديا بالمنظر الخلفي الجميل الذي كان يبعثها على الانشراح واستمرار الحياة، ومن هنا تبدو "نفيسة المعطلة حركيا، لا تملك الاختيار في توجيه رؤية يبقى مجالها محدودا وفي اتجاه واحد" (15)، فندرك أن هذه الغرفة مسخرة للكلام عن شيء آخر غير الفضاء، يتمثل في عزلة الفتاة عن العالم الخارجي، وتقييد حريتها، مما يفقد البطلة جانبا مهما من إنسانيتها، ويؤدي بها إلى التذمر والانفجار والاختناق: "أكاد أختنق من هذا السكون وهذا الصمت" (16)، وتستمر في حديثها مع نفسها: "أكاد أتفجر! أكاد أتفجر في هذه الصحراء" (17). ومراد رفض الجو الريفي إلى احتكاك نفيسة بالمدينة والانجذاب نحو مغريات الجامعة، وذلك بإيعاز من الكاتب نفسه، الذي حرص على أن يخلق من البيئة الإقطاعية نفسها النقيض الذي سيقضي عليها، مما يزيد الأحداث تأزما وتعقدا بمجرد وصول البطلة إلى القرية.
فالوضع الذي آلت إليه نفيسة، ناتج عن عدم مقدرتها في لحظات الشحنة والفراغ أن تتجاوز ذلك العائق الفضائي المشحون بمنعها من ممارسة حياتها بكل حرية، عكس ما عاشته في الجزائر العاصمة "إن أمي تمنعني من الخروج هنا... في هذه القرية الخالية! بينما في الجزائر حيث في كل خطوة رجل، أخرج دون أن ينكر علي أحد ذلك فلماذا هنا الخروج عيب وهناك لا ؟ أهنا مسلمون وهناك ملحدون؟ أم أن المرأة تتبدل حقيقتها من مكان إلى آخر؟" (18).
هذا التمييز القائم يبن الرجل والمرأة ينتج توزيعا فضائيا خاضعا لنظام القيم الذي يحكم علاقات الفاعلين في الوسط الريفي خاصة والمجتمع بصفة عامة، هذا التغيير الفضائي يرافقه تغيير في القيم، فانتقال نفيسة من الجزائر العاصمة (المدينة) إلى القرية انتقال من نظام إلى نظام آخر مغاير له تماما،ومن ثم يكون أمام الشخص المتنقل خيارين لا ثالث لهما: "إما أن يلغي ذاته ويتبنى في فعله قيما لا يعرف نفسه فيها فينسجم مكرها ويدخل في تواصل بالآخر على حساب قناعاته، وإما أن يصمد ويدخل في مواجهة الآخر دفاعا عن قناعته" (19). فنفيسة ترفض هذا الواقع لأنها لا تحتمل وجود فروقات جوهرية بين الرجل والمرأة في قريتها تلك، وغيابها في المدينة، حيث يبدو والدها مالكا لفضاء القرية، متحكما فيه، يسيره كيفما يشاء، وهو مالك لشخصية نفيسة، يتحكم فيها كما لو كانت آلة، حتى سعى إلى تزويجها بمالك شيخ البلدية قصد التقرب منه، لضمان حماية ملكية أراضيه الشاسعة من زحف الإصلاح الزراعي، وما ينتج عنه من تأمينات، فراحت نفيسة تقاوم رأي والدها وتجعله من العقلية المتخلفة المتحجرة، ويظهر ذلك في قول والدها: "أبوك يعتزم تزويجك" (20)، وقول والدها: "أنا قررت أن تتزوج وقراري قضاء" (21).
فعايد بن القاضي (والد نفيسة) يسعى إلى تنفيذ برنامج قهري يتمثل في تزويج ابنته من مالك (شيخ البلدية). فيحتل الوالد موقع فاعل منفذ يمارس أفعالا تخضع لرغبته هو فقط، مقصيا من حسابه اعتبارات الطرفين المعنيين بمسألة الزواج، فيصير الفعل الإقناعي المشحون بالإجبار والتهديد واجبا والقبول به حقيقة وإرادة في اعتقاده.
وبما أن نفيسة لا تزال صغيرة، فإنها لم ترق بعد إلى درجة امتلاك الفعل التأويلي المتموضع على الصعيد التداولي الذي يمكنها من تكييفه حسب منفعتنا، وبالتالي يجب عليها أن تقبل العقد وتنقطع عن الدرامية (22)، وتقضي بقية حياتها في سجن القرية، وتضيع منها مدينة الجزائر (الحلم والمستقبل)، ويظهر ذلك في قول والدتها: "أبوك أراد ذلك، لن تعودي إلى الجزائر" (23)، ولولا حماية أراضيه من قانون الإصلاح الزراعي الذي تعتزم السلطة السياسية تطبيقه، ما كان له أن يفكر في مصاهرة شيخ البلدية "لولا ما يخشاه من ضياع أرضه لاستطاع أن يدعها تعود إلى الجزائر لمواصلة دراستها، ولأمكنه أن لا يرغمها على الزواج إذا لم تكن راضية ... لكن الموقف يدعو إلى السرعة، فالإشاعات المتعلقة بالإصلاح الزراعي كثر دورانها على الألسنة" (24).
ومن ثم ينشأ صراع آخر بين نفيسة ووالدها، منشأه ذلك التقابل الموجود بين عالم الريف وعالم المدينة، فترفض فكرة والدها في تزويجها، فهي ترغب في مواصلة دراستها: "قولي له لن أتزوج ولن أنقطع عن دراستي، سأعود إلى الجزائر مهما كان الحال" (25). ويمكن أن يعتبر هذا الرفض جزء من تمردها على قيم وعادات قريتها، ومن ثم هي تسعى إلى ممارسة حريتها الفردية، تلك الحرية التي تشبعت بها من خلال دراستها بالجزائر.
من خلال كل ما سبق يتضح لنا أن فضاء القرية مرتبط بالقيم المستثمرة فيه، فرفض نفيسة لهذا الفضاء ناتج عن قناعتها بأن الحياة تتسم بالقبح والمرارة، نتيجة غياب معظم المرافق الضرورية للحياة، بالإضافة إلى قيم القرية التي تفقد المرأة جانبا من إنسانيتها، بتفرقتها الواضحة بين الرجل والمرأة، وخضوع المرأة لسلطة الرجل، فتمردت نفيسة على تلك السلطة، مما زاد من حنينها إلى المدينة وقيمها التي تخالف تماما قيم قريتها، وكل هذا ما جعلها تصف ذلك الجو الريفي بالسجن في انغلاقه، وهو نموذج لسجن رمزي تعيشه هذه الفتاة، وهو فضاء غير متحقق داخل أدبية النص الروائي، إذ يكون مجرد فضاء ذاتي يعبر عن الحساسية المفرطة لنفيسة تجاه الواقع الذي تعيشه، فعلى عكس الروايات الأخرى التي تقدم السجن كمؤسسة للعقاب والمراقبة والتدمير، فإن رواية "ريح الجنوب" تخلو من هذه الحقيقة، لأن نفيسة وصفت قريتها بالسجن نتيجة القيود التي تفرضها على المرأة، إذ أن "فكرة الكبل الداخلي هذه هي جوهر السجن الرمزي" (26)، حيث يعبر معنى السجن عند البطلة عن فضاء ذاتي دال على حساسية مفرطة تجاه قريتها، وتجاه الرجل، فعناصره المادية تظل عالقة بذهنها، ونحن كقراء مدعوون إلى تقبل هذا الفضاء الرمزي كحقيقة، رغم أنه غير متحقق داخل أدبية هذا النص، نظرا لمعرفتنا بالوضع الاعتباري للمرأة في المجتمع الجزائري خاصة في القرى. وهذه الحالة المزرية التي دفعت بنفيسة إلى أن تطلق اسم السجن تعبيرا عن حالة القهر المتسمة بها قريتها، تبلور في مشروع الفرار الذي تجسد في الملفوظات التالية: "الفرار هو الحل وهو الطريق والاختيار" (27)، "الهروب يقع يوم الجمعة لأنه موعد السوق الذي لا يتخلف عنه أبوها وأخوها عبد القادر في الغالب" (28)، "تم إحكام برنامج الهروب بكل دقة ولم تنس فيه أية جزئية" (29).
لقد حاولت نفيسة أن تحقق برنامج الهروب الذي تسعى من خلاله في الحقيقة إلى تحرير المرأة في القرية الجزائرية التي تدهورت فيها الحياة وتأزمت 3إني أهذي أبحث عن تحرير المرأة ولم أستطع تحرير نفسي إلا بالانتحار" (30)، ومن هنا يمكننا أن نعتبر مغامرة هروب نفيسة على أنها "تشكل أزمة ثقة في القيم التي يفرزها فضاء القرية" (31)، فالأمل في حياة أفضل جعل نفيسة تدرك أن القيم السائدة في فضاء القانون لا يهدف إلى الإبقاء على التماسك الاجتماعي، ولا تستجيب لطموحات الإنسان المشروعة، وإنما تهدف إلى تكريس التمزق الاجتماعي وسلب حية المرأة.
لكن يحدث أن تتيه نفيسة في وسط الغابة وتظلل طريقها المؤدي إلى المحطة، فيلسعها ثعبان، ويسعفها رابح الراعي (الذي يرعى أغنام والدها) وكانت قد أهانته في يوم ما وقالت له (أيها الراعي القذر)، فيأخذها إلى بيته المتواضع ليعتني بها هو وأمه. وأخيرا تعود إلى بيت والدها بعد أن يكتشف أمرها، فيفشل البرنامج المخطط من قبلها، ويتحقق الانتصار لعالم القرية على عالم المدينة والغلبة للبداوة على الحضارة.
أما الفضاء المفتوح، فيتمثل في المدينة (الجزائر) ولا نجد له حضورا مكثفا في الرواية إلاّ من خلال تعليقات نفيسة للمقارنة بين عالم المدينة وعالم القرية، فتتحدث عن فضائه وقيمه الجمالية، لأنها لا تجد صعوبة في ممارسة حضورها فيه، فكل ما هناك يستجيب لرغبتها في التمتع بجماله وعناصر طبيعته وزخرفته التي تفتقد إليها القرية، من هنا "يمثل فضاء المدينة وحدود عالمها" (32)، وها هي تصف فضاء المدينة بما فيه من عمارات وبحر وشوارع طويلة وغير ذلك "الجزائر، الشوارع الطويلة، بالليل تبدو سماؤها صافية بنجومها المتلألئة اقتربت من الأرض ألف مرة... عماراتها تتحدى قمم الجبال علوا. الياسمين عطر لا تعرفه البادية... البحر مرآة السماء ترى الشمس فيه وجهها، وبالليل تصير المرآة حوضا للسباحة تستحم بها عذارى النجوم والاستحمام ذريعة للقاء القمر... البحر أيضا شوق دائم إلى السفر... البحر أيضا حلم حي لمن يبحث عن حلم، والبحر بعد ذلك مستودع للحيوانات التي خلقت ومجها أصحابها... الجزائر، آه، ما أمر حياتي هنا" (33). فالمدينة في نظر نفيسة منبع للإشعاع الثقافي والحضاري والعلمي، وخاضعة لمن يخدم الإنسان ويزيد من قوته لتحدي صعاب الحياة، فالحياة في المدينة قائمة على التعاون والغيرية، عكس القرية التي تكرس مبدأ الذاتية "في الجزائر أفكر في كل شيء ما عدا في نفسي، وإذا فكرت فيها فمن حيث اتصالها بالآخرين، وهنا لا أفكر إلا في نفسي، وإذا فكرت في الآخرين فالاتصال ذلك بشيء يخصني..." (34).
إن البطلة تسعى لجعل الثقافة العقلانية والعملية التي تصدر عن المدينة تنتصر على الثقافة الغيبية والأسطورية التي تحكم عقلية الريف "سأعود إلى القرية لأستقدم الطالب" (35)، "الشيخ حمودة طبعا، هل هناك من هو أحسن منه" (36). فسكان تلك القرية يؤمنون بالشعوذة والمشعوذين، ويعتبروهم سببا لشفاء الكثير من الأمراض، فجاء فضاء المدينة الذي دعت إليه نفيسة كنقمة على فضاء القرية، فحاولت التحرر منه.
والملاحظ أن تركيز الكاتب كان أكثر على فضاء القرية، هو فضاء يتسم بالقهر والاستبداد، مما جعل نفيسة تقارن بين تلك القيم التي اكتسبتها في المدينة، وترفض الأولى على أساس أنها غير عادلة، وقد لاحظنا أن فضاء المدينة يكاد يغيب من الرواية، ولم يذكر إلاّ حين راحت نفيسة تسترجع ذكرياتها التي تركتها وراءها عند عودتها إلى قريتها حيث ستقضي عطلتها الصيفية. وهذا ما أدى إلى تغييب عنصر السجن في الرواية، الذي يعد إحدى المؤسسات الرئيسية للمدينة، إلاّ ما ذكر من سجن رمزي للقرية، تلفظت به نفيسة ككلمات ثائرة في لحظة الغضب.
إن اختيار أسماء حقيقية هو من باب ما أسمته "فــرنســـواز جــوبــون فــان روســـوم" (le véritable)، وهو ما يمكن التحقق منه في الواقع، فاختيار أسماء حقيقية للمدن والأحياء والشوارع يعطي للقارئ إحساسا بأنه يستطيع أن يتحقق من وجودها، وأن يذهب إلى زيارة هذه الأماكن (37)، فالأماكن التي ذكرها الكاتب في روايته يمكن تجسيدها على أرض الواقع، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال بعض العبارات التي بثها ضمن أسطر الرواية ومنها الملفوظات التالية: "أتريد أن تذهب إلى البرج" (38)، "أما ما يميز القرية المركزية عن غيرها من قرى الناحية فهي أولا المقر الإداري والعدلي والتجاري لكل الناحية، ثم هي معبر للطريق الرئيسي الذي يربط بين الجزائر وقسنطينة وطريق السكة الحديدية. ومن هنا كانت لها هذه الأهمية بالنسبة للقرى الأخرى واعتبرت مركزية" (39)، "محطة مزيتة هي أقرب محطة إلينا" (40)، فكل هذه الاماكن قد ثبت لها وجود في الواقع، ومعبرة عن المنطقة التي عاش فيها ابن هدوقة، إذ يمكن التحقق من وجودها في الواقع. وكذا مدينة الجزائر التي وصفتها نفيسة بشوارعها الطويلة المزدحمة، وبناياتها الشاهقة والبحر المطل عليها،كلنا نعلم أنها فضاءات أخذها الكاتب من هذا الواقع.
في الواقع إن الخيال الروائي من صنع الكاتب ولكنه يأخذ بيد القارئ ليوجهه في هذا العالم الذي يعتمد أساسا على الواقع الذي أخذ منه مادته، ولكنه لا يمكنه بحال من الأحوال أن يكون مطابقا له تماما، وكذلك نلاحظ بالنسبة لوصف غرفة نفيسة، ووصف الغابة التي تاهت فيها هذه الأخيرة، وصفا دقيقا، حتى ليكاد الكاتب يجعلها شاخصة أما من نراها رأي العين التي تلتقط كل شيء للوهلة الأولى.
مما سبق يتبين أن رواية "ريح الجنوب" مبنية أساسا على فضائين مركزيين متضادين تمر من خلالهما مجموعة من القيم التي تعبر عن ذلك التناقض الذي أفرزه انتقال الجزائر من عالم التخلف إلى عالم الحضارة، فأبى الكاتب في الرواية إلاّ أن يجعل نفيسة تعود إلى فضائها العائلي، حيث ينتصر فضاء القرية على فضاء المدينة، كما أن الكاتب أسبغ على البطلة قناعته الفكرية الثورية الاشتراكية وجعلها تتحدث باسمه لتعبر عن تلك القناعات التي يؤمن بها الكاتب، فكبلها بقيوده، وتحدث من خلالها. فابن هدوقة معروف بالوفاء لمبادئه التي تدعو إلى قيم العدل والمساواة بين الناس في إطار المبادئ الاشتراكية، ومن ثم سخر أبطال هذه الرواية لتحقيق هذا الغرض، لمعالجة هذا الواقع الاجتماعي المتسلط. وتعتبر المغامرة التي قامت بها نفيسة في القرية هي في الحقيقة مهمة كلفها بها الكاتب ليختبر مدى الانسجام الكامن داخل الذات المثقفة المستوعبة لمعلومات الجامعة تحت على أمل التأثير في البيئة الريفية وتوجيهها نحو الالتئام مع المدينة وإيديولوجيتها.
الهوامش:
- Henri Mitterrand, le discours du roman puf, 1980, 7193.
- Henri Mitterrand « préface » in Deni Bertrand, espace et le sens, paris, Amsterdam, Ed, Hadès, I Benjamin, 1985, p9.
- Voir : R.Bourneuf et R, ouellet, I roman puf, 1980, p 99.
- ينظر حميدة لحميداني، بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2000، ص56.
- م ن، ص 62.
- ينظر: م ن، ص 62.
- J.Courtes, analyse sémiotique du discours, Op cit, p 30.
- A-J Greimas, J.Courtes, dictionnaire raisonné de la théorie du langage, OP.cit, p133.
- عبد الحميد بن هدوقة، ريح الجنوب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط5، ص 8.
- م ن، ص 266
- م ن، ص 216
- م ن، ص 8
- م ن، ص 8
- م ن، ص 9
- رشيد بن مالك، مقدمة في السينمائية السردية، دار القصبة للنشر، حيدرة، الجزائر، 2000، ص98.
- ريح الجنوب، ص8
- م ن، ص 10.
- ريح الجنوب، ص 38.
- رشيد بن مالك، مقدمة في السينمائية السردية، ص 99.
- ريح الجنوب، ص87.
- م ن، ص 90.
- ينظر: رشيد بن مالك، مقدمة في السينمائية السردية، ص 100.
- ريج الجنوب، ص 86.
- م ن، ص 91
- م ن، ص 88.
- حسين نجمي، شعرية الفضاء (المتخيل والهوية في الرواية العربية)، المركز الثقافي العربي بيروت، ط1، 2000، ص 147.
- ريح الجنوب، ص218.
- م ن، ص 237.
- م ن، ص 237.
- م ن، ص 217
- رشيد بن مالك، مقدمة في السينمائية السردية، ص 102.
- م ن،ص98.
- ريح الجنوب، ص 216.
- م ن، ص 216.
- م ن، ص 210.
- م ن، ص 210.
- ينظر: سيزا أحمد القاسم، بناء الرواية (دراسة مقارنة الثلاثية نجيب محفوظ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984، ص 83.
- ريح الجنوب، ص 69
- م ن، ص 66
- م ن، ص 236.