الرواية الجزائرية ومسايرتها للواقع

بلمشري مصطفى
إن الحركة الأدبية في الجزائر تواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها الجزائر من أجل حفر أخاديد حضارية جديدة ذات أثر عميق، ولهذا كانت الرواية أكثر تمسكا وارتباطا بالحياة الواقعية، بحيث أنها تشكل لنا جزءا من هذه الحياة بمختلف ظروفها. لقد انتهجت الرواية الجزائرية التيار الواقعي لان هذا التيار هو أكثر ارتباطا بالحياة الاجتماعية والإنسان، كما أنها رفدت المسيرة الثورية بكل جزئياتها. لقد استمد الأدباء الجزائريون مادتهم من واقع الجزائر الذي عاشوا فيه في عصر الثورات الثلاث. ومن الروائيين الجزائريين الذين برزوا على الساحة الأدبية، الطاهر وطار، وابن هدوقة عبد الحميد، وإسماعيل غموقات وبوجادي علاوة وغيرهم من الروائيين الذين عالجوا مشاكل المجتمع بأسلوب واقعي، وتعمقوا في تصوير الظواهر الاجتماعية وأبرزوا دلالاتها الخفية.
رواية (الزلزال) للطاهر وطار. إن هذه الرواية تعتبر أخصب وأثمر وأعمال الطاهر لأنها عبرت عن الواقع بملامح فنية بعيدة عن اجترار الفواجع الشخصية وأنها أكثر التصاقا بقضايا الإنسان المعاصر في الجزائر المعاصرة. لقد جسدت لنا هذه الرواية مرحلة تاريخية في بلادنا ألا وهي إعلان الثورة الزراعية، وهي إحدى الثورات الثلاث التي تهدف إلى تغيير الريف الجزائري وإزالة الفوارق الموجودة بينهم وبين المدينة، وإخراج الفلاح من التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وجعله يشعر بأن يعيش في وطنه لا فرق بين ريفه ومدينته، بالإضافة إلى توزيع الأراضي على الفلاحين الذين كانوا مستغلين من قبل الإقطاعيين، وأن هذا المضمون الاشتراكي لم يكن اختياريا تعسفيا وإنما جاء من أجل تغيير وجه الجزائر وأحداث التحرر الكامل للمجتمع الجزائري وضمان الترقية والاستغلال اللذين يطحنان سكان القرية نتيجة الجهل والتخلف بالإضافة إلى التخاذل. لقد وفق الأديب في تجسيد الظلم الاجتماعي الموجود في هذه القرية التي تراكمت فيها مختلف مظاهر التخلف وظلت هذه القرية تعاني مشاكل اجتماعية كانعدام الماء والكهرباء وبعض المرافق الضرورية كالمدرسة وهذا ناتج عن اختلال التوازن في توزيع الثروات، فهناك مناطق ظلت تنمو على حساب المناطق الفقيرة المحرومة. فابن الصخري إقطاعي تحجر قلبه فهو يستغل السكان فامتص منهم ماء الحياة وتركهم حطاما، والبطل (سي البشير) معلم جاء إلى هذه القرية لنشر التعليم والقضاء على الأمية، لأن المعلم له تأثير مباشر وفعال في توعية المجتمع، ولكن مهمة سي البشير لم تقتصر على التعليم في المدرسة فحسب، بل راح ينشر الوعي السياسي والاجتماعي في أوساط سكان القرية، فهدفه واضح، كان يقصد من عمله هذا إخراج السكان من دائرة التخلف الذي يعيشون فيه، ولكن ابن الصخري الإقطاعي بدأ يشعر بالخطر يهدده ويهدد أملاكه، عندما رأى المعلم يقوم بتوعية السكان فبذل مجهودات من أجل إغلاق المدرسة ولا يريد لها أن تفتح أبوابها حتى يضطر المعلم إلى ترك القرية ويواصل هو في استغلال السكان وامتصاص عرقهم وتكوين الثروات على حسابهم.
إن البطل (سي البشير) مواطن ثوري من أبناء هذا الوطن الذين وعوا المرحلة التي تمر بها الجزائر، إنه يخدم هدفا وطنيا برؤية ثورية واضحة، إنه رجا واع وثوري، والسكان يقدرونه ويحترمونه، إنه يعمل جاهدا لجعلهم يثقون بهم وبحمله التوعية، ولكن هؤلاء الريفيين لهم عاداتهم وتقاليدهم فلم يريدوا التخلي عنها. ولكن المعلم مصمم على تغيير عقليتهم المتحجرة وإبعادهم عن تلك الخرافات والعادات التي لا تخدم البلاد ولا الثورة. فهو يريد أن يبني حاضرا مشرقا ومستقبلا زاهرا، وجعل نهاية لأمسهم المظلم. فالروائي ابن هدوقة أراد عن طريق بطله أن يحدث تغييرا في المجتمع الريفي، ولكن الإقطاعي ابن الصخري يتصل بالبلدية من أجل تجميد مشروع الماء، وهذا بمساعدة ابنه الذي يشتغل في البلدية ككاتب عام، فالبطل يشعر باليأس في الأخير ويحاول ترك القرية والعودة من حيث أتى ولكن الواجب الوطني يناديه ويحتم عليه البقاء ومواجهة حقيقة التغلب على الصعاب، فهو أبدا في صراع نفسي داخلي بين الماضي والحاضر وصراع خارجي بين الناس والأحداث وبخاصة مع الإقطاعي ابن الصخري. إن رواية (نهاية الأمس) سجلت لنا مرحلة تاريخية، جرت أحداثها في الريف الجزائري وقد نجح الروائي فنيا وفكريا في تجسيد ما عانى منه الفلاح في عهد الاستغلال، فكشف لنا النقاب عن ملابسات هذه المرحلة المتمثلة في إعلان وتطبيق الثورة الزراعية. فمضمون الرواية يتلخص في عرض حال الفلاح والريف قبل إعلان الثورة الزراعية التي تهدف إلى إصلاح الوضع الاجتماعي، لقد أكسب ابن هدوقة عمله الفني صفة الفعل الثوري والصمود في وجه أعداء الثورة ومواصلة تحدي الواقع المر.
أما رواية (ريح الجنوب) هي الأخرى تعالج موضوعا وطنيا يتمثل في تطبيق الثورة الزراعية، ولكن الكاتب اهتم في هذه الرواية بقضية المرأة بحيث كان الجزء الكبير يتحدث عن الفتاة المتعلمة ومشاكلها وخاصة إذا كانت من أسرة غير متعلمة وغير متفتحة. وإننا نلمس شيئا من التشابه مع رواية الزلزال (للطاهر وطار) ولكن الأسلوب مغاير والرؤية مختلفة عن الزلزال اختلافا كبيرا. إن الروائي من خلال معايشته للواقع عن كثب جسده لنا في تجربته الواقعية، فشكل ذلك التعايش منعطفا جديدا في الرواية الجزائرية – يهدف من وراء عمله الأدبي تحسين الأوضاع الاجتماعية وتبديل بعض العادات. لقد عبرت هذه الرواية عن المجتمع الجزائري برؤية نقدية واضحة وبأسلوب قريب إلى عمليات الفهم بمعطيات ذوقية وفنية.
الشخصية الرئيسية في هذه الرواية فتاة متعلمة هي (نفيسة) تعود إلى القرية حيث تسكن أسرتها التي تنتمي إلى الطبقة الغنية الإقطاعية، أنها لعبت ايجابيا بحيث حاولت جاهدة تغيير بعض العادات الفاسدة التي عشعشت في عقول السكان وآمنوا بها إيمانا قويا. جاءت للقرية لتقضي عطلتها الصيفية، ولكنها تصطدم بخبر تزويجها من شيخ البلدية، (مالك) فترفض رفضا باتا وتتمرد على سلطة الآباء. الأب كانت له أهداف غير ثورية من تزويج ابنته من رئيس البلدية، هو التقرب إلى السلطة وبالتالي التهرب من تحديد ملكيته من قبل الثورة الزراعية، لأنه إنسان لا يهتم بمصلحة الآخرين بقدر ما يهتم بمصلحته الخاصة. فشيخ البلدية شاب ثوري شارك في الثورة التحريرية واستحق بعد الاستقلال هذا المنصب الشريف، أما الأب كان يعمل إلى جانب فرنسا ولهذا استطاع أن يجمع أملاكا كبيرة ويستغل الفلاحين طوال الاحتلال وبعده، ولكن بعد إعلان الثورة الزراعية تحرر الفلاح من استغلال الإقطاعيين بفضل القيادة الثورية التي حررت المجتمع الريفي من الاستغلاليين وضمنت له الترقية الكاملة لتحقيق الازدهار. والرواية لم تعتمد على الشخصيات المحورية (نفيسة والأب ومالك) ببل اعتمدت أيضا على شخصيات ثانوية مساعدة منها شخصية الراعي (رابح) الذي كان يرعى الغنم عند الإقطاعي (أب نفيسة) هذا الراعي الذي أفنى جزءا كبيرا من حياته في خدمة هذا الإقطاعي يحاول مغادرته وطلك بعد استفسارات سمعها من نفيسة حول الثورة الزراعية ومراكز محو الأمية والقضاء على الفقر والتخلف وذلك بالانضمام إلى إخوانه الفلاحين الذين استفادوا من الثورة الزراعية ومراكز محو الأمية والقضاء على الفقر والتخلف أن هذه الفكرة شغلت باله، وبالفعل يترك منزل الإقطاعي بعد شجار بينه وبين نفيسة عندما تشتمه لما دخل غرفتها ليلا وهي نائمة. فالبنت نفيسة تصاب بمرض خفيف فتسارع الأم إلى إخبار زوجها عن حالة ابنتها فيبادر هو الآخر إلى إحضار رجل مشعوذ، يقوم بأعمال مخالفة لديننا الحنيف فيستعمل البخور من أجل إبعاد الجن الساكن في جسم نفيسة، ولكن نفيسة لن تؤمن بهذه الخرافات فتطرده من بيتها، لأنها مثقفة ومتفتحة على ثقافات مختلفة وعلى عالم عصري تسود قيم ونظم جديدة، ترفض هذه البدع والأعمال الشيطانية التي مازال سكان الريف يؤمنون بها، فنفيسة تصر على الفرار لتذهب إلى خالتها في العاصمة، وفي الطريق لسعتها حية، فأنقذها الراعي وحملها على حمار إلى بيته حيث مكثت عدة أيام ولمّا علم أبوها أنها موجودة عند الراعي، حمل البندقية وتوجه نحو مسكن الراعي، ولكنه لحق في وقت متأخر، لقد انقلبت البنت مع الراعي نحو الحافلة، ونجى الراعي والبنت من الأب.
أما الشخصية الثانية المساعدة هي رحمة، تلك العجوز التي عمرت طويلا وكانت تساعد المجاهدين أيام الثورة التحريرية ومن بينهم (مالك) الذي لم ينس خيرها ومساعدتها، ولما سمع بمرضها من جرّاء سقوط الطين عليها الذي كانت تحمله على ظهرها لتصنع منه الأواني الفخارية وتبيعها، فيبادر إلى بيتها يقف إلى جانبها يسهر على خدمتها ولكنها لم تدم تلك الحال فيختطفها الموت ويحزن الجميع على موتها.
إن الرواية كانت تنمو من الداخل نموا طبيعيا وتجنح إلى خلق حالة من الانفعال الخفيف، كما أننا نجد بنيتها اعتمدت المكان والزمان في رسم الأجواء اللازمة للشخصيات.
(الشمس تشرق على الجميع) لإسماعيل غموقات: إن مضمون هذه الرواية يختلف كل الاختلاف عن الروايات السابقة التي سبق دراستها، أنها ضمت في مضمونها الثورات الثلاث (صناعية، زراعية، وثقافية).
إن نظرة إسماعيل غموقات التقدمية في مساهمته الفعالة في محاولة تطوير المجتمع الجزائري من خلال أدب جزائري مبرأ من الأذى والزيغ. فالشعب الجزائري الذي عانى أثناء الاحتلال من ضيم المستعمرين واضطهادهم عانى كذلك بعد الاستقلال من استعباد واستغلال الإقطاعيين، ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى أحداث ثورات وطنية تهدف إلى تغيير المجتمع الجزائري عامة والمجتمع الريفي خاصة وإخراجه من عزلته وإلحاقه بالمدينة مع توفير الحياة الكريمة للفلاح وتخليصه من قبضة الإقطاعيين. إن أحداث هذه الرواية تدور في زمان إعلان الثورات الكبرى، إن الشخصيات المحورية لعبت دورا بارزا في إظهار القيم الثورية التي امنوا بها وعملوا ما في وسعهم من أجل نشرها في أوساط السكان. إن رضوان شاب ثوري وطالب في الثانوية، ينتمي إلى أسرة فقيرة وهو ابن شهيد، يحاول أمه لكي تذهب إلى المصنع وتشتغل هناك. أما رحمة فهي من أسرة متوسطة أبوها يبيع الفول من أجل توفير القوت لأسرته، ولكن رحمة بعدما وعت أبعاد الثورة الزراعية وأهدافها الوطنية النبيلة شرحتها لأبيها ولكنه لم يقتنع بفكرة إعطاء الأراضي للفلاحين، وفي النهاية تنتصر عليه رحمة ويقرر الانضمام إلى المستفيدين من الثورة الزراعية، وهكذا استطاعت أسرتا رضوان ورحمة أن تقضيا على حياة الحرمان والبؤس بفضل الثورة الصناعية والثورة الزراعية. إن قطاع التربية والتعليم هو الآخر عاش زمنا بعيدا عن الأهداف التربوية التي عملت الجزائر على غرسها في نفوس الطلبة عن طريق التربية الصحيحة والتعليم السليم.
إن سميرة من البنات الساقطات اللواتي يمارسن الحب في بيت الناظر مع جماعة من الأساتذة، إنها زميلة رحمة ورضوان في الدراسة تحاول جر رحمة تلك البنت الطاهر إلى زريبتها ولكن الفتاة من أسرة شريفة لم تنزلق في طريق الرذيلة رغم إغراءات الناظر وأستاذها. وبعد أن تصل العقدة إلى ذروتها تذهب رحمة إلى الشرطة لإبلاغهم عن الناظر وجماعته فتلقي القبض على الجميع بينما رضوان تفرج عته ويتزوج رحمة. إن هذه الرواية عبرت عن واقع الجزائر قبل الثورات الكبرى، بوعي فكري وبرؤية ثورة عميقة، وعكست لنا علاقات بعض الأشخاص وانعكاساتها على المجتمع وعلى الآخرين.
إن الرواية الجزائرية عكست اهتمامات الناس وصورت معاناتهم اليومية وعبرت عن همومهم الحياتية وأحاسيسهم الوجدانية برؤية ثورية واقعية. وإن الروائيين الجزائريين اعتمدوا المدرسة الواقعية لأنها تولي الموضوعات الاجتماعية عناية خاصة، كما أنهم استقوا مادة موضوعاتهم من واقعه الاجتماعي المعاش. فكان أدبهم صورة للمبادئ الوطنية التي آمنوا بها.