الدلالة المفارقة للمكان الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة... قراءة في روايتي ريح الجنوب ونهاية الأمس

بقلم الدكتور عثمان بدري من جامعة الجزائر
بقلم الدكتور عثمان بدري من جامعة الجزائر
- موقع الكاتب الروائي عبد الحميد بن هدوقة في الرواية العربية الحديثة.
- مفهوم المكان الروائي بوجه عام وعند عبد الحميد بن هدوقة بوجه خاص.
- الدلالة المفارقة للمكان الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة - نماذج ودلالات-
I-I: في تاريخ المثقفين والأدباء ومطلق الذين يتعاطون الفكر والفن، مظالم كثيرة، وهي مظالم متنوعة يتصل بعضها بطبيعة النظم الاجتماعية والسياسية والحضارية السائدة، ويتصل بعضها الآخر بأصالة وتميز الخطاب الثقافي أو الادبي في خارطة ما هو سائد ومتواضع عليه.
إلا أن هناك من المثقفين والأدباء من حجبوا – وإن لم يحتجبوا – وظلموا في حياتهم – وإن أنصفوا في مماتهم الشخصي – بسبب أخلاقهم الانسانية العالية التي ارتفعت بهم إلى مصاف الطفولة البريئة التي لا تعرف إجراء حسابات الربح والخسارة في المواقع والوسائل والغايات.
ولعل في أدبنا الجزائري الحديث نماذج كثيرة من هذا النوع الانساني المتعالي الذي بقدر ما ضحى وأعطى على كل المستويات، بقدر ما ظلم ولم يأخذ شيئا في حياته الشخصية. ولا شك أن أحد أبرز هؤلاء – إن لم يكن أبرزهم على الاطلاق – الكاتب الروائي عبد الحميد بن هدوقة (1925- 1996) - رحمه الله – الذي يعد معلما رياديا متميزا في الحركة الثقافية الجزائرية الحديثة بوجه عام، وصوتا أدبيا متفردا فيما يتعلق "بتأسيس" و"تأصيل" الشكل الروائي الفني الجزائري الحديث بوجه خاص. هذا الشكل الذي يتخذ من اللغة العربية الروائية بأشكالها ومستوياتها السردية المتنوعة وسيلته الفنية التي تتمثل وظيفتها الاستراتيجية الأساس – زيادة عن وظائفها التقنية الاجرائية – في إعادة بناء الواقع الاجتماعي بعلاقاته المكانية والزمنية والبشرية والإيديولوجية، الخاصة أو العامة، المتماثلة حينا والمتخالفة حينا آخر، كما تمثلته – الواقع ومثلته، وكما انفعلت به وعبرت عنه المخيلة الروائية لعبد الحميد بن هدوقة، وليس كما هو عليه قبل أن (يؤسلب) ويتملكه الخطاب الروائي.
ورغم ما يحف بمفهوم (الواقع ) (le réel) و (الواقعية) (1)(le réalisme) من اضطراب وتناقض، فإننا يمكن أن نصنف الأعمال الروائية لشيخ الرواية الجزائرية العربية الحديثة في عداد "الواقعية الانتقالية" التي تجمع لغتها بين "الوظيفة التمثيلية" و "الوظيفة التعبيرية"، في آن معا، مما طبع كل الأعمال الروائية لعبد الحميد بن هدوقة بظلال شاعرية، شفافة، موحية، ربما كان مبعثها – زيادة عن الاسلوب الانتقائي – أن المخيلة الروائية لهذا الروائي، قد تربت في وهج المأثور الشعري والأسطوري الشعبي بوجه خاص. ومعنى ذلك أو واقعية عبد الحميد بن هدوقة – شأن واقعية نجيب محفوظ – ليست واقعية بلزاكية مؤسسة على منجزات الفكر المادي" الوضعي "المناهض للمثالية والرومانسية معا، كما أنها ليست واقعية ايديولوجية ذات خطاب واحدي آمر، كما بدا ذلك في بعض الأعمال الروائية المتحمسة للفكر الاجتماعي والاقتصادي الماركسي، وإنما هي واقعية انسانية غير "متمذهبة" أو "ممذهبة"، رغم انتصارها للقيم الانسانية النبيلة الخيرة، التي تدفع بحركية التاريخ والحضارة الانسانية إلى الأمام كالحرية والعدل والديمقراطية والتقدم والرقي المادي والمعنوي والروحي للفرد والمجتمع على حد سواء.
2-I: وإذا كانت الرواية في أحد أهم تعاريفها: " هي صورة الحياة " (2) فإن عملية الادراك المادي المحسوس للحياة لا يمكن، بل يستحيل أن تتم بدون ثلاثة عناصر متلازمة حينا، ومستلزمة لبعضها حينا آخر، وهي: المكان والزمن والشخصية أو - بالأحرى – "الفعل والفاعل ومأواهما"، فهذه العناصر الاساس هي التي تأسس عليها وبها العمران الحضاري قديما وحديثا، وهي التي استثمرتها مطلق أشكال الكلام البشري بوجه عام وعمقت الوعي بأهميتها الوظيفية والدلالية مختلف الاشكال السردية بوجه خاص، والرواية الواقعية بوجه أخص. ورغم أننا لا نستطيع - علميا – أن نفصل بين هذه العناصر الاساس وذلك لأنها إن لم تأت بأشكال متلازمة الظهور، فإنها تأتي مختزلة في بعضها طبقا لعلاقة "الاستلزام الضمني"، رغم ذلك، فإن الضرورة المدرسية والمنهجية المؤقتة، تسمح لنا أن نميز فيما بينها، بهدف تعمق الدلالة الفنية التي تتكامل وتتفاعل لإنتاجها كل هذه العناصر مجتمعة.
وفي هذا السياق تأتي مشروعية دراستنا للدلالة المكانية المفارقة في روايتي: "ريح الجنوب" و"نهاية الأمس" لعبد الحميد بن هدوقة.
ولاشك أن من أهم وظائف اللغة الروائية في الخطاب الروائي الواقعي على وجه الخصوص، تكرسها لعملية الايهام بالحضور المادي المحسوس للمكان الخارجي الموضوعي، وذلك: "لأن الانسان بطبيعته يميل إلى حمل المجهول على المعلومات والموجود بالقوة على الموجود بالفعل والعام المجرد على الخاص العيني المحسوس" (3). إلا أن المكان الذي نعنيه ليس هو المكان الخارجي الموهم به وإنما نعني بذلك "المكان الفني" (4)، الذي صنعته اللغة الروائية بحيث لا يكتسب وظيفة جديدة لا تتطابق مع وظيفة نظيره الموضوعي الخارجي، وإن شاكله وحمل عليه جزئيا أو كليا. لأنه – باختصار – المكان المظهر في الكلمات والجمل والفقرات والمقاطع والفصول، ومن ثمة في النص الروائي كله بوصفه إبداعا في اللغة وباللغة.
فإذا سلمنا بهذا الملمح، وانتقلنا إلى معرفة أهمية المكان الروائي، كما تؤسس له الدراسات النقدية الحديثة، فسنجد أنه: يمثل محورا أساسيا من المحاور التي تدور حولها نظرية الأدب.. غير أنه لم يعد مجرد خلفية تقع فيها الاحداث الدرامية، كما لا يعتبر معادلا كنائيا للشخصية الروائية فقط، ولكن أصبح ينظر إليه على أنه عنصر شكلي وتشكيلي من عناصر العمل الأدبي، هذا بالإضافة إلى أن المكان كان وما يزال يلعب دورا هاما في تكوين هوية الكيان الجماعي، وفي التعبير عن المقومات الثقافية في جميع أنحاء العالم"(5).
بل إن أهمية المكانة في الدلالة على الحياة الانسانية تفوق أهمية دلالة الزمن عليها، أو فلنقل – بعبارة أخرى – إن إدراك الانسان للزمن ولدلالته يتم بواسطة الاحالة على المكان، وذلك لأنه - المكان - : أكثر التصاقا بحياة البشر من حيث أن خبرة الانسان بالمكان وإدراكه له تختلفان عن تجربة في إدراكه للزمان. فبينما يدرك المكان إدراكا غير مباشر من خلال فعله في الاشياء فإن المكان يدرك إدراكا حسيا مباشرا" (6).
إن الحياة بوصفها "صيرورة"، تدرك من خلال التغير الحتمي الذي يخضع له الانسان والحيوان وكل الكائنات الاخرى في الوجود، مما يعني أن الحياة هي الزمن المتغير، المتغاير، الذي لخصته حكمة أحد الفلاسفة اليونانيين بقوله: إنك لا تستطيع أن تستحم في النهر مرتين"، ولكن أهمية المكان تكمن في كونه هو – إن صح هذا التعبير – "مأوى" الحياة أي مأوى الزمن و"مسقط" هويته ودلالته، فعلا وفاعلا ومنفعلا.
ولعل هذا ما تمثله وانفعل به شاعر المعاني المولدة أبو تمام عندما قال:
نقل الفؤادك حيث شئــت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم من منزل في الارض يألفه الفتى وحـنينــه أبــدا لأول مـنزل
وإذا: "فلا يوجد مكان بدون زمان ولا زمان بدون مكان، فالمكان بطبيعته زمني والزمن بطبيعته مكاني" (7).
ولعل أهم إدراك نقدي تبلورت فيه "علاقة الاستلزام" للمكان والزمان، هو إدراك الناقد المتميز، مخائيل باختين، وذلك من خلال مصطلحه العلمي، التركيبي المعروف باسم: "الزمكان" (8) (CHRONOTOP) الذي يبدو أنه إنجاز علمي ينتمي إلى مجال العلوم الرياضية والفيزيائية، قبل أن يستثمره باختين في نظرية الرواية.
وسواء كنا بصدد المكان الفردي الذي يتعلق بجسم الانسان كمدرك مكاني وبالحيز الذي يأويه وبالأشياء التي تقتضيها ضرورات حياته، أي "بالقوقعة" الصغرى في حياة الكائن الحي، أو بصدد "القواقع" التي تكون ما يسمى بالمكان الجماعي والاجتماعي العام الذي تتلاشى فيه أو تتعارض معه القواقع الفردية الخاصة لتبرز إرادة المجتمع المدني ممثلة في المؤسسات والنظم التي تؤول الوصاية عليها إلى الدولة، كشخص اعتباري، أو كنا بصدد المكان الأعم، الذي يخرج عن مجال النفوذ المباشر للمجتمع أو الدولة فإن الاهم في كل هذه المظاهر المكانية هو الدلالة الفنية التي تؤدي بها اللغة الروائية وظيفتها في بناء المكان أو الزمن أو الشخصيات الروائية، لتولد منها وبها - في نهاية المطاف – "رؤية للعالم" (9) "vision du monde " متولدة عن "التعارض" أو "التناقض" (10) (contradiction) بين ما هي عليه الحياة أو الواقع أو المجتمع خارج الوعي الروائي، وبين ما يجب أن تكون عليه من منظور الروائي، مما يجعل هذه الرؤية لعالم، محققة للفهوم الاصيل الذي يسكن كل أشكال الخطاب الأدبي بوجه عام، والخطاب الروائي بوجه خاص، وهو مفهوم: "المفارقة" (11) (paradoxe) الفنية المركبة، التي لا تقتصر دلالتها على تفاعل وتفعيل مبدأ "التناقض" أو على المزج بين "التهكم" و"السخرية" (12) (ironie)، وإنما هي تجمع بين كل هذه المفاهيم داخل الخطاب الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة بوجه عام، ومن خلال الدلالات المظهرة أو المضمرة، الحاضرة أو الغائبة، للمكان الروائي عنده بوجه خاص.
3-I: والواقع أن القراءة الاستطاعية الافقية لروايات عبد الحميد بن هدوقة تجهلنا نستخلص أن الملمح الفني المهيمن على ما عداه هو عنصر الزمن الوائي كما يمكن أن نتمثل ذلك - بادئ ذي بدء - "في مؤشر" (index) العنونة الخارجية التي وسمت وسميت بها روايات عبد الحميد بن هدوقة، إذا باستثناء رواية "الجازية والدراويش" التي "تأسطر" فيها الواقع، فإن الزمن هو العنصر المظهر والمهيمن في ثلاثة روايات هي: نهاية الامس وبان الصبح، غدا يوم جديد، كما أنه - الزمن – هو العنصر الذي لم يكن مظهرا ومهيمنا، فقد "مكنت" - أي صرت مكانا – دلالته الفنية في الرواية التأسيسية الاولى "ريح الجنوب" ليس بالنسبة لإنتاج عبد الحميد بن هدوقة فحسب، وإنما بالنسبة للرواية الجزائرية الفنية الحديثة كلها.
وكما هو واضح من التراكيب اللفظية لهذه العناوين فإن عبد الحميد بن هدوقة، ينهج الطريقة التقليدية الشائدة التي نهجتها ولهجت بها جل عناوين الرواية العربية الحديثة، خصوصا عند الروائيين الواقعيين، حيث يتكون العنوان من "عبارة" تقوم - غالبا - على عنصرين متضايقين إلى بعضهما، أولاهما هو "المسند" والثاني هو"المسند إليه"، كما يبدو ذلك في عنوان: "ريح الجنوب" الذي يقوم تركيبه اللفظي والصوتي والدلالي على "تضايف" اسمين منسجمين مع بعضهما في هذا السياق الروائي وإن اختلفت دلالتهما المعجمية الجزئية الجاهزة خارج سياق النص الروائي. ورغم ما يبدو لنا في هذا العنوان الروائي التأسيسي من وضوح وبساطة فإنه يمتلك قابلية "الانزياح" (13) (écart) الدلالي بوعي المتلقي عما هو مظهر في "ملفوظه"، أي أنه زمان يبدو أقرب إلى منطق "الصورة الزماكانية" المعبرة بدلالتها عن مجال آخر مضمر، غير المجال المرافق لها والمظهر فيها. فبإضافة "الجنوب" - وهو مفهوم جغرافي - إلى "ريح" وتخصيص نعت: "الريح" بالجنوب، يتأسس لدى المتلقي انطباع زمكاني سلبي شبيه بالانطباع الذي تتركه فينا عبارة: "الارض الخراب" (لتوماس اليوت) (T.S.Eliot) (14) (1988- 1965) بل إن عنوان "ريح الجنوب" هنا يستحضر معه دلالة الريح العاصفة، القاصفة، المدمرة التي وردت في القران الكريم، حيث يقول جل جلاله: "كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته" (15)، "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية" (16). كما يستحضر معه – أيضا – المثل القائل: "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، كناية عن تبرير الفشل الناتج عن افتقاد الارادة لمواجهة المكاره الطارئة أو المحتملة.
وفي كل الاحوال فإن الأهم هو: ما هي الاحتمالات الدلالية التي يحيلنا عليها عنوان "ريح الجنوب"، كلافتة خارجية و"كلزامة" داخلية ترددت عبر النص الروائي، بشكل صريح ومباشر أكثر من عشر مرات؟
الواقع أن هناك جملة من الاحتمالات الدلالية التي تتكامل فيما بينها لتعزيز اختيار عبد الحميد بن هدوقة لعنوان: "ريح الجنوب" دون غيره، رغم وجود بدائل أخرى كثيرة داخل الرواية، كان يمكن أن تكون عنوانا دالا. ومن أهم هذه الاحتمالات:
- أن عبارة ريح الجنوب – فيما نرى – هي العبارة الانسب للتعبير عن مفهوم "وحدة الانطباع" التي انفعل بها الكاتب وأراد أن يوصلها ويتواصل فيها مع المتلقي.
- أن الفضاء المكاني والاجتماعي والأخلاقي والحضاري الاشمل لهذا العمل الروائي هو فضاء الريف الجزائري الذي يعاني التخلف المادي والمعنوي من داخله ومن خارجه في آن معا.
ولكي يعمق الروائي وعي المتلقي بهذا الفضاء فقد جعل له من عبارة: "ريح الجنوب" معادلا لفظيا وصوتيا ودلاليا.
ج- أن عبارة "ريح الجنوب" تستلزم معها ضمنيا عبارة: "ريح الشمال"، على سبيل التناقض، مما يجعلنا نؤول العنوان ثم الرواية كلها، تأويلا أعمق وأشمل مما جاء في ملفوظها، وهو أن الاشكالية الكبرى التي تطرحها هي اشكالية الصراع غير المتكافئ بين الجنوب والريف المتخلف الفقير، المستغل، والذي كان دوما مصدر عطاء وتضحية، وبين الشمال المزدهر ماديا وحضاريا، والذي كان دوما في موقع المستهلك، المستغل – بكسر العين – ومن يدري فلعل فكر ووجدان عبد الحميد بن هدوقة بدأ يستبق فكرة الحوار بين الشمال والجنوب في الاطار الدولي؟
وفي سياق إظهار عنصر الزمن الروائي تأتي عناوين "نهاية الأمس"، "بان الصبح"، "غدا يوم جديد"، فالملفوظ المشترك في كل هذه العناوين هو الزمن في حين يأتي المكان والشخصية كعنصرين مضمرين تقتضيهما علاقة "الاستلزام الضمني" ف "نهاية الأمس" ، عبارة زمنية بمظهرها ومضمرها، وهو – عنوان نهاية الأمس – يقوم على ما يشبه الصيرورة الزمنية في طرفيه، وهي صيرورة جاءت في سياق الماضي، وذلك لأن نهاية الأمس" تستلزم ضمنيا "بداية الأمس"، وفي الحالتين معا فإن "الأمس كبداية" و"الامس كنهاية" يتعلقان بالماضي التاريخي، الذي يبدو أن الروائي كان يعني به – فيما يعنيه – التناقضات الاجتماعية الحساسة الناتجة عن نهاية الاستعمار الفرنسي من جهة وعن الثورة الجزائرية التحريرية الكبرى من جهة ثانية. وإذا كان المجال الزمني المظهر في "نهاية الأمس" يتعلق بالماضي، فإن عنوان رواية: "بان الصبح" يتعلق بالحاضر والمستقبل معا، وإن كانت الصيغة الشكلية للعنوان هي صيغة الماضي. والعنوان بكامله عبارة عن جملة زمنية بسيطة تتكون من فعل ماضي: "بان" ومن فعل زمني بطبيعته وهو "الصبح".
وكما أن عبد الحميد بن هدوقة قد عبر بريح الجنوب وبنهاية الامس تعبيرا كنائيا، فقد فعل الشيء نفسه في عنوان "بان الصبح" الذي يبدو أنه قد عبر به عن مخاض التعددية والديمقراطية بوجه عام، وعن حرية المرأة في ظل التعددية والديمقراطية بوجه خاص.
أما عنوان "الجازية والدراويش" فهو – في الواقع- عنوان فني، متميزا تميزا كليا عن العناوين الروائية لعبد الحميد بن هدوقة فهو على عكس عناوين الروايات السابقة لا يقوم على إظهار عنصر الزمان والمكان على تفاوتهما، وإنما يقوم على إظهار عنصر الشخصيات الروائية المحفوفة بدلالات أسطورية ورمزية مركبة تجعل هذه التجربة الروائية جزءا لا يتجزؤ من صميم التجارب الروائية الحديثة التي ترتاد وراء الواقع الخارجي، الموضوعي، المعلب مكانيا وزمنيا وبشريا ودلاليا. وكون هذا العنوان يقوم على إظهار عنصر الشخصية، كقناع رمزي أسطوري، مؤسس في "مفارقة" الجمع بين الجازية والدراويش، لا يعني غياب عنصري المكان والزمن، وذلك لأنه لا معنى لأي مدرك خارج المكان والزمن، وبهذا التصور للشخصيات نفسها "مدركات زمكانية"، ذات أحجام وكتل وأبعاد تشغل أحيزة خاصة وعامة، مغلقة أو مفتوحة، وترتبط بأشياء مادية محسوسة، طبيعية أو اصطناعية لصيغة بها أو توجد في المدارات التي يتميز بها عالمها.
وطالما أنها كانت حية، أو أقنعة رمزية أريد لها أن تكون حية، فإنها - بالضرورة – مدركات زمنية تتغير وتتغاير، وتغير وتغير، في سياق الماضي والحاضر والمستقبل.
وتبدوأفاق "الزمكنة" في عنوان: "الجازية والدراويش" أكثر إلحاحا إذا استأنسنا بالفرضية التي مؤداها أن هذه الرواية رمز فني مركب للجزائر في الزمن الرديء الذي افتقدت فيه فارس أحلامها ومطمح شبابها وآمالها، سواء تعلق الامر بالنظام السياسي والمحتوى الإيديولوجي الذي تساس به،أم تعلق – وهذه من تلك في الواقع – بلائحة المواصفات الوظيفية المفترضة في "الشخص" أو "الأشخاص" المكافئين لها أولا والمؤهلين لقيادتها ثانيا. وفي غياب أو تغييب هذا المرموز له صارت محطة أنظار الطامعين من كل حدب وصوب، داخليا وخارجيا، بما في ذلك الدراويش الذين هم -عادة- في حكم المجانين بالقوة وإن لم يكونوا كذلك بالفعل.
3-2: ولكن مهلا، فإن إلحاح عبد الحميد بن هدوقة على ملمح الزمن في حياة المجتمع الجزائري الحديث، كان – في الواقع – بسبب المكان وبواسطته ومن أجله.
"المكان الفني" الذي نعيد روايات عبد الحميد بن هدوقة بناءه وصفيا وسرديا وتعبيريا بوجه عام، وتركز عليه روايتا "ريح الجنوب" و"نهاية الأمس" بوجه خاص، وليس هو المكان الجغرافي المغلق الذي يمكن أن نقول عنه – كما بدا للكثير ممن درسوا أعمال بن هدوقة - بأنه (هو وليس غيره)، (ريف وقرى المنصورة مثلا)، وإن بدا الامر كذلك للوهلة الاولى بحكم التشاكل الجزئي أو الكلي، وإنما هو المكان الانساني والاجتماعي "المكين" أو "اللامكين"، أو – بعبارة أوضح وأدق – المكان الذي تتحقق فيه أو تنتفي منه "المكانة" الاجتماعية و"السلطة" السياسية والإيديولوجية والنفوذ الاقتصادي المادي المحسوس، ثم أنه المكان النموذجي المتعدي الذي يمكننا أن نقول عنه بأنه "هو" و "غيره"، أو بأنه "هو" وكل "النظائر والأشباه" التي هي في حكم دلالته، سواء أكان ذلك على مستوى النظائر والأشباه المتناثرة بوسط وشرق وغرب وجنوب وشمال الجزائر أو كان على مستوى النظائر والاشباه المتناثرة هنا وهناك في فضاءات وأحيزة المجتمعات التي تخضع كل أنظمة حياتها المادية والمعنوية والروحيةلمنطق العىقات الاستغلالية من الداخل ومن الخارج، ونعني بذلك تلك المجتمعات التي نعتت من موقع الشمال الاوروبي الغربي المستعلي عنها والمستغل لها معا، بنعت: "العالم الثالث".
وفي إطار هذا المنظور الدلالي الشامل، واستثمار المفهوم "الهيمنة" (dominant) فإننا لاحظنا أن الدلالة الفنية المفارقة في روايتي: ريح الحنوب ونهاية الأمس، ناتجة عن البناء الروائي لما يمكن أن نسميه بالمجال المكاني الوظيفي، والدلالي الأساس، الذي يمكن اعتباره مجالا مكانيا مرجعيا ميمنا تتمحور حوله الاحداث الروائية، الاساس أو الفرعية، وتنعقد عليه عملية الدفع والجذب، والفصل والوصل، بين الاماكن والأشياء الجزئية التي تكون يتضايفها إلى بعضها (مرأى) القرية الريفية في العملين، ثم بين نوايا وأفعال وأقوال الشخصيات الروائية، والأساسية أو الثانوية، بوصفها – انطلاقا من الاسماء والألقاب التي تحملها – جزءا لا يتجزأ من الاطر المكانية التي تأويها وتتحرك باتجاه الخارج أو الداخل، في فلكها.
ويتمثل هذا المكان "الدافع" "اللافظ" حينا، و"الجاذب" "المستقطب" حينا آخر، في "الأرض" بما فيها وبما عليها، الارض التي يمتلكها ويدافع عنها بشراسة حيوانية، الاقطاعي المزيف، والشخص الاستغلالي المراهن، (عابد ابن القاضي) في رواية ريح الجنوب، فالأرض في كلا العملين هي المحال الوظيفي و(الموضوعاتي) (tematique) الاساس، الذي تولدت منه مختلف أشكال الصراع الروائي الدرامي القائم على مبدأ "التعارض" الذي يصل إلى حد "التناقض" بين الشخصيات الروائية، في المواقع والطبائع وفي الوظائف والمصالح، وفي مطلق الاهتمامات والرؤى الإيديولوجية، كما يمكن أن نتبين ذلك من خلال العناصر الاتية:
3-2-1: توليد الدلالة المكانية المفارقة للأحداث الروائية في: "ريح الجنوب" و "نهاية الامس"
رغم تنوع وتعدد الاماكن الروائية عند عبد الحميد بن هدوقة فإن مفهوم المكان عنده ينطبق عليه تماما التحديد الذي يرى أن: "الاطار هو البيئة والبيئات – وبخاصة البواطن البيتية – قد تصور على أنها تعبيرات مجازية عن الشخصية إن بيت الانسان امتداد لنفسه، إذا وصفت البيت فقد وصفت الانسان (17). إذ يستحيل علينا أن نفصل خصائص وأفعال وأقوال ورؤى الشخصيات الروائية عند عبد الحميد بن هدوقة وبين المدركات المكانية لها، سواء تعلق الامر بالأحيزة التي تسكن إليها وتتقوقع فيها، مثل: منزل أو بيت عابد ابن القاضي، والكوخ الوضيع الذي يمثل "مأوى" الراعي رابح ووالدته البكماء، أو تعلق بالأحيزة التي تنتشر عبر فضائها، والتي تمثل مظهر ومخبر مكانتها وسلطتها المادية والمعنوية، مثل "الأرض" والماشية التي يمتلكها عابد ابن القاضي في رواية "ريح الجنوب" والبساتين الخصبة النظرة، المنسقة، الشاسعة التي يمتلكها ابن الصخري في رواية "نهاية الأمس" ...إلخ.
إلا أن اللافت للإهتمام عند عبد الحميد بن هدوقة، هو أن بلاغة المكان الروائي فيهذا الصوت الروائي، التأسيسي، المتواضع تكمن في أن الدلالة المكانية – وليست المكان – هي التي كانت مبعثا لمختلف أشكال الصراع الدرامي الذي جسدته وعبرت عنه الاحداث الروائية المفارقة بين الروايتين معا، مما يجعل المكان عند عبد الحميد بن هدوقة يكتسب وظائف ودلالات "الشخصية الاعتبارية" الفاعلة التي بسببها وبواسطتها ومن أجلها ينشأ وينمو ويحتد الحدث الروائي الدرامي المفارق في الروايتين. ويمكن أن نختبر هذه الفرضية على ضوء ما وقع من أحداث روائية أساسية يستثمر فيها عبد الحميد بن هدوقة ملمح الدلالة المكانية المفارقة.
ففي رواية "ريح الجنوب" نجد أن الحديث المتداول في القرية عن الاصلاح الزراعي والتسيير الذاتي، يحدث اهتزازا عنيفا في كيان شخصية الاقطاعي عابد ابن القاضي الذي يبدو أنه من أولئك العملاء التاريخيين للوعي الاقطاعي الاستعماري في الجزائر، ولذلك راح يبحث عن مخرج "انتهازي" يخفف من وقع ما يتناهى إليه من جهة، ويعزز موقعه الاقطاعي المتمثل في السيطرة على الارض وفي التسلط بها على حياة الناس البسطاء، الفقراء، الأميون، الذين كانوا ضحية للاستعمار الفرنسي، في الوقت الذي كان فيه نمط عابد ابن القاضي حليفا ضمنيا له، من جهة ثانية. ويأتي هذا الحل الاصطناعي في شكل "صفقة" مادية، تجارية، إلتمعت في ذهن عابد ابن القاضي في الماضي أثناء الثورة، وتجددت بشكل مماثل في الحاضر فيما بعد الاستقلال. وهي أن "يقايض" – على كل الاقطاعيين المتسلطين – بابنته نفيسة، الطالبة الجامعية بالجزائر العاصمة، زوجة لمالك، المجاهد ورئيس البلدية المجاورة ثمنا لتأمين الأرض (المكانة) والأرض (السلطة) من العوادي المتوقعة في الآفاق (18).
وقبل أن يستكمل الراوي البرنامج السردي الذي يقوم على موضوع "المصاهرة" بين عابد ابن القاضي وبين مالك في الحاضر، فإنه يعمق وعي المتلقي باستحالة التواصل والتعايش بين الوعي الاقطاعي القائم على الهيمنة والاحتكار والتوسع والانتشار، وبين الوعي الجمعي والجماعي الذي أثمرته مختلف أشكال المعاناة المادية والمعنوية للجزائريين الذين بافتقادهم للأرض التي سلبها منهم الاستعمار الفرنسي مجسدا في الاقطاعيين الوافدين من الخارج والمحليين المقيمين بالداخل، افتقدوا هويتهم وفعل كينونتهم. ويتم ذلك من خلال انفتاح البرنامج السردي للحدث الاساس في الحاضر على برنامج سردي مناظر له في الماضي البعيد، الذي يعود لما قبل بداية النص الروائي بكثير، وتحديدا إلى زمن اشتعال الثورة سنة 1957 (19).
والملاحظ أن عبد الحميد بن هدوقة فنان روائي يتقن مهارات سردية كثيرة قلما وجدناها إلا عند الروائيين المحترفين الكبار، كاستخدامه لتقنية "العودة إلى الخلف" (flash back)، التي أتاحت له أن يوظف بمهارة تقنية "القص من خارج النص في إطار القص داخل النص" أو ما يعرف بـ "القصة داخل القصة" (20) (a framend narrative)، حيث يدخل في قصة نفيسة ومالك المقترحة كبرنامج سردي آني، من قبل عابد ابن القاضي، كمقايضة يعزز بها موقعه على الأرض، قصة (مقايضة) مادية، في الماضي ولكنها تكاد تكون هي القصة "المقايضة" التي صنعها عابد ابن القاضي في الحاضر (21)، أي في زمن استقلال الجزائر.
ورغم وجود تفاصيل كثيرة متفرعة عن الحدث الروائي الدرامي الاساس برواية "ريح الجنوب"، فإن الدلالة التي يمكن استخلاصها من ذلك تتمثل في أن الوعي الاقطاعي بطبيعته وعي استغلالي مؤسس على منطق "المقايضة" المادية، المجردة من كل القيم والروابط الانسانية الخاصة أو العامة ومن ثم يستحيل أن تستقيم الحياة أو يكون لها معنى في ظل هيمنة هذا الوعي. وهذا – على وجه التحديد – ما اقترحه علينا عبد الحميد بن هدوقة في رواية ريح الجنوب بتأكيده على أهمية دلالة المكان الروائي م،ختزلا في الأرض، لا بوصفها محل تنازع وتعارض بين أقلية مستغلة – بكسر الغين – آمرة، ناهية، تمتلك كل شيء بما في ذلك ذمم البشر، وبين أغلبية ساحقة، مستغلة – بفتح الغين – لا تمتلك حتى إرادة التصرف في حياتها الشخصية، فحسب، وإنما تأتي "كمعادل موضوعي" (22) (objective correlative) لتهافت مفهوم وآليات السلطة التقليدية المؤسسة على تضخيم عقدة "الأنا" من جهة، ولتهافت الوعي الاقطاعي الاستعماري الوافد الذي عزز موقع السلطة الفردية المهيمنة على البلاد والعباد، كما جسدت ذلك شخصية عابد ابن القاضي في ريح الجنوب وشخصية ابن الصخري في نهاية الامس.
ولكي يقيم عبد الحميد بن هدوقة الحجة على تهافت هذه السلطة المزيفة من داخلها، فقد ولد منها عوامل مفارقتها التي ستعصف بنمط السلطة المهيمنة لشخصية ابن القاضي بوساطة الارض المسلوبة ظلما وعدوانا.
إن هذا "المنظور الروائي" (23) (perspective narrative)، الذي يبدو فيه الروائي منتصرا لإرادة التغيير الجذري الهادف، هو الذي "ينظم" و "ينتظم" كل العناصر الفنية في رواية نهاية الامس. إذ رغم وجود اختلافات جزئية كثيرة بين الروايتين فإنهما تتكاملان في إطار الاشكالية الكبرى المؤسسة لهما. فالإطار الذي تقوم عليه رواية "نهاية الأمس" يتمثل في الصراع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والحضاري والايديولوجي المحتدم بين إرادتين متعارضتين في المواقع والطبائع والوظائف والرؤى تتمثل الاولى في إرادة التغيير الجذري العميق لواقع القرية الريفية الموغلة في التخلف والعزلة والجهل والخضوع، وتتمثل الثانية في إرادة تثبيت واقع هذه القرية على ما هو عليه بهدف تحقيق المزيد من الانتشار والنفوذ الاقطاعي الذي لا مبرر لوجوده إلا بإعلاء القيم والمصالح الفردية الشخصية على القيم والمصالح الاجتماعية العامة. وكما هو الامر في رواية ريح الجنوب فإن "محور" التعارض بين هاتين الارادتين في رواية: "نهاية الأمس" يتمثل في المكان، بوصفه هو الدافع والوسيلة والغاية.
والمكان الذي نعنيه هنا هو المكان "المهيمن" الذي يتشاكل مع نظيره في رواية ريح الجنوب، وإن لم يكن هو المكان الجغرافي عينه. وهو – تحديدا – يتمثل في بسط النفوذ ونزع النفوذ على الارض القروية الريفية الجزائرية التي احتد واشتد التعارض حولها في الخطاب السياسي والإيديولوجي الجديد الذي تمثل الثورة الزراعية لافتته الكبرى.
وإذا كانت الاحداث الروائية الاساس في رواية ريح الجنوب مؤسسة (على) ومتولدة (عن) "مقايضة" النفوذ على الارض بالإنسان – بوصفه في منظور الاقطاعيين – مجرد كم مادي ملحق بالأرض وبمطلق الحيوانات والأشياء المتعلقة بها، فإن الاحداث الرواية في رواية "نهاية الأمس" مؤسسة (على) ومتولدة (عن) مبدأ "التعارض" بين سلطة شخصية الاقطاعي (ابن الصخري) المثبتة للزمن والمفرغة للحياة من محتواها الانساني والحضاري، وبين إرادة حية، حيوية، متحركة ومحركة للمكان والزمن والإنسان باتجاه الامام، كما جسدها وعبر عنها عبد الحميد بن هدوقة في شخصية البشير (المعلم)، التي تمثل الشخصية الروائية الاساس في رواية نهاية الامس من جهة، والتي تمثل "مأوى" رؤية الروائي في النص كله من جهة ثانية.
وإذا كان المكان الروائي ممثلا في الارض التي كانت مبعثا للصراع الدرامي في رواية: "ريح الجنوب"، غير ممركز بالقدر الذي يجعل "مساقط الضوء" مركزة على أماكن أو أشياء بعينها أكثر من غيرها، فإن المكان الروائي في رواية نهاية الامس يأتي ممركزا بحد ذاته وممركزا –بكسر الكاف- لكل الاماكن والأشياء والأفعال والأقوال والنوايا التي تكون الصورة (البانورامية) لشخصية هذه القرية الريفية الميتة بالحياة. بل إننا لا نكون مبالغين إذا قلنا أن "رؤية العالم" (vision du monde) عند عبد الحميد بن هدوقة في رواية نهاية الامس مختزلة و"مبأرة" (24) (من التبئير) (focalisation) في عنصر "زمكاني" متميز في التاريخ الطبيعي للحياة، ومن ثمة في نشأة وتطور الحضارة الانسانية كلها.
ويتمنثل هذا العنصر "الزمكاني" في "الماء" كمعادل لخصوبة واستمرار وعطاء الحياة حين حضوه وامتلاكه، ونفي لها حين غيابه أو تغييبه.
فإذا كانت الارض المتصارع حولها على امتداد النص الروائي مهمة، فإن مكمن الصراع الحقيقي في هذه الرواية يعود بالأساس إلى ملكية أو عدم ملكية عنصر الماء. ولعل هذا المؤشر يفسر لنا استيلاء الاقطاع الفرنسي الاجنبي وربيبه الجزائري، على الاراضي الخصبة التي تتوفر على احتياطات جزئية جوفية وسطحية غزيرة، كسهول متيجة مثلا.
ويبدو أن عبد الحميد بن هدوقة – بحكم تجذر وعيه الفلاحي من جهة وبحكم وعيه التراثي النافذ من جهة ثانية- في توظيفه الفني لهذا العنصر الطبيعي، الحيوي، الفعال كان متماثلا للآية الكريمة التي تقول بخوص الاهمية الوظيفية للماء: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" (25)، والدليل على ذلك أننا وجدنا لهذه الجملة القرانية الزمنية التي قررت وظيفة الماء على سبيل الإطلاق، ما يناظرها وظيفيا ودلاليا في لغة النص الروائي، من موقع تمثل الراوي لمنظور شخصية البشير (المعلم) الذي يحمل رسالة التغيير الجذري انطلاقا من تحريري الماء الذي حجبته إرادة الاقطاعي ابن الصخري خصوصا إذا تعلق الامر باعتبار أن الماء والمدرسة وجهين لعملة واحدة: " آه الماء أيضا ....كل فكرة لا تنطلق في نفسه حتى تعود إلى قضية الماء. عليه إذن أن يبحث قضية إيصال الماء إلى المدرسة كنقطة أولى في برنامج عمله الطويل..."(26). وفي سبيل هذه المهمة المقدسة التي تقوم على علاقة الجدلية والتبادلية للماء والمدرسة ينمو الصراع الروائي الذي تقوم الاحداث الروائية المنجزة فيه على التعارض بسبب ومن أجل الماء الذي تحتكره وتحجبه عن الاخرين إرادة الشر مجسدة في شخصية الاقطاعي الماكر ابن الصخري الذي لم يكتف بتعطيل وتمييع العلاقة الوظيفية التكاملية بين المدرسة والماء، دفاعا عن موقعه وإنما كان وراء تخطيط وتنفيذ كل التصرفات العدوانية التي حدثت بالقرية، والتي من أبرزها – علي سبيل المثال- رجم المدرسة والبشير بالحجارة وتفجيرها لمسجد القرية، ثم رجم المدرسة وإصابة البشير بجروح بليغة كادت تقضي عليه، وإشاعة تهمة الشيوعية والكفر والإلحاد عن شخصية البشير.
والواقع أن عبد الحميد بن هدوقة إذ يركز وعي المتلقي بالأهمية الوظيفية والدلالية للماء فذلك لأنه رأى فيه "بؤرة دلالية" تستلزمها – على سبيل الحتم- كل مقتضيات التغيير الجذري الذي تهدف الثورة الزراعية كما تمثلها ومثلها إلى تحقيقه باللفعل أو بالقوة. وواجهة هذا التغيير الجذري تتمثل في إقامة علاقة وظيفية حتمية بين وظيفة الماء والمدرسة معا. إلا أننا حين نتمثل ما وراء الواجهة الخارجية لهذا الصراع المتعارض من بداية الرواية إلى نهايتها، سنجد أن المهمة الحقيقية التي يبدو أن الراوي قد اتفق فيها ضمنيا مع شخصية البشير تتمثل في زلزلة الوعي الإقطاعي والاستغلالي، المتحكم في حياة قرى وأرياف المجتمع الجزائري، الذي بالرغم من تحرره من الوجود الاستعماري الاجنبي فإنه لا يزال غارقا في أوحال التخلف الوادي والمعنوي والروحي والحضاري المرعب. وهو ما يمكن أن يتضح أكثر على مستوى تحليلنا لدلالة بعض المشاهد المكانية الأهم في الروايتين.
2-2-دلالة المكان الروائي في "ريح الجنوب" و"نهاية الامس" (نماذج ودلالات)
2-2-1 في "ريح الجنوب":
رغم وجود بعض المؤشرات المكانية الدالة على الاحداث الروائية الهامة بالفصل الاول من الرواية، فإن المنطلق الحقيقي لحدث "المقايضة" التي تقوم عليه هذه الرواية قد تمثل في بداية الفصل الثاني منها –الرواية- وتحديدا في المشهد الزمكاني الاحتفالي المؤطر زمنيا ومكانيا بالزيارة الرسمية الاولى من نوعها في القرية، والتي قام بها مالك: رئيس البلدية، بغرض تدشين مقبرة الشهداء (27).
ولعل المفتاح الاساس لدلالة المكان الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة يتمثل في تقنية الوصف عنده. فكما يتضح من هذا المشهد، فإن عبد الحميد بن هدوقة لا يهتم كثيرا بتمثيل وتجسيد كل التفاصيل والجزئيات الدقيقة للمكان أو الشخصية أو الزمن، بقدر ما يهتم بالتقاط –أكاد أقول لاقتناص- بعض الخصائص الانتقالية التي تتيح له أن يثبت في وعي المتلقي "وحدة الانطباع" العام الذي تشر به وعيه الذهني والوجداني والحسي من المشهد المكاني المنجز للمقبرة. فهو –بهذه الانتقالية- يسلك منهج الروائيين الواقعيين التعبيريين، الذين بقدر ما جسدوا المكان وأوهموا بحضور حقيقته الموضوعية الخارجية، بقدر ما عبروا به عن الشخصيات الروائية نفسها أولا، وعن رؤية الروائي للواقع ثانيا (28).
فمن دلالات الاقتضاء المكاني في هذا المقام، التدبر والاعتبار والخضوع والتأمل والحزن، خصوصا إذا علمنا بأن المقبرة قد شيدت على أنقاض مشروع المدرسة، إلا أن الروائي أبى إلا أن يؤطره تأطيرا "احتفاليا" يجعل منه مبعثا للفرح والسرور والبهجة التلقائية العابرة إلى حد جعل بعض الشخصيات تمثل لجو المتعة الاحتفالية (التهرجية) في هذا المقام بالمثل الشعبي القائل: "إذا شبعت الكرش تقول للرأس عني لي !" (29)، دلالة على الجوع المادي والمعنوي. ومن الواضح أن لعبد الحميد بن هدوقة من وراء ذلك مقاصد تعبيرية متنوعة من أهمها:
-أنه عبر بذلك عن أقصى وأحد مستويات الحرمان المادي والمعنوي لعموم سكان هذه "القرية المقبرة"، المنغلقة، التي قلما يجود فيها الزمن بمثل هذه الفرص الاجتماعية النادرة، بل المنعدمة في حياة أهل القرية.
-أنه يعبر، تعبيرا "مضمر السخرية" من تغلغل "عقدة الحاكم" في أعماق هذه النسخ البشرية ذات الكينونة المتلاشية في الحاكم، الذي يعد مجرد ظهوره بينهم مناسبة فريدة يعربون له فيها بشكل "كرنفالي"، عن الطاعة والولاء، وذلك من خلال قرع الطبول والنفخ على المزامير والضرب على الدفوف.
-كما أن الراوي يسخر من تهافت علاقة المحكومين (الشعب) بالحاكم، فإننا لا نستبعد أن يكون قد عبر بهذا المشهد الاحتفالي، عن (سخرية مضمرة) من احتواء السلطة للرعية، سواء في ذلك السلطة الاقطاعية العرفية ممثلة في شخصية عابد ابن القاضي، أو السلطة الرسمية (السياسية) ممثلة في شخص مالك، رئيس البلدية والموكب المرافق له. إذ رغم تعارضهما، فإنهما معا سلطتان تتضخمان وتتعاظمان ليس بحدث تدشين مقبرة الشهداء فحسب، وإنما بما يصاحب أو يتولد عن هذا الحدث من ردود فعل الامتنان والولاء والشكر للمحكم إزاء الحاكم. وتتضح كل هذه الدلالات إذا علمنا أن التدشين الرسمي والشعبي لهذه المقبرة قد تم في فضاء متميز، ممتاز، بالقرية، وهو فضاء كان من المفروض أن تشيد به المدرسة التي كانت مخططة ولم تنجز، لأن مظاهر غياب ما يسميه (لوسيان جورلدمان) (1913-1970) (Lucien Goldaman) بـ: "الوعي الممكن" (30) (conscience possible)، قد أقبرتها، مما جعل الراوي يتهكم بذلك صراحة على لسان شخصية الطاهر (المعلم) قائلا: "وكان المعلم أكره ما يكره صوت المزمار فقال: - "لكأنه نهيق حمار ! إن عقول هؤلاء كعقول الضفادع. فبدل أن ينصرفوا إلى شؤونهم ويدعوا غيرهم يستريح، أخذت نقنقتهم الركيكة تملأ الجو ضجة ! "...
فأضاف المعلم في مزحه:
- "انهم موتى قدامى اولئك الذين دفناهم ! اما الموتى الذين يحزن حالهم هم هؤلاء الذين يملؤون البيت نواحا بمزمارهم وطبلهم" (31).
ومع اننا لا نستطيع ان نبرر وجود رموز فنية مركبة في رواية ريح الجنوب او رواية نهاية الأمس، فإننا يمكن ان نجد في تدشين مقبرة الشهداء بدلا من المدرسة المؤودة، منطق الرمز الفني الهادف الذي يقوم على مفارقة نفي "الموجب" ولإثبات "السالب"، وذلك لان وأد المدرسة نفي للوعي بالحياة في سياق الحاضر الذي يمثل عالم الشهادة، بما هو وبما سيكون (الحاضر والمستقبل)، وتشييد "مقبرة الشهداء" – لا المقبرة وكفى – اثبات للوعي بالحياة مرتبطة بالماضي التاريخي (قرينة الشهداء) والزمن السرمدي المطلق ممثلا في الموت (قرينة المقبرة)، وكلاهما معا يحيلان على "عالم الغيب". وتتضح هذه الدلالة المفارقة اكثر من خلال وجود قرائن دلالية اخرى كثيرة تضمنها هذا المشهد الزمكاني، من اهمها:
أ: أن الاهتمام المركزي "للسلطة الرسمية" (مالك رئيس البلدية) والسلطة الاقطاعية للعرفية (عابد ابن القاضي) ينبع من الماضي ويؤول اليه في الوقت نفسه. فالسلطة الرسمية (السياسية) منغلقة على اجترار الماضي العاطفي الشخصي الذي كام محل "مقايضة" اثمرت "صفقة" بين عابد ابن القاضي (الاقطاعي) ومالك المجاهد، وإن كان الراوي قد عارض انجاز هذه "الصفقة المفارقة" فاصطنع حادث موت شخصية زليخة ابنة عابد ابن القاضي وخطيبة مالك المجاهد، الذي كان يتجول في المقبرة ليستوقفه مطولا – من بين كل المقابر الاخرى – قبر خطيبته التاريخية المنقضية زليخة. وفي السياق نفيه يأتي الاهتمام المركزي للسلطة الاقطاعية (العرفية) ممثلة في زاوية نظر عابد ابن القاضي، الذي لا تعنيه – في الواقع – لا المقبرة ولا الشهداء بما في ذلك ابنته زليخة ولا الحضور من عموم سكان القرية، بقدر ما تعنيه "صفقة المصاهرة" التي يود اقامتها مع السلطة الرسمية (مالك) في الحاضر، تأسيسا على "صفقة المصاهرة التي تمكت ووئدت في الماضي. ولعل عبد الحميد بن هدوقة بقدر ما يعبر عن الفشل الشخصي والرسمي لمواجهة مقتضيات الحاضر الكئيب، بقدر ما يسخر فيما وراء سطور هذا المشهد من وهم التقارب أو المصالحة بين الثورة وبين اعدائها التاريخيين، تحت الغطاء الضمني الذي مؤداه: "عفا الله عما سلف" أولا، ويسخر ثانيا، من الذين يتصورون ان مهمة الثورة تنتهي بتحرير الرقعة الجغرافية للجزائر من التواجد الاستعمار الفرنسي، في حين ان المهمة الحقيقية للثورة تتمثل في تحرير الانسان ماديا ومعنويا وحضاريا.
ب- ان المقبرة عند عبد الحميد بن هدوقة في رواية: ريح الجنوب لا توصف استقصائيا يستوفي التعريف بإطارها ويحيط بالأشياء والعلاقات المؤطرة داخلها، وإنما هي – شأنها شأن كل المظاهر المكانية الاخرى بالقرية – عنصر فني معبر به عن "وحدة الانطباع" الذهني والشعوري والحسي الذي يتنامى عبر النص الروائي كله، انطلاقا من عنوانه، وتتمثل وحدة الانطباع هذه في تعميق وعينا بمعنى الموت بالحياة داخل عالم البواطن البيتية كحجرة نفيسة وكوخ رابح الراعي، ومن ثم داخل عالم القرية كلها.
والشعور بمعنى الموت بالحياة في هذه القرية "المفتوحة المغلقة" معا يشبه وقعه على القارئ وقع رواية "زفاف المدق" لنجيب محفوظ (32) خصوصا فيما يتصل ببناء الروائي للعلاقات المكانية للشخصية المركبة في الرواية كلها وهي شخصية نفيسة، التي يبدو عالم القرية كلها داخل منظورها النفسي المحتدم أضيق من ضيق السجن وأصمت من صمت الاموات في قبورهم، وأفرغ من فراغ الصحراء، وأنفى للشعور من المنفى. وإليك القرائن الدالة على ذلك من موقع علاقة شخصية نفيسة بالمقبرة الحياة: "كل شيء هنا يحرم الخروج، حتى الشمس!..لكن أي فائدة في الخروج الى الخراب؟ أظن أن القنابل الذرية التي يتحدثون عنها لا تستطيع أن تجعل مكانا أشد خرابا من هذه القرية..الصمت، الصمت، الصمت ! أكاد أجنمن هذا الصمت قد تكون يقظة الموتى في أجداثهم تشبه يقظتي هذه ! جدران أربع وسقف من خشب، وصمت ! أكاد أختنق من هذا السكوت وهذا الصمت !".
(وقالت مغمغة:
-"أكاد أتفجر! أكاد أتفجر في هذه الصحراء".
........
-"كل الطلبة يفرحون بعطلهم أما أنا فعطلتي أقضيها في منفى...") (34)
(وإذا رأت العجوز أتمت فنجانها قالت:
-"أنذهب يا خالة إلى المقبرة ؟ ".
-"نعن، ولذلك جئت، إن اليوم جمعة، لابد من زيارة موتانا"
......
فقالت العجوز:
"يجب أن تذهب معنا نفيسة يا خيرة...يجب ان تذهب معنا، على الاقل لتسرح رجليها...أليس كذلك يا نفيسة ؟ "
فأجابت هذه:
-"أرغب في تلك يا خالة ! أود أن أرى الدنيا. إنني اختنقت في هذا السجن " (35)
فمن خلال هذه النماذج الحوارية التعبيرية يتضح أن الدلالة المفارقة للعلاقات المرتبطة بشخصية نفيسة على وجه الخصوص، متولدة عن صراع دلالات العلاقة المكانية "الدافعة" " اللافظة" التي تمثل البواطن المكانية المغلقة، المجوفة للقرية، انطلاقا من الحجرة الخانقة عموديا وأفقيا لشخصية نفيسة: "الحجرة ضيقة طولها ثلاثة امتار وعرضها كذلك، بها كوة خارجية مطلة على البستان، ارتفاعها سبعون سنتيم وعرضها خمسون سنتيم. وفي هذه المساحة السرير القديم الذي تنام عليه نفيسة، وخزانة أشد قدما منه حيث حثيبتها وأثوابها وكتبها.
وقرب الكوة منضدة ومقعد خشبي" (36)، فالبيت الهيكلي الضخم الكيان، المنعدم الكينونة، والذي يقترن دائما بجبروت والدها البيولوجي عابد ابن القاضي، ثم مطلق أحيزة القرية التي تبدو للروائي عن بعد متلاشية في دائرة نفوذ سلطة عابد ابن القاضي، مع دلالة العلاقات المكانية "الجاذبة" "المستقطبة"، التي تمثل العالم الخارجي المفتوح متمثلا في: (المقبرة – الطبيعة المترامية – محطة القطار – الجزائر العاصمة...الخ).
وفيما يشبه القاعدة فإن المكان الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة بقدر ما يتسع ويخرج عن مدار الوصاية الفعلية أو التقديرية لسلطة الاقطاعي عابد ابن القاضي بقدر ما يكون مجالا خصبا لتحقيق التواصل والاتصال مقابل الانكفاء والانغلاق والانفصال، ولتغذية الشعور بالحرية وتجدر الهوية الفردية والجماعية مقابل مصادرتها وتلاشيهما.
وفي ضوء هذا النسق الذي يتميز به المكان الروائي عند عبد الحميد بن هدوقة، فإن دلالة الانجذاب الشعوري (الرغبة في الخروج) التعبيري: (الحديث المتبادل)، لشخصية نفيسة ووالدتها خيرة والعجوز الطيبة، الرحيمة، رحمة، نحو عالم المقبرة لا تقتصر على تركيز وحدة الانطباع العام، الذي مؤداه أن الحياة أهل القرية كما هي مجسدة في بواطنهم البيتية المغلقة، في حكم عالم الاموات في قبورهم، مما ينتج عنه أن القرية هي المقبرة والمقبرة هي القرية.
إلا أن هذا الانطباع العام الموحد الذي يتوزعه النص الروائي كله بمستويات متفاوتة، لا يأتي هنا، أي في النماذج الحوارية السابقة، في صيغة المماثلة بين "الداخل" و"الخارج"، أي بين "القرية" و"المقبرة"، وإنما يأتي في صيغة تفاضلية مقلوبة الدلالة تماما في منطق هؤلاء النسوة اللواتي تحررن – ولو إلى حين – من شبح الوصاية المرأة، الناهية، عليهن بوصفهن جزءا لا يتجزأ من الاحيزة المرسومة بعلامات حمراء لا يمكن مجرد التفكير في تجاوزها إلا بإرادة السلطة الوصية.
ومن بين الدلالات الاحتمالية لعالم المقبرة، كمجال مكاني خارجي جاذب ما يلي: -إمعان الراوي في تكسير إرادة السلطة الوصية، الآمرة، الناهية ممثلة في إرادة الرجال الذين ذهبوا إلى السوق. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن هذه الزيارة تتم من موقع "المكان الدافع، اللافظ" لشخصية نفيسة، ممثلا في حجرتها وفي دار والدها ابن القاضي، في القرية التي تبدو امتدادا لحجرتها، ومن موقع المكان الخارجي الجاذب، المستقطب، الذي جاء على سبيل إثبات الدنيا مسندة إلى الخارج، ونفيها التقديري مسندة إلى الداخل: " أرغب في ذلك يا خالة ! أود أن أرى الدنيا، إنني أختنق في هذا السجن".
-إمعان الراوي في أن ممارسة الفعل الارادي الحر لا يمكن – بل يستحيل – أن يتحقق أو تستشرق أفاقه في فلك سلطة ورقابة الاحياء الموتى بالقرية.
ولعل بن هدوقة قد جسد هذه الدلالة "الموقف"، في المنظر الطبيعي البيولوجي الذي وقع بالمقبرة، وأثار ما يمكن أن نسميه بحالة: "اندهاش الإعجاب" في شخصية نفيسة، وهو المنظر الجنسي الطبيعي لأحد الاحمرة وهو يعتلي أثاثا في حالة استقطاب. وهذا الحدث بحد ذاته لا اهمية له، ولكن اهمية دلالته تكمن في التعبير به عن عقم الحياة الفاقدة للتواصل والاستمرار والعطاء على مستوى عالم الاحياء بالقرية (37).
-أن المكان هنا يؤدي دلالة زمنية، تتمثل في استباق الايحاء بالأحداث المأساموية التي ستقع بالرواية بسبب شخصية نفيسة وبواسطتها ومن أجل فشل مقايضة والدها الاقطاعي، عابد ابن القاضي بها مقابل الارض (38).
لقد سبق أن بينا – بشيء من التجريد والتركيب – أن الدلالة المكانية المفارقة عند عبد الحميد بن هدوقة متولدة عن الصراع ببين دلالة "الداخل" "المغلق"، "الدافع" "اللافظ"، بين دلالة "الخارج" "المفتوح" "الجاذب" "المستقطب".
ولكي يتعزز في وعينا هذا النسق الفني الذي استثمر فيه عبد الحميد بن هدوقة مفهوم "التناقض"، يجدر بنا أن نرصد بعض مظاهره المكانية البارزة في رواية ريح الجنوب وفي رواية نهاية الامس، وذلك لتشاكلهما الجزئي أو الكلي في الدلالات الثنائية المتولدة عن صيغة "الداخل" نجد معظم المنشآت السكنية المهيمنة في الروايتين، كالدور والأكواخ والمقاهي.
ولعل أبرز نموذج لهذه الاماكن الضيقة، المنغلقة، الكئيبة، هو حجرة نفيسة في "ريح الجنوب" ومستشفى الامراض العقلية الذي نقل إليه بشير لمعالجة إصابته أثناء الثورة التحريرية في رواية نهاية الامس.
أما المظاهر المكانية المندرجة في مفهوم المكان الخارجي المفتوح فهي في الروايتين متشابهة كثيرا، فعلى المستوى الاجمالي الكلي نجد أن القرية التي تنفتح حينا وتنغلق حينا آخر اتجاه المدينة الكبرى: الجزائر العاصمة، هي التي تمثل الاطار الفني للروايتين، وعلى مستوى المظاهر الجزئية المؤطرة داخل إطار القرية نجد في "ريح الجنوب": (الارض الرعوية – البساتين – الطبيعة المترامية كالجبال والسماء والبحر الذي يلوح في الافق – محطة القطار- القطر – الجزائر العاصمة – الاماكن الخالية الابعد المتضمنة في الاعمال الروائية التي تنجذب إليها شخصية نفيسة، مثل رواية "الاخوة كرامازوف" لـدوستويفيسكي...الخ، وباستثناء البحر والتركيز على المدرسة والماء كعنصرين زمكانيين متميزين، فإننا نجد أن المظاهر المكانية الاخرة في نهاية الامس متماثلة مع نظائرها الواردة في ريح الجنوب. ومن خلا قيامنا بعملية احصائية، تقريبية، وجدنا أن نمط الاماكن المنغلقة ذات الدلالة السلبية تفوق من الناحية الكمية والوظيفية نمط الاماكن المفتوحة ذات الدلالة الايجابية،ففي حين لا يتجاوز نمط المكان المفتوح، الجاذب المستقطب، نسبة 37.4 %، تصل نسبة المكان المغلق، الدافع، اللافظ 68.7 % ظاي بنسبة فارقة تقدر ب: + 31.3 % ، علما بأن هناك مظاهر مكانية كثيرة تجمع بين "الداخل" و"الخارج" و"الانفتاح" و"الانغلاق" و"الدافع" و"الجذب"، كالمقبرة في ريح الجنوب والمدرسة في نهاية الامس.
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن نستخلص أن المكان الروائي بمظاهره المتنوعة يأتي في رواية "ريح الجنوب" على شكل أحيزة شبيهة بأحيزة الاراضي الفلاحية التي تفصل وتصل بينها حدود معلمة لا يمكن تجاوزها أو اختراقها دون الرجوع إلى السلطة المسيطرة عليها والمتحكمة في عملية الفصل والوصل بينها. ومن أدل الامثلة على ذلك رواية "ريح الجنوب" "باب" أو "حد" دار عابد ابن القاضي الذي بموجبه ينقسم المجال المكاني الذي يمثل سلطة عابد ابن القاضي إلى مفهومين هما: "داخل الدار" الذي تنتمي إليه وترتبط به شخصية نفيسة وأمها خيرة، الذي يمكن وصفه "المكان الحريم"، و"خارج الدار" الذي تنتمي إليه وترتبط به شخصية رابح الراعي والآخرون الذين هم في حكم موقعه ووظيفته. وبمقتضى هذا التقسيم الذي صنعته وهيمنت عليه وهيمنت به الاادة القطاعي عابد ابن القاضي – تضل نفيسة وأمها خيرة حبيستي "داخل الدار" بحكم أنهما من مقتضيات مملكة عابد ابن القاضي وفق إحداثية الـ "هنا"، ويظل رابح الراعي وأمه العجوز البكماء "خارج الدار" بحكم أنهما من مستلزمات مملكة ابن القاضي وفق إحداثية الـ "هنا" بل أكثر من ذلك فإن "صفقة المصاهرة" المزعومة بين عابد ابن القاضي وبين مالك تمت بموجب حد "داخل الدار" في الماضي وفي الحا، بـ"الهنا" أي "بداخل الدار".
ومن الواضح أن عبد الحميد بن هدوقة لم يكن يهدف بهذا التنظيم الاجتماعي الاقطاعي للمكان الى مجرد تمثيل واقع روائي خيالي مناظر للواقع الموضوعي الخارجي الذي مؤداه أن من يملك سلطة نفوذ على الأرض، يملك سلطة النفوذ على حياة البشر فحسب، وإنما يهدف – أساسا - لبناء هذا الواقع الشائه، لكي يتهكم به ويسخر منه ثم يهده ويدمره في العمق بعد ذلك. وهذا ما تم بالفعل من خلال "اختراق" شخصية نفيسة – التي تلهج بصوت الراوي وتر ببصره وبصيرته – لحد باب الدار الصغرى: دار ابن القاضي، والكبرى: القرية بوصفها مجال نفوذ سلطة عابد ابن القاضي (39)، ومن خلال "اختراق" شخصية رابح الراعي لـ"داخل" دار عابد ابن القاضي أولا (40) اختراق العزيزي لحجرة نفيسة و –اختراقه – بعد أن عاد له وعيه المفقود – لـ"خارج" دار عابد ابن القاضي، بتخليه عن رعي أغنامه والدوران في فلك سلطة ثانية (41) واتحاد إرادة نفيسة مع الاختراقات "الزمكاني" التي ألغت سلطة "الحد بين "الداخل" و"الخارج"، هي التي توجت الاحداث الروائية بالنهاية المأساوية الحادة التي يبدو أن الخاسر الاكبر فيها هو الوعي الاقطاعي الاستغلالي، مجسدا في شخصية عابد ابن القاضي، اقتحم – مثل الوحش – كوخ العجوز البكماء أم رابح، شاهرا موساه ليذبح ابنها كما يذبح الخروف، فما كان منها إلا أردته قتيلا بفأسها (43).
2-2-2: في نهاية الأمس:
إذا كان مفهوم "المقايضة" التي تنعقد وتتفكك زمنيا، ومفهوم "الحد" وإخراق "الحد" مكانيا، هما الملمحان الروائيان المتكاملان، اللذان تأسست ونمت واكتملت بموجب تفاعلها الدلالة المكانية المفارقة في ريح الجنوب، فإن الامر يبدو مختلفا بعض الشيء في رواية نهاية الامس.
فإذا كان "نسف" الراوي لصفقة المقايضة في ريح الجنوب، مرجعه حزق الحدود المحيزة بين ماهة في "داخل" و"خارج" سلطة عابد ابن القاضي، فإننا نجد أن النظام المكاني السائد في نهاية الامس أشبه ما يكون بالشكل الدائري المغلق الذي لا يتمثل في النفوذ المادي على الارض فحسب، وإنما يتمثل في احتواء سلطة الاقطاعي ابن الصخري للارض والماء وعموم الفلاحين وإمام مسجد القرية والسلطة الرسمية ممثلة في البلدية، ومن ثمة احتوائه للقرية كلها من جميع الجهات. فالقرية كلها تدور في فلك نفوذ السلطة الفعلية والاعتبارية لابن الصخري فهو يمتلك نصف بساتين القرية من الناحية الكمية، وأجودها وأخصبها من الناحية النوعية (44)، ويحتكر منبع الماء الذي تتعلق به حياة القرية كلها (45)، كما أن البساتين الفلاحية الصغيرة التي يمتلكها بعض الفلاحين في القرية، عبارة عن هوامش ليست لها أية أهمية أو قيمة بانفصالها عن المجال الحيوي لنفوذ السلطة المركزية للإقطاعي ابن الصخري.
ولذلك فإن ظهور شخصية البشير (المعلم الاندروفير)، بمشروعه الاجتماعي والثقافي والحضاري الواعد، الذي يتمثل في تفعيل المدرسة المعطلة وفي تحريري الماء المحتكر، بوصفه تحريرا للحياة الانسانية المصادرة في هذه القرية، يعد خرقا خارجيا غريبا، ليس لإرادة السلطة الاقطاعية فحسب، وإنما للقرية كلها، باستثناء شخصية واحدة وهي شخصية بوغرارة الذي كان موقفه مساندا لشخصية البشير من موقع الماضي الوطني الثوري المشترك لهما.
ولعل هذا ما يفسر أن العلاقة بين البشير، الوفد من جزائر الثورة وجزائر الاستقلال والحرية والحضارة، وبين أهل القرية الذين ابتلعتهم سلطة الاقطاعي ابن الصخري، ظلت علاقة صارع متعارض من المنطلقات والوسائل والغايات انطلاقا من المكان وبواسطته ومن أجل تحريره كما سبق أن بينا مرارا.
وهذا الصراع المتعارض في الماضي والحاضر، مؤسس – بالإضافة إلى الثنائية المتناقضة ممثلة في: "داخل""خارج" المجال المكاني على عدة احداثيات ثنائية مفارقة لبعضها، مثل: (أنا) = (الاخرون) و (الهنا) = ال (هنا).
وبمقتضى هذه الثنائيات المفارقة لبعضها، صنف البشير، كشخص ورسالة في عداد: (الاجانب) و(الاغراب) و(الابعاد)، مع شخصية العجوز ربيحة وكنتها رقية لا شيء سوى أنهما في حكم ضحايا الثورة = قطب (الاهل) و (الاقارب) الذي يمثله – هذا القطب – جل – إن لم تقل كل – سكان القرية الذين استلبت السلطة الاقطاعية أرضهم وذممهم وإرادتهم في الماضي والحاضر.
ولكي يفضح الراوي الوعي الاقطاعي المتهافت الذي أخذ التعارض فيه صيغة: "الكل في واحد" (46) = "واحد" (47)، فقد جسد ذلك في عدة أحداث عدوانية كان البشير ورسالته الحضرية التنويرية موضوعا مباشرا لها، ولعل أبرز حدثين بارزين صدرا عن إرادة الشر والطغيان والظلم والاستغلال للإقطاعي ابن الصخري، هما رجم "الاهالي" للمدرسة التي قرر البشير – رغم ذلك – أن يبعثها من مرقدها، وتفجير مسجد القرية بعد أن أيقن ابن الصخري أن مشروع تحريري الحياة المصادرة للقرية مجسدة في تحرير الماء قد وصل إلى نقطة اللارجوع.
وإذا كان الراوي في رواية "ريح الجنوب" قد أنهى الرواية نهاية مأساوية شبه مغلقة متولدة عن مفارقة "الحد" و "خرق الحد" المكاني، فإنه في رواية "نهاية الامس" قد أنهى نهاية شبه مفتوحة راهن فيها على أن إرادة التغيير الجذري التي يبدو أن عبد الحميد بن هدوقة قد تمثلها من مشروع الثورة الزراعية، تظل شريطة تفعيل وتفاعل ثلاث مرتكزات أساسية وهي أن تنطلق المدرسة في مهمتها الحضارية لأن في ذلك تحرير الارض المصادرة، وأن تتحرر المرأة وتأخذ موقعها في الحياة الانسانية الكريمة (48).
2-2-3: دلالة أسماء الشخصيات الروائية الاساس في: ريح الجنوب ونهاية الامس
مما لا شك فيه أنه لا يوجد في العمل الفني عنصر – مهما كان صغيرا – ليست له وظيفة فنية يؤديها بنائيا ودلاليا. فحتى ما يبدو هامشيا أو ثانويا بالقياس إلى غيره، يؤدي وظيفته في إطار هامشيته تلك، كما يرى ذلك (رولان بارت) (49) (Roland Barthes). وفي سياق هذا التصور فقد لفت انتباهنا مؤشر الاسماء التي انتقاها عبد الحميد بن هدوقة لشخصياته الروائية في روايتي ريح الجنوب ونهاية الامس. فكل الاسماء المستندة لشخصياته الروائية "مخططة تخطيطا فنيا دلاليا محكما لا مجال فيه لمنطق الصدفة أو للمقاصد الاعتباطية التي تخضع لها – غالبا – الاسماء في الحياة العادية خارج العمل الروائي" (50)، وإن جاءت – أسماء الشخصيات الروائية – متشاكلة مع نظائر لا تحد أو تعد، لها في الحياة العادية المألوفة.
ومع أن البحث النقدي بعد عن الخصوصيات الابداعية للكتابة الروائية عند عبد الحميد بن هدوقة، فإننا نلاحظ أنه من اولئك الكتاب الذين تنجز "الخطوط المميزة" (les traits caractéristiques) لأسماء شخصياتهم الروائية في إطار التصور الكلي للعمل الروائي، قبل مرحلة الكتابة النهائية، والواقع أن دراسة أسماء الشخصيات الروائية عن عبد الحميد بن هدوقة، معزل عن البنى الوظيفية والدلالية لها داخل النص الروائي لا معنى لها. وكما نجد في منظومة أسماء الشخصيات الروائية عند نجيب محفوظ، فإن الاسم – اسم الشخصية - عبد الحميد بن هدوقة (يفسر طبيعة الشخصية الروائية ويفسر موقعها في السلم الاجتماعي ويفسر منزعها واتجاهها الإيديولوجي، كما أن اسماء الشخصيات الروائية ليست منفصلة عن بعضها، بحيث نفسر ونؤول كل اسم شخصية في مداره الزمني أو المكاني أو القيمي أو الايديولوجي، وإنما تأتي بوصفها "علامات سيميائية"، مفتوحة على بعضها البعض، سواء أكان ذلك من خلال "علاقات التماثل"، أم كان من خلال "علاقات المخالفة") (51).
وفي سياق هذا التصور سوف نفكك دلالة اسماء بعض الشخصيات الروائية المعلمية الاساس في روايتي: "ريح الجنوب" و"نهاية الأمس".
2-2-1-1: في ريح الجنوب:
أ-عابد ابن القاضي:
في الظاهر، يندرج هذا الاسم في منظومة الاسماء والكنى ذات المواقع الاجتماعية المتوارثة التميز والامتياز. فهو مركب من اسم فاعل: "عابد" وكنية انتساب متميز: "ابن القاضي". وسواء كان هذا الاسم متشاكلا جزئيا أو كليا مع الاشباه والنظائر الكثيرة له في أعراف مجتمع الصفوة، ذات المكانة المكينة، فإن دلالته المظهر مفارقة تماما لطبيعة وموقع ورؤية ووظيفة الشخصية التي تحمله، من منظور الروائي داخل النص الروائي. فإذا افترضنا أن اسن فاعل: "عابد" يعني الامعان في الدلالة على الانسان التقي، النقي، الطائع، الذي أخلص لربه، فإن عبد الحميد بن هدوقة جعل من هذا المسند: "عابد" محل تهكم وسخرية من عادة تقنع الاقطاعيين والموسرين عموما، بالأقنعة الدينية التي يستغلونها فيها الدين لأغراضهم الشخصية ويتظاهرون به لتعزيز مواقع نفوذهم في المجتمع الفقير، المتخلف، الذي لا يزال وعيه مؤقتا على وهم التفاضل في الاسماء والكنى والألقاب النافذة المكينة بينهم، حتى وإن كان حاملوها في حكم المنافقين المرائيين. فالعابد حقا لا يتميز عن عباد الله أولا، وواقع حال "عابد ابن القاضي" أنه متميز ومميز عن عباد الله، ولا يدل عليهم ثم يستغلهم ثانيا،وواقع حال عابد ابن القاضي أن الارض بما فيها وما عليه – بما في ذلك أبناؤه! مختزلة في سلطة نفوذه. وإذا كانت الاية الكريمة تقول: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" (52)، فإن اسم عابد هنا إمعان في التزكية المفرغة من التقوى. وتزداد المفارقة تركيبا وشمولا في اسم كنية الانتساب 'ابن القاضي" الذي يستحضر معه عدة دلالات تتكامل في تفسير طبيعة وموقع ووظيفة هذه الشخصية الاقطاعية المتسلطة، منها أن القاضي هو السلطة المكينة النافذة في المجتمع بحكم القانون والشرع والعرف، ومنها أن "القاضي" كإسم فاعل يرد بمعنى "القاتل" (53)، وفي السياق التاريخي للاستعمار الفرنسي بالجزائر نجد أن "القاضي" كان أحد أهم الادوات التي سخرها الاستعمار الفرنسي لتطبيق قوانينه الجائرة، وذلك صنف القضاة في المواقع الطبقية المتميزة التي غالبا ما كان يشغلها العملاء الموالين لفرنسا كالقياد والبشغوات وذوي اليسار العقاري الواسع.
إن كل هذه الدلالات تنطبق تماما على طبيعة وموقع ووظيفة شخصية عابد ابن القاضي في النص الروائي من بدايته إلى نهايته، ولعلنا نجد في النص الاتي ما يعزز دلالة اسم هذه الشخصية على نحو ما تقدم: "لأنه رجل عمل وإقدام يأمر ولا ينتظر أن يؤمر. صحيح أن امكانياته المادية تسمح له بتنفيذ ما يريد فهو من بين سكان القرية يعتبر أثراهم،لكن ليست الثورة وحدها التي جعلته كذلك، بل مزاجه الخاص وطبيعته التي تأبى الاتكال وتأخير الامور عن مواعيدها، وهكذا فبمجرد ان علم بالوفاة بادر بإصدار التعليمات إلى القهواجي ليبلغها إلى الناس" (54).
ب-مالك:
لنلاحظ - بداية – أنه باستثناء اسم شخصية عابد ابن القاضي فإن جل اسماء الشخصيات الروائية الاساس أو الثانوية غير مركبة من مسند ومسند إليه، وإنما هي اسماء وأعلام مفردة كما يظهر ذلك في اسم شخصية "مالك" الذي هو عبارة عن اسم فاعل مشتق من "ملك - يملك - ملكا".
ولعل الراوي هنا وجد في اسم "مالك" موازيا سلطويا متعارضا، بل متنقضا مع الاسم السلطة الذي أسند لشخصية الإقطاعي: "عابد ابن القاضي" إذ بصرف النظر عن الدلالة اللغوية المعجمية لاسم "مالك" فإنه من أبرز الاسماء التي ينطبق ظاهرها وباطنها على مسماها. فمالك رجل مثقف له تاريخ مجيد وهو أول مجاهد صعد الى الجبل من ابناء القرية، وكان إطارا فعالا ومسؤولا أثناء الثورة في الماضي، وهو في الحاضر رئيس بلدية، أي صاحب سلطة وقرار بل هو أول رجل في القرية يمثل رئيس الجمهورية على شكل مصغر.
ومن ناحية الطبيعة الشخصية فإن "مالكا" شخصية قوية تملك زمام نفسها ولا تندفع وراء إغراء السلطة الرسمية التي تمثلها، أو وراء إغراء السلطة الاقطاعية التي أرادت احتواءه كسلطة معارضة في الماضي والحاضر، فلم يكن لها ذلك، بل كانت النتيجة عكسية تماما.
ج-نفيسة:
تعد شخصية نفيسة أهم الشخصيات الروائية في رواية ريح الجنوب، فهي تشغل أكبر وأهم مساقط الضوء في مساحة النص الروائي كله. وهي الشخصية الروائية الوحيدة التي ينطبق عليها تماما مفهوم "الشخصية المركبة". وهي "الشخصية المحور"، التي جعلها الروائي تستقطب شتى مظاهر الوعي الروائي السائد في القرية، إلى الحد الذي يجعل منها رمزا فنيا للجزائر المتحررة كما أراد لها عبد الحميد بن هدوقة أن تكون وليس كما تريدها سلطة المال والسياسة. بل إننا لا نذهب بعيدا حين نرى أن شخصية نفيسة في رواية ريح الجنوب هي "النواة" التي تأسست عليها شخصية "الجازية" الرمز في رواية الجازية والدراويش. ولهذا تأتي أهمية دلالة اسم: "نفيسة" الذي ارتضاه لها الراوي دون غيره.
ومن الملاحظ –عموما- أن اسماء الشخصيات الروائية، سواء عند عبد الحميد بن هدوقة أو عند غيره غالبا ما تأتي كمأوى للدلالة المكانية المكينة أو غير المكينة ب "العرض" أو "الجوهر" أو بهما معا، ((وفي هذا السياق نفسه يأتي اسم "نفيسة"، فهو اسم يحمل دلالة مكانية مرئية، وذلك أن كلمة "النفيس" تطلق عادة على الاشياء المادية الحسية ذات المظهر الجذاب والقيمة الثمينة كالذهب والفضة والحرير والأثاث الرفيع، إذ لا يقال أفكار نفيسة وقيم نفيسة...الخ، وإنما يقال معادن نفيسة وأثواب نفيسة وأثاث نفيس))(55).
ومن هذا المنطلق فإن اسم نفيسة مدرك مكاني في "الجوهر"، من منظور الروائي الذي توزعته مختلف متطورات الشخصيات الروائية الاخرى لشخصية نفيسة ما عدا منظور والدها فهي جوهرة ثمينة متألقة، جعلت العجوز الطيبة، رحمة، التي تمثل ذاكرة القرية وحجة الراوي، تتمنى أن ترسم لها أجمل صورة فنية في متحفها الفخاري الطبيعي (56)، وهي الماضي والحاضر الوجداني الذي حرك في شخصية مالك نوازع الرغبة والرهبة والإقبال والإدبار وهي التي أثارت أحلام وتمنيات الطاهر المعلم، ومن الاهم من كل ذلك أنها هي التي حررت نفسها وحررت رابح الراعي، وحررت – بذلك – القرية كلها من نفوذ سلطة الخطاب الآمر بالمظهر والمخبز، ممثلا في إرادة والدها الاقطاعي عابد ابن القاضي ومن الخضوع لسلطة الخطاب الآمر بالإضمار وذلك من خلال رفضها القاطع لمبدأ الزواج المعد أولا، ومن شخصية مالك رئيس البلدية ثانيا فهي إذن في كل هذه الحالات نفيسة بالجوهر وإن لم تكن كذلك "بالعرض". غير أن إدراك نفاستها كجوهر يتغير في متطور الراعي الاقطاعي الزائف لوالدها عابد ابن القاضي الذي لا يرى فيها جوهرا انسانيا يستوجب التكريم بدليل الاثر البينوي القائل:" ما أكرمهن إلا الكريم وما أهانهن إلا لئيم"، بقدر ما يرى فيها "عرضا" طارئيا محمولا على السلعة أو البضاعة المربحة التي تتم بها مقايضة الاشياء وفق ترجيح حساب الربح على حساب الخسارة. وذلك يعرضها – كما عرض أختها في الماضي – في معادلة: البنت الحسناء في مقابل تأمين النفوذ على الارض المهددة، انطلاقا نت القناعة الاقطاعية "التجارية" المكرسة لديه في الماضي والحاضر، وهي: "أن الأبناء هم الحل !" (57)، ومعنى هذا أن نفيسة "الجوهرة" الانساني الذي لا يعادل إلا نفسه، قد تحول في منظور عابد ابن القاضي - والدها ويا للأسى – إلى نفسية "العرض" الطارئ الذي يتداول به في معرض اتساع النفوذ بدافع الاشياء وبها ومن أجلها. أي أنها ضمنيا صارت في حكم نقيض الاسم أي تحمله وهو: "رخيصة". إلا أن الراوي الذي آل على نفسه أن تكون نفيسة – وهي صوته المميز – بما هي عليه في الرواية كلها، هي "نفيسة" "الجوهر" الذي لا يعادل إلا نفسه، يكشف عن تهافت الوعي الاقطاعي الزائف لشخصية عابد ابن القاضي، من داخله، أي من خلال موقف التحدي الجذري لشخصية ابنته نفيسة نفسها.
2-2-3-2: في رواية نهاية الامس:
أ-دلالة اسم شخصية البشير:
إذا كانت دلالة اسماء الشخصيات الروائية في رواية ريح الجنوب، أدخل في المجال المكاني منها من المجال الزمني، فإنها في رواية نهاية الامس أدخل في المجال الزمني منها في المجال المكاني. ولعل ذلك –يتضح أكثر ما يتضح – في اسم شخصية "البشير".
والواقع أن دلالة هذا الاسم الدافئ، الواعد، لا تقتصر على مجرد المادة المعجمية الناشئة عن التحولات الصرفية، الاشتقاقية لمادة فعل: "بشر" "كالتبشير" و"البشرى" و"البشارة" و"البشر"، وذلك لأن كل هذه الدلالات وإن تجانست وتكاملت في استشراق أفق لواقع واعد مفتوح على المستقبل، فإنها تظل رهينة الدلالة على ذلك "بالقوة" ولكي تتحول الدلالة بالقوة إلى الدلالة "بالفعل" يجب أن نفسر دلالة اسم "البشير"، بوصفها ما يجب أن يكون من منظور الراوي، في تعارضه، بل في تناقضه مع ما هو كائن وقائم بالفعل، من جهة، بوصفه، من جهة ثانية إعلان عن رسالة انسانية نبيلة تستهدف تغيير واقع الحياة الانسانية للقرية باتجاه الافضل والأرقى والأنقى.
وفي هذا السياق فإن دلالة "البشرى" و "التبشير" و"البشارة" و"البشر" في اسم: "البشير"، هي – في الواقع – نفي لكل الدلالات الناشئة عن النقيض المضمر في اسم "البشير" المظهر، أي "النذير" الذي – عادة – ما يرد سياق الشؤم والوعيد والخوف والرعب. في حين يرتبط اسم البشير بالصيغة الجديدة التي يجب أن يكون عليها مجتمع القرية الريفية التي غيب الاقطاع والجهل والفقر وعيها بالحياة الانسانية الكريمة، يرتبط اسم "النذير" المضمر في اسم: "البشير" بالصيغة التقليدية المكرسة في حياة هذه القرية التي صادرت سلطة ابن الصخري – الذي ينطبق عليه اسم النذير – هويتها المادية والمعنوية والروحية والحضارية.
وتجنبا للإطالة فإننا يمكن أن نقول أن الراوي قد عبر باسم البشير عن المتغيرات الجذرية الجديدة في واقع المجتمع الجزائري بوجه عام، وفي واقع الحياة الريفية الجزائرية بوجه خاص، وتتمثل هذه المتغيرات في أن التمكين لمشروع الثورة الزراعية، بوصفها حدثا مناهضا للوعي الاقطاعي الاستغلالي الذي لا يمكن أن تكون له مصداقية إذا لم يكن مؤسسا على التمكين للثورة الثقافية، ولذلك نجد أن "الرسالة النبوءة" التي تبشر بها شخصية البشير، وظيفيا ولفظيا، تتمثل في "البشرى" الثلاثية التي تتمثل في تحرير "الماء" و"المدرسة" "المرأة" من مدار الوعي الاقطاعي، الاستغلال الذي صادر الحياة باحتكاره للماء وكرس الغيبوبة عن الوعي بتجميده للمدرسة وثبت الزمن والتاريخ باحتقاره للمرأة.
ب-دلالة اسم شخصية "ابن الصخري":
إذا كان اسم شخصية البشير مؤسس –بفتح السين – ومؤسس – بكسر السين- لدلالة الزمن الواعد، المشرق، الذي يتمثل الحاضر المتجه نحو المستقبل، فإن اسم ابن الصخري مؤسس (ب) ومؤسس للدلالة المكانية الممعنة في الصلابة والثقل والثبات. والملاحظ هنا أن هذه الشخصية لا تحمل اسم علم عيني خاص بها، وإنما هي تحمل كنية انتساب ليس إلى بشر وإنما إلى الحجر الصخري العظيم الذي يشبه جلمود الصخر المتهاوي من عل عند امريء القيس. ولعل في هذا دلالتين مركبتين، تتمثل الاولى في أن الاساس الذي يقوم عليه الاقطاع هو توريث المكان المكين في حياة الانسان مما يجعلها مفرغة من إنسانيتها، وتتمثل الثانية في أن الاقطاع كالصخر الجلمود أو الصخر الأصم، لا يمكن التغلب عليه إلا بتفجيره من الداخل. ولعل هذه هي المهمة الاساس التي خطط لها ونفذها البشير حين أحدث ثقبا عميقا في "مملكة" ابن الصخري عبر المدرسة التي قرر فتحها لتعليم أطفال القرية، بوصفهم هم البديل للمجتمع المستقبلي الواعد، وعبر ربط المدرسة بالماء من المنبع الذي تستقي به بساتين ابن الصخري الذي وإن لم يلق المصير المأساوي نفسه الذي لقيه سليله عابد ابن القاضي بالفعل، فقد وضع في حكمه بالقوة.
هوامش البحث:
(1)-انظر في ذلك المراجع الاتية:
oswald ducrot/TzeVETAN Todorov, Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, ed, Du Seuil
- المصطلحات الادبية الحديثة، د.محمد عناني، الشركة المصرية العالمية للنشر ، لونجان القاهرة 1996، ص 87-88
- منهجية الواقعية في الابداع الادبي، د: صلاح فضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1978، ص 9-63/103-192
- نظرية الرواية (مقالات جديدة) جون هالبرين، ترجمة محي الدين صبحي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1981 ، ص 309-335
- مفاهيم نقد الرواية بالمغرب، مصادرها العربية والاجنبية، فاطمة الزهراء أز رويل، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب 1989، ص 111-134
- عالم الفكر(دورة كويتية متخصصة) ع4 – ابريل – يونيو 1993، ص 49-63
- موسوعة المصطلح النقدي، المجلد 3، تر: د / عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان 1983، ص 15-132
(2) – المرجع السابق نفسه ص 100/103-107
(3) – وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ – دراسة تطبيقية (رسالة دكتوراه مخطوطة) – بجامعة الجزائر، 1996-1997 عثمان بدري، ص 60
(4) – انظر ما يلي:
-Gérard Genette, figures I, ed du seuil, paris 1969 (la littérature et l’espace) p43-48
- مجلة البلاغة المقارنة "ألف" ع 6، الجامعة الامريكية صيف 1986، (جماليات المكان: مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان، ترجمة سيزا أحمد قاسم، ص 79-102)
- الرواية العربية واقع وأفاق، مجموعة من الباحثين، دار ابن رشد، لبنان 1981 (المكان في الرواية العربية، غالب هلس ص 117-125)
- بناء الرواية، دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، سيزا قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة.
(5)- مجلة البلاغة المقارنة "ألف" (سا) ص 5
(6)- السابق نفسه، ص 59
(7)- أعمال الندوة الدولية، نجيب محفوظ والرواية العربية (17-20 مارس، كلية أداب القاهرة 1990: المكان في بعض روايات نجيب محفوظ، د: إنجيل بطرس سمعان، ص 4
(8)- مجلة فصول (دورية مصرية محكمة) (زمن الرواية ج1) ع4، القاهرة شتاء 1993، ص 22
-Joelles Gardes – Tamine, Marie Claude Hubert, dictionnaire de critique littéraire, collection cursus, série « dictionnaire », paris 1996, p35-36
- المصطلحات الادبية الحديثة لـ: محمد عناني (سابق) ص 9
(9) انظر في ذلك ما يلي:
- wayn G.Booth, pétique du récit, ed, du seuil paris 1977, dastance et point de vue, p85-112
- نظرية السرد من وجه النظر إلى التبئير، مجموعة من النقاد، ترجمة ناجي مصطفى، منشورات الحوار الاكاديمي والجامعي، الدار البيضاء، المغرب 1989، ص 37-54/91-94
- مفاهيم نقد الرواية بالمغرب، فاطمة الزهراء أزرويل (سابق) ص 168-176
(10) – المعجم الفلسفي ج1، د.جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان 1982، ص349-351
(11) – مجلة البلاغة المقارنة "ألف"، ع4، ربيع 1984، الجامعة الامريكية بالقاهرة (المفارقة عند جيمس جويس وإميل صبيبي، سامية محرز، ص 34-38
(12) – المعجم الفلسفي ج1، (سابق) ص 356-357
(13) – انظر:
- عالم الفكر (دورية متخصصة) ع1،2 ، يوليو-سبتمبر 1994، الكويت (من النقد المعياري إلى التحليل اللساني – النظرية البنيوية نموذجا، خالد سليكي، ص 361-391
- بناء لغة الشعر، جون كوين، ترجمة د.أحمد درويش، مكتبة الزهراء، القاهرة 1985، ص 39-64/ 225-250
- دراسات سيميائية (مجلة) ع 1، خريف 1987، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب (نظرية الانزياح عند جان كوهين، ترجمة نزار، ص 41-70
(14)- موسوعة أدباء أمريكا، ج 1، د. نبيل راغب، دار المعارف بمصر، القاهرة 1979، ص 30-36
(15) – سورة أل عمران، الاية 117
(16) – سورة الحاقة، الاية 69
(17) – نظرية الأدب رينيه ويلك، أوستن فارين، ترجمة محي الدين صبحي
(18)- رواية "ريح الجنوب" عبد الحميد بن هدوقة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع 1971، ص 7-8/41/48
(19) – المصدر السابق نفسه، ص 49-55
(20) – المصطلحات الادبية الحديثة، د.محمد عناني (سا) ص 32-33
(21) – ريح الجنوب (مص: سا) ص 59-71
(22) – في نقد الشعر، د.محمود الربيعي، دار المعارف بمصر، القاهرة 1973، ص 242-246
(23) -G.Gmette,Figures 3 (ibid) p203-206
- تحليل الخطاب الروائي سعيد يقطين، المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب 1993، ص 285-2013
- (24) G.Gmette,Figures 3 (ibid) p206-211
(25) – سورة الأنبياء، الاية 30
(26) – نهاية الامس، عبد الحميد بن هدوقة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1987، ص 54
(27) – ريح الجنوب (مص:سا) ص 41-82/85-96
(28) – يمكن أن نذكر في هذا السياق – على سبيل المثال لا الحصر – الروائي الواقعي الفرنسي الفذ (جوستاف فولوبير) (1821-1880) (Gustave Flaubert)، والروائي والناقد الامريكي(هينري جيمس) (1843-1916) (H.James) والروائي الروسي (ليوتولستوي) (1828-1910) (Tolstoi Leon) الخ
(29) – ريح الجنوب (مص: سا) ص 57
(30) – انظر في ذلك:
- Lucian Goldmane, naraxisme et sciences, Gallimard, paris 1964, p 43 -49
- مجلة فصول (مناهج النقد الادبي المعاصر) مج1، ع2 يناير 1981 (قراءة في لوسيان جولدمان عن البنيوية التوليدية، د.جابر عصفور، ص84 -100)
(31)- ريح الجنوب (سا) ص 57-58
(32) – رواية "زقاق المدق"، نجيب محفوظ، مكتبة مصر، القاهرة، 1972، ص 5-18
(33) – ريح الجنوب (سا) ص 10
(34) – نفسه ، ص 10
(35) – نفسه ، ص 19-20
(36) – نفسه ، ص 8
(37) – نفسه ، ص 23-24
(38) – نفسه ، ص85-96/99-118/120-134/178-197/201-266
(39) – نفسه ، ص 235-254
(40) – نفسه ، ص 99-111
(41) – نفسه ، ص 112-134
(42) – نفسه ، ص 238-261
(43) – نفسه ، ص 262-266
(44)- نهاية الامس (مص سا) ص 117-128/147-148
(45) – نفسه ، ص 186-200
(46) – نفسه ، ص 207-211/217-220/228-248
(47) – نفسه ، ص 207-216/220-222
(48) – نفسه ، ص 252-286
- R.Barthes, poétique du récit, du seuil paris, 1977, p17(49)
(50) – وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ – دراسة تطبيقية – عثمان بدري (سا) ص 34
(51) - نفسه ص 34
(52) – سورة النجم، الاية 32
(53) – المنجد في اللغة والأعلام، دار الشروق، بيروت، لبنان ص 26
(54) – ريح الجنوب (مص سا) ص 166
(55) – وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ – دراسة تطبيقية – عثمان بدري (سا) ص 47
(56) – ريح الجنوب (سا) ص 37-38
(57) – نفسه ص 48