الخطاب السردي في رواية ذاكرة الجسد

الأستاذ: سليم بركان - جامعة سطيف –
لقد ارتبطت تكوينية الخطاب السردي الجزائري ارتباطا وثيقا بحيثيات تاريخية واجتماعية وسياسية، فهذا الثلاثي الأخير شكل الخلفية التي تكون ضمنها النص، فيطبع بها ويعرف من خلالها، بمعنى أن حضور هذه العناصر الفكرية في عملية التشكيل السردي للنص يسمح بإنتاج طاقة دلالية وفكرية فذة، يعمل القارئ على استحضارها عبر البنيات السردية الناقلة للخطاب، فالفعل السردي يعتمد الحضور الإيديولوجي من أجل استكمال بناء دلالة رسالته الأدبية والفكرية التي تأخذ شكل إيحاء إيديولوجي وأدبي يعطي شرعية التفسير والتأويل للنص كإيحاء ولذة.
وفق هذا المنظور، تسعى هذه المداخلة إلى تحليل نص رواية "ذاكرة الجسد" للروائية أحلام مستغانمي، بفضح أسراره الإيديولوجية وتجلية أنساقه الفكرية المتوارية في النص، وهذا بالاعتماد على ما أثرته النظريات السوسيونقدية في هذا المجال. سنحاول في هذه المداخلة تفعيل هذه الرؤية النقدية والوقوف على فعاليتها أثناء مباشرة التحليل لهذا النص الروائي، إذ أن خطاب نص الرواية الجزائرية عموما يأخذ شكل علامة أدبية إيديولوجية، تفرض تعالق مجموعة من العوامل السوسيوتاريخية والسوسيوثقافية تجعل إنتاجية الدلالة للنص ممكنة ومحتملة.
* تقديم:
لقد حظي نص رواية "ذاكرة الجسد" بأهمية كبيرة من طرف الدارسين والنقاد على السواء كون الرواية تأشيرة للسفر في ذاكرة الرجل الجزائري وبالإقامة في عالمه الحميمي، ومقاسمته عمرا من نضاله الوطني وخيباته العاطفية، وتناقضاته الذاتية وانكساراته السياسية، إضافة إلى كونها منافسة لذلك الرجل في خوض غمار الكتابة الأدبية الروائية على الخصوص، إنها الرواية الملحمة بالتغيير اللوكاتشي، ذلك أنها تحكي عن سيرة ذاتية للكتابة التي تقنعت بقناع الذكورة وعم مسح تاريخي وسياسي واجتماعي للتركيبة الاجتماعية الجزائرية. فنص الرواية على حد قول نزار قباني: "..قصيدة مكتوبة على كل البحور، بحر الحب، بحر الجنس، بحر الإيديولوجيا.. هذه الرواية لا تختصر ذاكرة الجسد فحسب، ولكنها تختصر تاريخ الوجع الجزائري، والجنون الجزائري، والجاهلية الجزائرية التي آن لها أن تنتهي"(1)
صدرت رواية "ذاكرة الجسد" لكاتبتها أحلام مستغانمي عن دار موفم للنشر بالجزائر سنة 1993، تقع هذه الرواية في أربعمائة واثنين وثمانين 482 صفحة من الحجم المتوسط، مقسمة إلى ستة فصول من غير عنونة، كما أن فصولها مقسمة إلى واحد وعشرين جزءا، تختلف حسب الطول والقصر من قسم إلى آخر، ولا يظهر سبب هذا التقسيم واضحا، ولا يبدو له أي منطق، فالفصل الأول من هذه الرواية هو سرد لأحداث متعلقة بالذاكرة الثورية للبطل أو أخذ شكل بداية من النهاية، ذلك أن أحداث الرواية بدأت من النهاية لتتجه نحو البداية وفق تقنية "فلاش باك". أما الفصل الثاني فهو حديث عن صورة المرأة الوطن الرمز أحلام، التي تعد المؤطر الثاني في حركية أحداث الرواية، بعد ذلك تتفاعل الأحداث فيما بينها لتتجه نحو البداية بشكل واضح وخصوصا في الفصل السادس المتمثل في سرد أحداث أكتوبر88، بحيث كانت هذه الأخيرة بداية حقيقة للأزمة السياسية، والعنف المتزايد بجميع أنواعه، والذي ظلت تعيشه الجزائر إلى يومنا هذا.
I- المرجعية التاريخية والفكرية لنص الرواية (مرجعيات الكتابة عند أحلام):
إذا كان لكل عمل روائي مرجعياته التاريخية وخلفياته الفكرية، التي تعتبر الدافع الاول لإنتاجية العمل الروائي، فإن نص رواية "ذاكرة الجسد" هو تأرخة لمسيرة مجتمع بأكمله، وأدلجة تاريخية تكشف عن صراع بعض الفئات المجتمعية، فالعودة إلى التاريخ كمرجع للكتابة يعتبر في الحقيقة تحديدا لتاريخ إيديولوجتيه، وبنيته الحضارية والفكرية، فالظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية التي عاشها المجتمع الجزائري هي المؤطر العقلي لفعل الكتابة عند أحلام، فتحديد زمن كتابة الرواية بعام 1988 يمنح لنا فرصة تشخيص تلك الفترة الزمنية باعتبارها مضطربة وبالغة الخطورة من الناحية السياسية، التي أثرت أيما تأثير على سيرورة المجتمع الجزائري، ففي هذه الفترة اتسم نظام الحكم بالتخلي التدريجي عن النظام الاشتراكي والدخول المحتشم في نظام لا نعرف عنه الكثير ولا القليل، هذا النظام الذي يفتح أبواب الصراع حول سلطة القرار، وبذلك تدخل كل القوى الاجتماعية حلبة الصراع السلبي، هذا ما جعل هذه المرحلة تتسم بالصراع الإيديولوجي، مما أعطى خلفية مناسبة لإنتاج هذا النص.
1) مدلول نسق العنوان:
العنوان عموما هو ما يعلو النص، إنه البوابة الأولى التي يلج من خلالها القارئ إلى عالم النص ليتعرف على خباياه و أسراره، ومن ناحية أخرى يمل واجهة علامية تأخذ شكل "الجملة مفتاح" تمارس على القارئ سلطة أدبية وفكرية، فهو يمثل تلك العتبة النصية التي يعمل القارئ على افتكاك بنيتها اللغوية والدلالية باعتبارها الجملة المفتاح للنص.
إن العنوان هو قائد النص، وهو: "... كالاسم للشيء، به يعرف وبفضله يتداول، يشار به ويدل به عليه، يحمل وسم كتابته"(2)، بمعنى أنه كالاسم للنص وبه يتداول وينتشر بين القراء، إنه البنية اللغوية الأولى التي يتواجه معها القارئ، ويحاول عبرها الدخول إلى العوالم الخفية للنص واستكشاف حقائقها الفكرية والأدبية، فالقارئ وفق هذه الوضعية يأخذ مرتبة الوسيط بين العنوان والنص بعكس الكاتب الذي يأخذ مرتبة الناص لينتهي إلى العنوان.
عموما تأتي أهمية العنوان بشكل عام، كونه علامة سيميائية تنفتح على دلالات شتى، فكرية كانت أم أدبية، فهذه الجملة المفتاح العلامة تعد على حد قول محمد مفتاح: "أول مفتاح إجرائي تفتتح به مغالق النص، كونه علامة سميوطيقية، تضمن لنا تفكيك النص وضبط انسجامه فهو المحور الذي يتوالد ويتنامى، ويعيد إنتاج نفسه"(3)، بمعنى أنه مكون لغوي يضمن انسجام علامات النص وفق حقول دلالية وفكرية تتوالد وتتناسل فيه بشكل لانهائي، ومن ناحية أخرى تعمل على إعادة إنتاج دلالات النص وفق المحاور الفكرية التي تتمتع بها نسقية العنوان، بمعنى آخر أن هذه النسقية الفكرية للعنوان تمنح إضاءة من نوع خاص للقارئ تضمن له تأويل النص وفق وظائفه الإيحائية المختلفة التي ترتسم وفق مستويين أساسيين هما: مستوى القراءة الظاهرية التي تحتمها قراءة المستويات المعجمية والتركيبية، ومستوى القراءة المعنوية العميقة تحتمها القراءة التفسيرية والتأويلية للنص.
لعل ما يستوقف القارئ أمام عنوان نص الرواية "ذاكرة الجسد"، هذا الذي يمثل تناقضا صارخا في حد ذاته، فقد جاء باسم نكرة معرف بالإضافة، ينفتح على دلالات متعددة ثم التعبير عنها بإشارات لغوية وفكرية دالة عليه، إشارات يستنبط منها ذلك الزمن الماضي الثوري المتجدد وذاك المكان الثوري البعيد القريب. إن علاقة تكوينية العنوان وفق هاتين الكلمتين لا تمتان ببعضهما بصلة مطلقا، ذلك أن الذاكرة لا يمكن حصرها في الجسد، بقدر ما هي محصورة في جوهره ومكانها في الحيز النفساني، هذا ما جعل عنوان نص الرواية استفزازي بدرجة كبيرة، ومدعاة للفضول لمعرفة محتوى النص الروائي واكتشاف مضامينه الفكرية والأدبية التي تؤهله لتلقي إيجابي وجمالي لدلالة هذا العنوان، ليصبح الأصلح لنص الرواية، بعد أن كان يبدو غامضا نوعا ما، فالاسم الأول منه جاء نكرة مما استدعى تعريفه باسم ثان معرف يضمن انسجامه اللغوي والدلالي، فالذاكرة هي تلك الأداة التي يتم بها استحضار الماضي إجمالا وتفصيلا، قريبا أو بعيدا سواء كان مفرحا أو محزنا، إنها عملية ربط وإعادة ربط لوقائع زمانية ومكانية، ففي الذاكرة: "... تمكث محاور فكرية وتتميز بعمق فريد ثابت، فالإنسان لا مناص له من ترتيب ماضيه"(4)، أما كلمة "الجسد" المعرفة فإنها تأخذ في العرف الاجتماعي شكل المحرمات والمكبوتات، بحيث أنه لا يتحرك إلا خفية ولا يظهر إلا رمزا نتيجة القمع الاجتماعي والسياسي بينه وبين السلطة، تأسيسا على تناقض مبدأ وجود كل منهما على الحرية، فبالفت يحصل قمع السلطة، ويتجلى الجسد بعلاماته المختلفة في النص، إنه على حد قول هربرت ماركيوز: "يمثل نظاما للحساسية تستدعي كل التابوهات –المحرمات- متحديا بذلك مبدأ المركزية العقلية، هذا القناع الذي تستعلن به السلطة"(5)، فالجسد ليس فقط حامل لصيغة الوجود- الأنا- في هذا العالم بل هو فاعلها وعليه يقع قمع السلطة، بمعنى آخر أنه يأخذ مكانة الحقيقي في الفن وعبره يسترد علاماته المسلوبة، فنراه ينتصب شهيا وشهوانيا، منغرس في لحم العالم وصفته أحلام في نصها منتج لعلامات، بل وأكثر من ذلك أنه خالق للعلامات، حاضر في الرسوم وفي الكلمات وفي الأحلام، فكل شيء يدور حول الجسد الرمز الوطن، ولا شيء يوجد خارج ما تشير إليه الكلمات أو ما ترسمه الافعال من صور للذة التي لا تنتهي عند نقطة دلالية بعينها. فمن هنا كان الجسد الوطن موضوعا للسرد والاستذكار وللاستفهام وحتى للغة، فعبره خلقت لنفسها تركيبا جديدا لا يدرك إلا في علاقته مع هذا الجسد السافر والإباحي، بحيث أن بنيته اللغوية تخلت نوعا ما "... عن تركيبها العادي لكي تتزين بتركيب يخلط بين اللفظ والبدن، ليقرأ اللفظ انطلاقا من التركيب يخلط بين اللفظ والبدن، ليقرأ اللفظ انطلاقا من التركيب الذي يقدمه الجسدي"(6).
إن خطاب العنوان "ذاكرة الجسد" يمثل رحلة في دهاليز ذلك الرجل الثوري المغترب الذي جعلنا نعيش معه ذاكرة ثورية وذاكرة لجسده المبتور ولوطن مسلوبة حريته، إذا فالبطل حبيس ذكرياته، لأن دوافعها ملتصقة به وتتبعه أينما حل وارتحل، هذه الدوافع ما هي إلا ذراعه المبتورة التي كانت تشكل فيما مضى جزءا من جسده، هذا الأخير الذي بقي ناقصا على الرغم من محاولاته الكاذبة واليائسة في تعويض ذلك النقص، والذي كلما نظر إليه داهمته أمواج من الذكريات، فذراعه المبتورة تذكره ببداياته الأولى في الرسم: "رسمتها منذ 25 سنة، وكان مر على بتر ذراعي اليسرى اقل من شهر"(7). كما كانت السبب في اغترابه عن الوطن كما تشير إلى علامة إيديولوجية دالة على عدم انتمائه للآخر الجشع.
مما سبق يتضح لنا أن كلمة "ذاكرة" من خلال خطاب العنوان مرتبطة أشد الارتباط بالجسد لأن البطل كلما تذكر شيئا إلا وكان جسده المؤشر لذلك، ليس هناك عنوان أصلح من "ذاكرة الجسد" لهذا النص، ذلك أنه عبر عن مضمون خطاب الرواية من خلال نص عنوانه، فجسده يعتبر ذاكرة له هو نفسه، كما يمثل ذاكرة لمن يراه: "كان جسدي ينتصب ذاكرة أمامه لكنه لم يقرأني"(8). فالعلاقة الدلالية بين الاسمين هي علاقة وجود، ذلك أن الذراع المبتورة تمثل ذلك الانتماء إلى زمن الماضي، زمن الثورة والمجاهد، كما يمثل ذاك الجسد الناقص الحاضر.
2) ملخص الرواية:
تروي أحداث رواية "ذاكرة الجسد" قصة البطل خالد، الذي عاش تفاصيل وأحداث الثورة الساخنة، حيث كان من طليعة الشباب المناضل في صفوف جبهة التحرير الوطني، ومن مجاهدي الصفوف الأولى، لقد فقد ذراعه في إحدى المعارك التي دارت على مشارف ولاية باتنة ضد القوات الفرنسية، هذه المعركة التي فقد ذراعه اليسرى يقول البطل: "بعدما اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان... ولم يكن العلاج بالنسبة لي سوى بتر ذراعي اليسرى"(9)، بعد ذلك أخذ يستعين عن اليد التي فقدها بالرسم باليد اليمنى، ليصبح بعد ذلك واحدا من أفضل الرسامين الجزائريين بشهادة النقاد الفرنسيين، لقد حمل البتر علامة ثورية على جسده، علامة تسجل الاسم والذاكرة معا، وعلامة انتماء إلى زمن الثورة. بعد استقلال الجزائر عرضت على خالد عدة مناصب سياسية في الدولة الجزائرية، لكنه تخلى عنها تفاديا لما قد يكون!، في الوقت الذي كان بعضهم يتسابق في الوصول إليها: "لقد كنت بعد الاستقلال أهرب من المناصب السياسية التي عرضت علي، والتي كان الجميع يلهثون للوصول إليها"(10)، لينتهي في الأخير مشرفا على دار نشر، وجد نفسه في وظيفة بيروقراطية تخدم النظام بشكل أو بآخر، ففي هذه الظروف تعرف البطل "خالد" على "زياد خليل" الشاعر الفلسطيني، الذي غيّر مجرى حياته، كما كان الدافع الأول لهجرته إلى باريس. هذا البطل الذي أيقظ ضميره وروح الثورة فيه، بعدما جرفه تيار التبعية للنظام: "بعدما تحولت من مثقف إلى شرطي حقير يتجسس على الحروف والنقاط"(11). هاجر خالد إلى باريس سنة 1973، ليجد نفسه واحدا من أفضل من يداعبون فن الفرشاة، وفي إحدى القاعات الباريسية للعرض التقى بحياة ابنة "سي الطاهر" أحد المجاهدين في صفوف الثورة، هذه الفتاة التي غيرت مجرى حياته مرة أخرى، وكأن البطل "خالد" يبحث عن نفسه عند الآخر، لقد أيقظت فيه الذاكرة بكل أبعادها المختلفة، يقول البطل: "أنت لست امرأة فقط، أنت وطن، فهل يهمك ما سيكتبه التاريخ يوما ما"(12)، كيف ولا هي الطفلة التي سجلها في دار البلدية بتونس، لتظهر بعد ذلك في حياته مجددا وهي ناضجة العمر والجسد وحتى الذاكرة. هذه المرأة الوطن الرمز أيقظت فيه الجرح الجزائري بحيث جعلته أكثر ارتباطا وحسا بالوطن الأم الجزائر، ليحي المأساة من جديد، وهي تهوي به ذلك الماضي المجيد بكل تفاصليه وأبعاده ليبقى حبيس صراعاته النفسية التي كان سببها وقوعه في تلك التي منحها أوراق هويتها وثبوتها يوما ما.
الرواية حديث عن الواقع الجزائري إبان الثورة وما بعدها، عن خالد المجاهد، الرسام، وعن أحلام الوطن والحب معا، هذه التي تجمع حولها القراصنة فاغتصبوها لتكون لواحد من ذوي الأكتاف العريضة، هذا الاغتصاب له دلالة واحدة تتمثل في اغتصاب هذا الوطن: "... أولئك أصحاب النجوم التي تعدّ وكل الذين منحتهم الكثير... (و)... واغتصبوها في حضرتي اليوم، أتحداهم بنقصي فقط"(13).
لقد اعتمدت أحلام مستغانمي في بناء نصها على تقنية التموية الأدبي، وذلك باستخدام وتكثيف تقنية الترميز الإيديولوجي، الذي يحمل دلالات متعددة ومختلفة، تهدف من وراء ذلك إنتاج نص مضاد ينفتح على أكثر من قراءة، ولسوف نأتي على دراسة وتحليل هذا النص وفق أنساقه الفكرية لنصل إلى محتواه الفكري الرئيسي، بحيث يجب ألا نتعامل مع هذا النص بتلك السذاجة النقدية، لأننا نعتقد أنه يتجاوز السؤال عن واقعية هذه الأحداث، وذلك من خلال فهمنا له عبر مستوياته الفكرية والسردية، بمعنى تفكيك رموز هذا النص وقراءة دلالاته الإيديولوجية، هذه الأخيرة تمنحنا إمكانية الإحاطة بالرسالة الأدبية الفكرية المراد إبلاغها عبر نص الرواية.
II- تجلي الإيديولوجي والأدبي في نص الرواية:
يعد النص السردي من أهم النصوص الأدبية احتواء للأنساق الأدبية والفكرية، ذلك أن حضور الفكري فيها يعطي للنص مشروعية التفسير والتأويل، ومن ثم جمالية للنص، فتضمين الفكري في النص يعتمد على أسلوبية توزيع الخطاب فيه، بمعنى آخر أن هندسة الفكري في السردي تعتمد طريقة الخطاب للسارد والشخصيات على السواء، هذا ما يجعل النص السردي حاملا لأبعاد إيديولوجية وأدبية تمثل الرسالة الأدبية والفكرية المراد إبلاغها إلى القارئ، فالتعدد الفكري ضروري لاستكمال البناء الدلالي للنص ولخلق مجتمعا للنص.
إن التصنيف الإيديولوجي الذي نعتمده كإجراء من أجل تفسير وتأويل الإيديولوجي في السردي ينطلق أساسا من تحديد الوحدات الإيديولوجية المتمفصلة في ثنايا النص السردي، والمنتجة لدلالات مختلفة ومحتملة، فبالاعتماد على هذا التصنيف نكون قد اعتمدنا على فهم دلالة اشتغال العناصر الإيديولوجية في النص كأنساق فكرية دالة عليها، فالفهم التكويني لبنية الفكري عبر الخطاب واللغة يعطي حضورا دلالي للفكري عبر النص. فالمتتبع لطبيعة البناء السردي لنص الرواية يستطيع الوصول إلى احتواء في النص، فوفق هذا المنظور المفاهيمي سنحاول تحديد تلك الثنائية الإيديولوجية المتمظهرة بشكل بارز في نص الرواية والمتمثلة في نسقي الإيديولوجية البرغماتية والطامحة للتغيير.
مدلول النسق الإيديولوجي البرغماتي:
يمثل هذا النظام الفكري في نص الرواية جملة القيم والممارسات الاجتماعية السلبية، التي تمارسها شخصيات الرواية قولا وفعلا ضمن علاقاتها الاجتماعية، فهذا التمثيل الفكري للأفراد في المجتمع يعتمد الفردية والدغمائية كمنهجية للتعامل مع الآخر، بمعنى آخر أن مرتكزاته الفكرية تظهر على شكل أنماط متباينة ومختلفة في ممارستها للفعل الاجتماعي، إنها تتجلى في النصوص السردية وفق تدرج يتحدد بالكيفية والدرجة والأسلوب في بث أفكارها ونزعاتها وهدفها في الأخير المنفعة عبر حضور الآخر.
لقد تمظهر هذا النسق الفكري في نص الرواية وفق شكلين مختلفين، الأول مباشرا كان على لسان السارد، والثاني غير مباشر جاء على لسان شخصيات مختلفة حاملة ومتبنية لأفكار ومبادئ هذا التوجه الفكري، الذي اخترق نص الرواية عبر المستويات التركيبية الحاملة لمختلف البنيات الذهنية لمختلف شخصيات الرواية. إن هذا النظام ضيق الأفق وساذج الرؤية، شاهرا أولوية المصالح الشخصية على العامة، ومن جهة أخرى رفض أي محاولة للتغيير واستغلال لكل فرصة سانحة لطرح أفكارها ومن ثم بسط سيطرتها ليتأتى لها فرض فكرها على مجمل الفئات الاجتماعية، فمنهجية هذا التوجه تعتمد أساسا على فكرة الإقصاء المستديم لأي فعل اجتماعي وثقافي تغييري في المجتمع، وإذا كانت حقيقة أي إيديولوجيا على هذا الشكل، فإن البرغماتية منها قد اعتمدت على هذه الاستراتيجية وتغيب وإقصاء الآخر، ومن ثمّ تحقيق وجودها وتفعيل أفكارها في المجتمع، وقد كان لها ذلك خاصة في مرحلة ما بعد الثورة التي اتسمت بعدم الاستقرار والتناقض إلى حدّ ما.
إنّ أهم محور يكشف لنا عن ملامح التدليل الإيديولوجي البرغماتي في النص، هو حضور تلك الفئة الثورية المشبوهة تاريخيا، والتي تكالبت على استغلال ثروات هذا الوطن، بالانتفاع المستمر من خيراته دون جهد أو عمل أو ربما حتى دون حق، لقد استغلت المؤسسات العسكرية والإدارية والدبلوماسية إدراكا منها لقيمة السلطة في هذا البلاد، التي أصبحت في وقت من الأوقات كجهاز لاضطهاد بعض الأفراد، ولتحقيق أهدافها جملة تقنعت بقناع الرموز الثورية لما لها من أهمية عند البعض في تحقيق الوجود الوطني.
وعموما يمثل خطاب هذه الإيديولوجيا شخصيتان بارزتان هما: شخصية سي الشريف الكبيرة الصغيرة، التي تأخذ حضورها المكثف نصا وخطابا عبر لسان البطل، إنها الشخصية الحاملة لأفكار هذا التوجه، باتخاذها منهجية استغلال الرموز الثورية المختلفة والعلاقات الاجتماعية المختلفة، يقول السارد: "منذ عين سنين ملحقا بالسفارة الجزائرية... كان بإمكان سي الشريف أن يشق طريقه إلى هذا المنصب ولأهم منه... وباسمه الذي خلّده سي الطاهر باستشهاده، ولكن يبدو أن الماضي لم يكن كافيا بمفرده لضمان الحاضر"(14).
وثاني هذه الشخصيات الممارسة لفعل أفكار هذا التوجه، شخصية "سي مصطفى" الثورية الموقدة التي لا تؤمن إلا بالمصلحة الشخصية دوسا بالأقدام على المصالح العليا الوطنية، إنه الرجل البارز والمتخفي في الوقت نفسه، إنه: "... رجل الصفقات السردية والواجهات الأمامية، كان رجل العملة الصعبة والمهمات الصعبة، كان رجل العسكر ورجل المستقبل"(15)، فهذا المقطع السردي يحمل نسق فكري يشير على حضور تلك الإيديولوجية البرغماتية التي من مبادئها الظهور بوجه لائق ومحتكرة للآخر في دائرة ضيقة يجعله بطريقة أو آخر يتقمص سلوكاتها وأفعالها وأقوالها.
إن تجلى خطاب الإيديولوجية البرغماتية، جاء على لسان كل من شخصية سي الشريف وسي مصطفى على لسان السارد، ممثلان قمة الممارسة النفعية والانتهازية على الآخر الغارق في مشاكله اليومية والتي لا تنتهي أبدا، فعندما ترضي الأولى الثانية، فهي بذلك تكرس مبدأ أفضلية الأنا على الآخر، ويتجلى هذا الأسلوب أكثر من خلال التيمة الرئيسية لنص الرواية والمتمثلة في تلك المصاهرة المشبوهة التي جرت بينهما، فمن خلال الخطاب المضاد تتجلى حقيقة هذه الصفقة المشبوهة، يقول البطل: "... هاهم يقدمونك لي في لوحة ملطخة بالدم، ودليلا على جريمتهم"(16)، والذي زاد من مركزية حضور خطاب هذه الإيديولوجية في النص، بعض الهيئات العسكرية والإدارية والسياسية والدينية الانتهازية، التي تمارس فعلها بطريقة أو بأخرى، يقول البطل: "... أصحاب البطون المنتفخة... وذلك صاحب اللحية... وذلك صاحب الصلعة، وأولئك أصحاب النجوم التي لا تعد"(17)، فهذا المقطع السردي يشير صراحة إلى التركيبة الفكرية البرغماتية التي يعتمد عليها في ممارسة فعلها على الآخر، عموما فإن هذا التوجه الفكري البرغماتي حاملا لكل مظاهر النفاق الأخلاقي والسياسي والديني، هذا ما جعل قيم المجتمع تضطرب وتتعقد أكثر لانعدام الصدق مع الذات ومع الآخر، وحتى مع الواقع ولو حاول أصحابه الظهور بمظهر لائق.
مما سبق، يتضح جليا أن هذا النسق الفكري البرغماتي، تجلى نصا وخطابا وحقق حضوره عبر البنيات السردية الحاملة لنسق هذه البنية الذهنية التي مثلها محوريا كل من شخصية "سي الشريف" و"سي مصطفى"، وبهذا المسلك يكون خطاب الإيديولوجية البرغماتية قد أخذ حضوره المكثف في نص الرواية، وشوّه الرموز الثورية والوطنية التي سخّرها بشكل مفضوح لقضاء مصالحه الشخصية.
2) مدلول النسق الإيديولوجي التغييري:
يمثل هذا النظام الفكري مجموعة القيم والسلوكات الاجتماعية الإيجابية، التي مثلتها بعض الشخصيات قولا وفعلا ضمن دائرة الفعل الاجتماعي، كما أن من أهدافه الرئيسية هو التغيير والرفض لكل ما هو مصلحي وضدّ الآخر، إنه فكر تصحيحي لإستراتيجية فكر الآخر المضاد، فخطاب شخصياتها في النص جاء وفق بنيات سردية حاملة لهذا النمط الفكري "التغيير والرافض" والناقلة لخطاب مضاد للآخر الجشع، وعموما فإن خطابها تأسيس على نزعة التغيير الجذري و تصحيح بعض المفاهيم الثورية وكذا التسامح مع بعض أشكال الواقع الاجتماعية والسياسية المختلفة.
لقد تجسد خطاب إيديولوجية التغيير في النص عبر مواقف ورؤى واضحة المعاني الفكرية والسياسية، مثلها صوت السارد الواحد الرافض للآخر الانتهازي، فالإقرار بأن شكل الوعي الثوري في الرواية يمثل الخطاب الرئيسي لها، يعني أن الرفض والتغيير يمثلان خطابها غير المباشر عبر النص، فلقد شكل الصراع مبدأ الحضور الإيديولوجي في النص، هذا ما جعل إيديولوجية التغيير تطرح نفسها كبديل إيجابي تطمح إقصاء فكر الآخر وتغييب أنماط وعيها السلبية التي تشبّع بها بعض أفراد المجتمع. فإذا أردنا البحث عن مرتكزات خطاب إيديولوجية الرفض والتغيير في الرواية نجدها تتجلى نصا وخطابا من خلال السارد وبعض الشخصيات المشاركة له في التغيير والرفض عبر خطاب منتج لأفعال اجتماعية إيجابية تقصي وتغيب فكر الآخر.
لقد ساعد على تكوينية خطاب الرفض، بعض الأصوات السردية المنتجة للفعل الاجتماعي والفاعلة فيه، ولقد تمظهر فعل إنتاجية خطابها في رمزية ماضيها وحاضرها، الذي أخذ أشكال الحضور الفكري في نص الرواية، شكل مواقف مضادة للآخر مهما كان جنسه، فشخصية "سي الطاهر" تجلى فعل خطابها الرافض للهيمنة الاستعمارية، والذي لم يكن يحمل هموما سوى هموم وطنه، فهو بذلك يكرس موقف مضاد للآخر المستعمر. والطامح للتغيير غبر ما تجسد بالثورة التحريرية. كما تتجلى رمزية خطاب الرفض والتغيير عبر تلك المواقف المنتجة للفعل والحاسمة في الوقت نفسه والتي مثلها البطل السارد ضد الآخر، كرفضه بيع بعض الرموز الثورية والفنية لذلك الآخر المشبوه في ثوريته وفي ذوقه الفني، والذي دخل دائرة الصراع معه مما أهّله في تجسيد خطاب الإيديولوجية البرغماتية، لعل هذا ما أفرز خطابا إيديولوجيا مضادا لها مثله خطاب البطل السارد خالد، يقول: "...كنت في الماضي اكنّ له احتراما و ودّا كبيرين، ثم تلاشى تدريجيا رصيده عندي... مثله مثل من سبقوه إلى تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض بتقسيم مدروس"(18). إذا فخطاب الرفض الجلوس على المقاعد المشبوهة، فهكذا جاء الخطاب مضاد على هذا الشكل، يقول البطل: "... كنت أحلم بمنصب في الذل، يمكن أن أقوم فيه بشيء من التغيرات دون كثير من الضجيج"(19)، فهذا المقطع السردي يشير لتلك البنية الفكرية الإيجابية التي يتمتع بها البطل، والذي يحاول تجسيدها في واقع المجتمع الجزائري. كما يتجلى مضمون خطاب إيديولوجية الرفض عبر الخطاب المضاد للمرأة الوطن الرمز أحلام، فقد تجسد فعل موقفها الرافض لبعض القيم المفبركة، ولبعض السلوكات السلبية التي مارسها عليها "سي الشريف"، الذي استغل اسمه واسم أبيها الثوري، فنجده يستعرض مآثر أخيه الثورية في تلك المهرجانات الكاذبة وأمام الجمهور المشبوه – مجاهدي 62-، فيجعل منه ذلك ترك وطنا وعائلة تصارع هذا الواقع المر والقاسي. وتندرج ضمن المنظور الرافض نفسه شخصية "زياد" الشاعر الفلسطيني الذي جسّد فعل الرفض في بعض من موافقه الشجاعة تجاه بعض الأنظمة العربية الحاكمة، ولبعض الساسة العرب، الذين جعلوا من أزمة فلسطين وضحاياها إشهارا للمجد، وقد تمظهر فعل الرفض عبر خطابه المشحون بتلك النعوت البذيئة التي كان ينعت بها هؤلاء الساسة والحكام، وهو في رفضه يشارك البطل "خالد" في إقصائه ورفضه للآخر الانتهازي الجشع، يقول البطل عنه: "... كان زياد رجل الاختيارات الصعبة"(20).
وعموما فإن خطاب إيديولوجية الرفض والتغيير قد تجسد عبر أصوات سردية شاركت البطل في تجسيد خطاب أفكاره، ومن ثم تحددت دلالة الرفض للآخر جملة وتفصيلا، وخطابا ونصا. لقد اقتصرت محاولتنا في هذه المداخلة على تلمس الإيديولوجي والأدبي في نص رواية "ذاكرة الجسد"، والذي جاء حضوره على شكل أنساق فكرية متضادة عبر التشكيل السردي للنص الذي مثله خطاب السارد، وخطاب الشخصيات الأخرى، فامتزج بذلك الإيديولوجي بالأدبي ليعطي للنص شرعية المرأة الوطن الرمز التي تم سردها وصفها وصياغتها نصا وخطابا، لذة وشهوة لا تنقطعان. فكانت غايتنا تلمس بعض مظاهر التدليل الإيديولوجي في نص الرواية الذي ترك عملية التمثيل الفكري مفتوحة على الماضي والحاضر.
ا.هـ