الخصائص اللغوية في الرواية الحديثة: - لغة عبد الحميد بن هدوقة نموذجا -

الأستاذ: يحيى بعيطيش جامعة قسنطينة
الأستاذ: يحيى بعيطيش جامعة قسنطينة
مقدمة:
بداية أود أن أشير إلى أن هذه المداخلة ذات طابع مدرسي؛ لأنها موجهة إلى الجمهور أكثر مما هي موجهة إلى المتخصصين، وهذا نزولا عند رغبة المنظمين لهذه التظاهرة الثقافية، بمدينة البرج، الذين طلبوا بإلحاح من المحاضرين مراعاة مستوى ثقافة الجمهور، الذي يحضر هذه التظاهرات، وخاصة طلبة الثانويات.
وبناء عليهن رسمت المداخلة لنفسها منهجا مدرسيا مبسطا، بدأناه بمقدمة عامة، عرضنا فيها بعض الأفكار المفتاحية ، لدخول عالم الرواية بصفة عامة، ولغتها بصفة خاصة، لننتقل بعدها إلى بعض الخصائص اللغوية، في لغة ابن هدوقة وتطورها عبر مساره الروائي، بدءا من رواية ريح الجنوب وانتهاء ب غدا يوم جديد.
1- مدخل عام:
قبل الدخول إلى عالم الرواية الحديثة، نعرض بعض المصطلحات اللسانية التي لها علاقة متينة بلغتها، وهي مثلث دو سوسير (Ferdinand De Saussure (: اللسان، اللغة، الكلام، فقد أصبحت هذه المصطلحات عالمية.
1 - 1 اللسان(Langage):
هو القدرة الكامنة عند الإنسان، التي تجعله قادرا على النطق وإصدار الأصوات مع ربطها بمعان ومدلولات(1)، فهو إذا ملكة أي(القدرة على التواصل بواسطة إشارات صوتية تفترض وظيفة سيميائية)(2) وهذه القدرة التي مكنت الإنسان من إنشاء لغة، وهي بجميع مستوياتها: عاميها وفصيحها، هي اللسان الذي يمثل الوجود النوعي للإنسان، وهو يمتد في الزمان والمكان، وقد يعود إلى أزمنة سحيقة، كما قد تمتد رقعته الجغرافية امتدادا كبيرا، وعلى هذا الأساس يمكن الكلام على اللسان العربي واللسان الفرنسي واللسان الروسي..(3).
1-2 اللغة(Langue):
هي جملة ما تواضع عليه أفراد المجتمع، من ألفاظ وأصوات وتراكيب، تكون سابقة على الفرد ويكتسبها بالتلقي ون جماعته اللغوية، وبالتالي فهي ظاهرة اجتماعية وأداة تواصل لتلك الجماعة، تمثلها جملة من القوانين المستمدة من نظامها(4)؛ فهي نظام علامات أو نظام قاعد(5).
1-3 الكلام(Parole):
هو الاستعمال الفردي، لكل فرد من أفراد الجماعة اللغوية للأداة التي صاغها المجتمع، حسب حاجاته الخاصة، واستعداداته الشخصية(6)؛ ويعبر عن مجالات اهتماماته الفكرية والثقافية(7).
وبتعبير آخر، يمكن القول أن اللغة، تمثل مجموعة الإمكانات التعبيرية الموجودة في البيئة اللغوية، إذ تستخدم هذه الأخيرة، بكيفيات مختلفة، أهمها الطرق الفنية التي تتجسد في الشعر الفصيح أو العامي، وفي الأمثال والحكم، وغيرها من الفنون الأدبية، قديمها وحديثها(8) وكل ذلك يعتبر من الإرث العام أو إرث البلد أو الشعب أو الأمة. أما الكلام، فهو الكيفية التي يختار بها الفرد، لعناصر من هذه الإمكانات التعبيرية الكثيرة، ويتضح ذلك في المفردات والتراكيب بصفة خاصة، فلا يوجد فرد يستخدم كل التراكيب المتاحة في لغته، ولا كل مفرداتها، مهما أوتي من الفصاحة والتمكن اللغوي (9).
فالفرد إذن، حتى وإن كان مبدعا، لا يستعمل غلا جزءا من الإمكانات التعبيرية التي تزخر بها لغة جماعتهن غير أن المبدع الحق، شاعرا كان، أو قاصا أو روائيا، يتميز بطريقته الخاصة التي تميزه، عن الفرد العادي من جهة وعن غيره من المبدعين، في مجال تخصصه من جهة أخرى. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، أن طريقة المبدع، إن في كيفية استغلال الطاقات التعبيرية أو تفجيرها في لغته، بمفهومها الاجتماعي أو اللساني، هو ما يندرج حقيقة في الكلام بالمفهوم الذي تحدثنا عنه، لكن النقاد ودارسي الأدب، يتحدثون عن لغة القصيدة أو لغة الرواية أو القصة.
ولعل هذا من قبيل التجوز، أو المجاز(أي تسمية الجزء باسم الكل)، فجاز لنا أن نقول مثلا لغة الجاحظ أو لغة طه حسين أو لغة ابن هدوقة..على سبيل العدول أو الإنزياح.
1- 4 الإنزياح:
هو مصطلح الأساسي من مصطلحات الأسلوب، تتميز به اللغة الأدبية أو الفنية عن اللغة العادية(10)، أو لغة التواصل اليومي، وهو يعني أن اللغة الفنية او الإبداعية،تجاوز اللغة العادية وتعدل عن المألوف فيها، بإعادة تشكيل مفرداتها ودلالاتها وتراكيبها، تشكيلا جديدا، يؤدي ضربا من النسج فريدا من نوعه..(11)وعليه فإن الانزياح هو الذي يميز طبيعة الأثر الفني، سواء كان شعرا أو قصة أو رواية؛ فهو يقوم على الخيال والتخيل، لا الواقع الذي يعرفه كل الناس ويتفقون عليه(12) ، وبالتالي يكون النص الإبداعي دائما بدعة وخروجا عن الآراء السائدة(13)، ولا يتحقق ذلك إلا بأدوات فنية وتقنيات حديثة، تحددها البلاغة الجديدة لكل فن، إذ تقوم هذه الأخيرة على وسائل متعددة - يطول شرحها- أهمها الرموز ولاستعارة...(14).
2- الرواية جنس أدبي: مادته اللغة
إن اللغة هي أساس الجمال في الإبداع الأدبي، بصفة عامة وقد أصبحت اليوم، الأساس المتين الذي تقوم عليه الرواية الحديثة، بعد أن فقدت الشخصية(Personnage) كثيرا من الامتيازات، التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين؛ حيث عدلت الرواية تدريجيا، عن استعمال هذا المصطلح، إلى استعمال مصطلحين سيميائيين، أكثر دقة، وهما مصطلحا: المنفذ والممثل(Actan Acteur) (15)، وبهذا لم يبق للرواية غير جمال لغتها وأناقة نسجها(16).
فما هي إذن المواصفات العامة للغة الروائية؟
يمكننا القول بصفة عامة إن لغة الكتابة الأدبية لغة قلقة متحولة زئبقية الدلالة، بحكم تعامل المبدعين معها تعاملا انزياحيا(17)، بالمفهوم الذي تحدثنا عنه سابقا. وعليه يمكن القول مبدئيا، لغة الرواية هي تلك اللغة الخاصة، التي يصطنعها الروائي، ويخرجها(من المستوى الميكانيكي إلى المستوى الانزياحي، الذي يتيح له أن يسخر لغته لمعان جديدة كثيرة ..توسع دلالتها)(18).
وبناء عليه، تتميز لغة الرواية الحديثة، بلغتها الشعرية المكثفة والموحية، تصطنع الجمل القصار وتحدث نوعا من الإيقاع الموسيقي، الذي يحدث عند المتلقي ما يعرف بالمتعة الفنية(19). وبعبارة أخرى، فإن لغة الرواية، هي عمل بارع باللغة، يؤثر على المتلقي بنسيجه اللغوي العجيب، الذي هو كل شيء في الرواية الحديثة، التي أصبحت متميزة بصناعة فنية خاصة بها، إن على مستوى المعجم أو التركيب أو الأسلوب، وخاصة تقنيات سردها، الذي يجسد أحداثها، ويرسم شخصياتها، وفضاءاتها وبنيتها الزمنية..
2_1 مستويات لغة الكتابة الروائية:
طرح منظرو الرواية عدة أسئلة، عن مستوى لغة الكتابة الروائية، من قبل: ما المستوى اللغوي الذي يكتب به روائي النص روايته؟ أبلفصحى يكتب أم بالعامية؟ أم بلغة وسط؟ أم بعدة مستويات لغوية؟ ثم هل تختلف لغة السرد عن لغة الحوار؟
وفيما يلي إجابة كجملة ومختصرة، لتلك الأسئلة، نستهلها بقولنا إن لغة الرواية ذات مستويات متعددة، بحسب المستوى الثقافي والاجتماعي لشخصياتها؛ إذ لا يمكن مثلا أن يجعل لغة رجل من العامة، ذا مستوى ثقافي بسيط، هي نفسها لغة مثقف جامعي، كما لا يعقل في حوار إن ينطق الفلاح والتاجر والمهندس، بمستوى لغوي واحد. ومن هذا المنطلق، فإن لغة الرواية تتعالق فيها عدة مستويات لغوية وتتقاطع، لتؤلف نسيجا نصيا منسجما ومتناغما، يمزج فيه الروائي القدير ببراعة فنية، بين لغات شخصياته، بالمفهوم اللساني الذي سبق ذكره، إن على المستوى اللساني الأفقي ( الانتماء الجغرافي للشخصيات ..) أو العمودي ( انتماء الشخصيات لسلم اجتماعي طبقي..أو تاريخي ).
والخلاصة هي أن ما يميز كاتب رواية عن آخر، هو هذه القدرة العجيبة على نسج نصي (موزاييكي ) تتألف وتتناغم فيه أصوات مختلفة قد تكون متنافرة فتكون سنفونية رائعة. أو لوحة فنية خالدة.
2-2 لغة النسيج السردي:
الحديث عن السرد وتقنياته وأنماطه..(20) حديث طويل يضيق به المسار الذي رسمته هذه الداخلة لنفسها، لذا نكتفي بإعطاء فكرة بسيطة عنه، نجملها في قولنا: أنه الطريقة التي تروى بها أحداث الرواية، وترسم بها شخصياتها؛ إذ يسعى من خلالها كاتب الرواية أن يقنعنا فنيا بما حدث، أو يزعم أنه حدث(21).
ولما كان السرد هو البنية الأساسية في النص، فإن الروائيين المحدثين، يحرصون كل الحرص على لغته، يحرصون كل الحرص على لغته، بحيث تكون أنيقة، رقيقة النسج موحية .. تتوفر فيها كل المواصفات الفنية المطلوبة.
2-3 لغة الحوار:
الحوار بنية أساسية أخرى، في أبناء الروائي، يتخيل البنية السردية، والحوار الروائي المتألقن يكون مقتضبا ومكثفا، لا يغيب فيه السرد والسارد عبر الشخصيات المتحاورة، على حساب التحليل، وعلى حساب جمالية اللغة واللعب بها(22). ولغته لا ينبغي ان تكون رفيعة عالية المستوى، ولا سوقية عامية(23)، وإنما تكون لغة وسطى، تتكيف مع الشخصيات المتحاورة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة غلى الأطروحة النقدية التي سادت، في فترة الخمسينيات، وامتدت إلى السبعينيات تقريبا، والتي ترى أن لغة الكتابة الروائية ضربان مستويان: مستوى السرد، وتكون لغته فصيحة عالية، ومستوى الحوار، وتكون لغته عامية متدنية أحيانا(24). وقد تأثرت بعض الأعمال الفنية، بهذه الأطروحة حينا من الدهر، فراكمت العامية على الفصحى، دون تحفظ فني، وأنتجت نصوصا، لا هي من جنس الأدب، ولا من جنس التاريخ(25).
لذا نسند الرأي الذي يتخذ العامية لغة، في كتابه الحوار، مهما كان المستوى الثقافي للشخصيات المتحاورة، ونتفق معه في أن تكون لغة السرد أو الحوار لغة فصحى، تتوفر فيها سمات الفن والجمال، والإيحاء والشعرية، لكن ليس بالقدر الذي تصبح فيه شعرا، ولا بالقدر الذي ينزل بها إلى الإسفاف والركاكة(26).
3- الخصائص اللغوية في روايات ابن هدوقة:
بعد هذه الإطلالة البانورامية على بعض خصائص لغة الرواية، ننتقل إلى استجلاء بعضها، في روايات عبد الحميد بن هدوقة، على سبيل الإجمال، في النقاط التالية:
تتميز لغة الكاتب بالبساطة والسهولة والدقة، كما تتميز بفصاحتها وخلوها من الغرابة والصعوبة، وكثيرا ما يستمد معجمها من فضاء الرواية، كفضاء القرية أو الدشرة في رواية ريح الجنوب، أو فضاء المدينة في رواية بان الصبح، فيختار لكل فضاء ما يناسبه: الألفاظ الخشنة الدالة على قسوة الطبيعة وعنفها في الأول، والألفاظ الرقيقة العذبة، التي تناسب البيئة الحضارية للمدينة. وغالبا ما يتكئ الكاتب على الجمل الفعلية القصيرة، في نصوص رواياته، لتجسيد أفعال شخصياته وأفعالهم، وقد تطول جملة أحيانا، بطغيان السرد على الحوار. ولعل ما يلفت النظر أكثر في روايات عبد الحميد ابن هدوقة كلها، هو أنها تعتمد على الفصحى الوسطى، المقربة من أوساط المثقفين، فهي لا ترتفع إلى حد الإفراط، أو التقعر اللغوي، ولا تسف أو تنزل إلى الركاكة أو العامية. فحتى الحوار الذي يجري بين الشخصيات البسيطة، ذات المستوى الثقافي البسيط، لم يجره بالعامية، كالحوارات التي دارت بين العجوز رحمة وخيرة وابن القاضي ..(27) في رواية ريح الجنوب، اصطنع لها لغة فصحى بسيطة، عكست بصدق فني مشاعرها وأفكارها البسيطة، وقد اتضح الأمر أكثر في رواية بان الصبح، التي تبين فيها الفرق واضحا بين مستويين لغويين: أحدهما بسيط بساطة( الشيخ علاوة وزوجته بحرية )(28) والآخر عال دقيق وعميق، يتناسب مع المستوى الجامعي لكل من (دليلة نعيمة نصيرة رضا)(29)، وبهذا اسند الكاتب لكل شخصية لغتها الوظيفية التي اكتسبتها من واقعها وثقافتها. وعلى العموم فإن لغة ابن هدوقة ( إن في بنيتها السردية أو الحوارية) تميزت بأسلوبها الفصي السهل النقي، وقد يحدث أن يستخدم بعض العبارات العامية، أو بعض الأمثال الشعبية أو بعض المقاطع من الشعر الملحون، لكن ذلك لا يخل بفصاحة لغته ولا نقاوتها؛ لأن الكاتب في هذه الحالة، يلجأ إما إلى تفصيح الظواهر السابقة، أو إلى توظيفها توظيفا فنيا بارعا، لا يعكر صفاء الفصحى ولا يخدش جمالها، وغنما يزيدها حسنا ونقاء. وقد شهدت لغة ابن هدوقة، عبر مساره الروائي ن تطورا ونقلة نوعية، فقد انتقلت من الواقعية في روايات ريح الجنوب، ونهاية الأمس وبان الصبح، إلى الرمزية والشعرية في رواية الجازية والدراويش(30) التي انتقل فيها الكاتب إلى لون روائي جديد، تمثل في الواقعية السحرية، التي استلم فيها فن الرسم والموسيقى، ليشكل لوحات فنية عجائبية، من خلال لغة فنية جميلة، تأسر القارئ وتسحره، كما كان نصيب الشعرية واضحا، في روايته الأخيرة غدا يوم جديد (31)، حيث تميزت هي الأخرى، بتحكم كبير في تقنية السرد المعتمد على اللولبية أو الدائرية التي تميز بها سرد هذه الرواية، يتقدم فيها الكاتب خطوتين إلى الأمام، ليعود إلى الوراء خطوة، ثم يستأنف تقدمه من جديد بالطريقة نفسها.
الخاتمة:
حاولنا في هذه المداخلة المتواضعة، أن نعرض بعض الأفكار العامة، لتقريب عالم الرواية الحديثة غلى الجمهور وطلبة الثانويات بصفة خاصة، فاستعرضنا باختصار بعض المصطلحات اللسانية العامة، كمصطلح اللسان واللغة والكلام، كما عرضنا باقتضاب مصطلح الانزياح، لننتقل بعد ذلك للخصائص العامة للغة الرواية الحديثة، فتكلمنا عنها بإيجاز، حيث استعرضنا خصائص عل من لغة السرد ولغة الحوار وإشكالاتهما، وانتهى بنا المطاف غلى بعض خصائص لغة ابن هدوقة، التي تميزت بسهولتها ونقائها من العامية، إن على مستوى الحوار أو السرد، كما عرفت تطورا ملحوظا، حيث انتقلت من الواقعية في الروايات الأولى، إلى الواقعية السحرية في رواية الجازية والدراويش، إلى الشعرية والتحكم في تقنيات السرد في الرواية الأخيرة: غدا يوم جديد.
الهوامش:
01) عبد السلام المسدي: اللسانيات وأسسها المعرفية. الدار التونسية للنشر تونس 1986 ص:84
C .Baylon .P . Fabre :Initiation à la linguistique . Ed . Nathan 1975 . P: 10
03) المسدي: نفسه
Ibid . P. 10 C .Baylon :
05) نفسه ص:85
06) المسدي نفسه ز ص :87
07) عبد المعطي حجازي: علم للغة العربي. دار الثقافة للنشر والتوزيع.د.ت.ص:02
08) نفسه. ص:23
09) حجازي: نفسه. ص
10) عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب. الدار العربة للكتاب.ط2 تونس1982 ص ص:162_165
11) عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية. سلسلة عالم المعرفة. ع:240 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.الكويت 1998 ص:123
12) مرتاض: نفسه.ص:521