التداخل النصي بين جازية بن هدوقة ونجمة ياسين

أحمد منّور من جامعة الجزائر
أحمد منّور من جامعة الجزائر
التداخل النصي ظاهرة أدبية قديمة، عرفت في مختلف الآداب على مستوى الأدب القومي الواحد واللغة الواحدة، كما عرفت على مستوى الآداب واللغات المختلفة، فنجد على سبيل المثال تداخلا نصيا واضحا في العديد من المواقف "كلكامش" البالية، و"الأوديسة" اليونانية، كما نجد تأثرا واضحا بالموروث الثقافي الإسلامي في "الكوميديا الإلهية" لدانتي، وخاصة بـ "رسالة الغفران" للمعري، الذي يقال إنه تأثر فيها بدوره بريالة " التوابع والزوابغ" لابن شهيد الأندلسي، وجميعهم كانوا متأثرين- من جهة أخرى- بقصة الإسراء والمعراج. وكان النقاد العرب ينظرون إلى هذه الظاهرة نظرة ازدراء، ويطلقون عليها ببساطة اسم "السرقات الأدبية" ويسوقون الأمثلة الكثيرة على أخد الشعراء المعاني والأخيلة والصور من بعضهم البعض، ويردون لصاحب السبق فيها(1)، أما اللاحق فلم يكن في نظرهم إلا مقلدا، مهما اجتهد في إلباس المعنى الذي أخذه من السابق لباسا جديدا، أو وجهه في سياق مختلف.
لم تأخذ الظاهرة هذا المعنى القدحي في أدب عصر النهضة في أروبا، فقد قام الأدب الكلاسيكي فيها على إحياء موضوعات الأدب اليوناني القديم، وإعادة صياغته من جديد، وسمي لأجل ذلك بـ "أدب الإحياء"- (Littérature de renaissance) أمل المقارنون المحدثون فقد أولوا الظاهرة عناية كبيرة، وجردوها من أي معنى قدحي يكون قد ألصقه بها النقد القديم، ورأوا فيها، على العكس من ذلك، ظاهرة صحية تعمل على تلاقح الأفكار، وتوالد المعاني، وتخرج الأدب القومي من عزلته وتدفع به إما للتأثير في الآداب الأخرى أو للأخذ منها بما يكمله ويغنيه ويجعله يساير الركب الأدبي العالمي(2)، بل وجعلوا من تتبع انتقال الأفكار والموضوعات والصور بين الآداب، ومعرفة الكيفية التي انتقلت بها من أدب إلى آخر، ومن بلد إلى بلد، ومن لغة إلى لغة موضوع بحثهم الرئيسي الذي يقوم عليه هذا الفرع الحديث من الدراسات الأدبية. وأولى الشكلانيون المعاصرون بدورهم هذه الظاهرة العناية نفسها، واصطلحوا على تسميتها بمصطلح "التناص" أو "التدخل النصي" (L'intertextualité)، وقد تجاوزوا البحث في النصوص التي قام الدليل على تأثر بعضها ببعض إلى ما غاب الدليل فيها على ذلك(3)، لأن تشابهها يعبر عن ثراء التجارب الإنسانية وقابليها للتكرار كلما تهيأت الظروف المتماثلة، حتى وإن تباعدت في الزمان أو المكان.
والمثال الذينحن بصدد تناوله هنا، وهو التدخل المتعدد الأوجه الذي لاحظناه بين شخصيتي "الجازية" و"نجمة" في روايتي بن هدوقة وكاتب ياسين، يدخل في هذا النوع من الدراسات التي تستعبد أي معنى من تلك المعاني القدحية التي أشرنا إليها آنفا كالسرقة أو النحل أو السلخ أو التشويه، إنما يتعلق الأمر بذلك التفاعل الأدبي الإيجابي الذي يحدث عادة بين أدبين، أو أديبين، فينتج عنه تلاقح فكري، وتحاور فني، وتفاعل حضاري، تتعدد فيه زوايا النظر، وتتولد الأفكار، وتتوارد الخواطر، وتتشكل الصور الفنية الرائعة، في حركة أخد وعطاء مثمر، دون مفاخرات قومية، أو حساسيات لغوية، أو حسابات ضيقة، مع ملاحظة أن الأمر يتعلق هنا بأدبين جزائريين، من سن واحدة تقريبا، عاشا متعاصرين في مجتمع واحد، وفي ظرف سياسي واحد، حتى وإن عبرا بلغتين مختلفتين(4).
ولا غرابة أن يستلهم بن هدوقة في "الجازية" رواية "نجمة" التي شكلت - بشاهدة النقاد - نموذجا فريدا من نوعه في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، وظلت على مر السنين تمثل قمة العطاء بالنسبة لكاتبها نفسه، وللكتاب الجزائريين الآخرين. علما أن كاتب ياسين نفسه كان متأثرا في "نجمة" - وباعترافه هو - برواية "بوليسيس" لجيمس جويس، وبـ "الصخب والعنف" لفولكنر(5). لكن، يظل لكل كاتب عبقريته الخاصة، وأجواؤه الفنية، وقدراته الإبداعية التي صور بها شخصياته، والسياق التاريخي لأحداث روايته والمضمون الفكري والثقافي والاجتماعي الذي ضمنه إياها.
حقا ما إن يشرع القارئ في قراءة الصفحات الأولى من رواية "الجازية والدراويش" لبن هدوقة حتى تستدعي شخصية "الجازية" في ذهنه بشكل مبهم شخصية "نجمة" في رواية كاتب ياسين التي تحمل الإسم نفسه، ثم يروح إحساسه بوجود الصلة بين الشخصيتين يقوي ويتأكد لديه كلما تقدم أكثر في القراءة.
والواقع أن التشابه بين الشخصيتين أمر مؤكد، نستطيع أن نتلمسه في العديد من الأوجه، إن على المستوى السطحي الظاهر، أو على مستوى الرمزي الذي حمّله كلا الروائيين لبطلة روايته.
لكن دعنا نبدأ أولا بالبحث في إسمي "الجازية" و"نجمة" اللذين اختارهما بن هدوقة وياسين لبطلتي روايتهما، وليكونا في الوقت ذاته رمزا للجزائر، ونتساءل عما إذا كانت بين الإسمين علاقة ما؟ وعما إذا كان هذا الإختيار ناتجا عن تفكير وتأمل، ام مجرد اختيار اعتباطي لا اجتهاد فيه ولا تفكير؟
إن إسم "جازية" إلى جانب دلالته التي تعني الجزاء، وهو اسم مصدر(6)، ويعني الكمال الصفات، فإنه يحمل من جهة أخرى دلالة تاريخية، ويذكرنا ببطلة السيرة الهلالية المشهورة، تلك المرأة التي خلدتها الذاكرة الشعبية، وصنعت منها أسطورة تتناقلها الأجيال، وجعلت منها مثالا نادرا في الجمال والذكاء وسداد الرأي.
أما إسم "نجمة" فمعنها لغة: نوع من الشجر، ومعناه أيضا: النبتة الصغيرة، وله معنى ثالث هو: الكلمة(7)، أما الفعل نجم فمعناه ظهر أو طلع، في حين أن إسم "نجمة" الذي تسمى به المرأة في البلاد المغاربية عامة، والشرق الجزائري خاصة، إنما يستعمل كمؤنث للفظة "نجم" - حسب ما تشير الدلائل - جريا على القياس، وهو إسم جنس يدل، كما هو معروف، على كل جرم سماوي يضيء من نفسه، ويطلق على النساء كناية على الجمال والرفعة. أما العرب فلم تستعمله - حسب علمنا - إلا مذكرا(8)، ولذلك كانوا يطلقونه على الرجال دون النساء، فإذا أرادوا تسمية المرأة بالنجم أطلقوا عليها إسم "ثريا" وهي لفظة مرادفة لكلمة "نجم" أيضا(9).
وإذا كان بن هدوقة قد اختار رمز الجزائر من التاريخ، ممثلا في اسم الجازية التي يمكن أن نؤولها بأنها ترمز إلى البعدين العربي والإسلامي للجزائر، فإن ياسين قد اختاره من الجغرافيا والتاريخ معا، فربط بين اسم بطلته وبين الشكل الخماسي الذي تبدو به الجزائر على الخارطة، والنجمة الخماسية التي تتصدر العلم الجزائري، وقد أكد هذا المعنى بوضوح في عنوان روايته اللاحقة: "المضلع النجمي Le Polygone Etoilé(10)، التي تشكل الجزء الثاني من رواية "نجمة".
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن "نجمة" ياسين، تلتقي مع الجازية الهلالية في أصلها العربي، فهي تنتسب إلى قبيلة "كبلوت" التي نزحت بدورها من الجزيرة العربية، استقرت بمنطقة الناظور بالشرق الجزائري، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في الرواية أكثر من مرة(11)، ونعلم من الناحية التاريخية أن نزول بني هلال وبني سليم في البلاد المغاربية قد تركز أساسا في تونس والمنطقة الشرقية للجزائر، قبل أن يتوغلوا في المناطق الأخرى(12).
ومن هنا – وبناء على هذه الدلالات والأدلة – يمكننا أن نستنتج بكل اطمئنان أن اختيار الكابين لاسم بطلتي روايتيهما قد جاء عن قصد مسبق، ونتيجة لتفكير عميق وطويل ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن نرجعه إلى الجانب اللاواعي من العملية الإبدعية، وإن كنا لا ننكر هذا الجانب فيها. ومن هذه الأدلة نفسها يمكن أن نعد هذا الاختيار هو أول مظهر التداخل النصي بين روايتي "الجازية" و"نجمة".
ونأتي الآن إلى التداخلات الأخرى، لنقرر أن أولى الملامح العامة المشتركة التي نلحظها على مستوى الظاهر في شخصيتي الجازية ونجمة تتعلق بتشابه الظروف التي أحاطت بطفولتيهما ونشأتيهما تشابها كبيرا، فقد عاشت كلتاهما يتيمة الأبوين، نجمة التي لا تعرف لها أبا، وتخلت عنها أمها وهي في الثالثة من عمرها، فتبنتها "للاّ فاطمة" التي كانت عاقرا، واتخذتها ابنة لها(13)، وكذلك كان حال الجازية التي ماتت أمها أثناء الوضع، وذهب أبوها إلى الحرب ولم يعد(14)، فقامت بتربيتها وتنشئتها "إحدى القرويات الفضليات" تدعى عائشة بنت منصور(15). غير أننا لا نجد بعد هذه المعلومات العامة أية تفاصيل في كلا الروايتين تفيدنا في إجراء مقارنات أخرى بين حياة البطلتين في هذه المرحلة أو في مرحلة المراهقة من حياتهما، وتنقلنا مباشرة إلى مرحلة النضج لديهما.
وفي هذه المرحلة نلاحظ أنهما لم تكونا سعيدتين في حياتهما الزوجية، فقد تزوجت كلتاهما دون رغبة منها زواجا غير متكافئ، تزوجت نجمة من كمال، وهو رجل ضعيف، مسالم، يحيى حياة هادئة لا يعكر صفوها رغبة في التغيير والتطوير، أو طموح في الوصول إلى هدف معين في الحياة، تزوجها "لأن أمة أرادت له أن يتزوجها"(16)، وقبلت نجمة الزواج منه نزولا عند رغبة مربيتها "للاّ فاطمة"، التي مارست عليها كل وسائل الضغط، لأنها رأت في ضعفه حماية لها من ظلم الرجال وتجاوزاتهم، قالت لها "إنه رجل طيب، دمث الأخلاق، حلو المعاشرة، حتى يخيل للمرء أنه ليس ابن أمه(؟)، من ذا تريدين بعلا، أتريدين جلفا يبيع حليك ومصوغك؟ أتريدين سكيرا؟(17).
ولم تكن الجازية أوفر حظا في زواجها من نجمة، فقد أنباتها امرأة غربية الأطوار تقرأ الكف، أنها ستأكل عشبة تبقيها صغيرة، وستتزوج أزواجا غير شرعيين، يلاقون حتفهم الواحد بعد الآخر، إلى أن يأتي يوم يموت فيه كل أبناءها من الزيجات الحرام، وتتزوج زواجا حلالا يشهده كل دراويش الدنيا(18). ولا يفوتنا أن الرواي يتحدث عن زواج مفترض تنبأت به العرّافة، لا عن الزواج وقع فعلا، وهو حديث مبهم وخال من أية تفاصيل كما رأينا في زواج نجمة، ثم لا يعود إلى الموضوع مرة أخرى طوال فصول الرواية، ولعل هذا هو الفرق الرئيسي الذي يمكن أن نلمسه على مستوى السرد الروائي بين الكابتين، حيث يظل ياسين، رغم تحليقه البعيد في سماء الشعر، أقرب إلى الواقعية من بن هدوقة، كما يظل استعمال الرمز لديه أكثر عفوية ووضوحا.
وبالرغم من الظلال الرمزية الكثيفة التي غلف بها كلا الروائيين شخصيتي نجمة والجازية، فإننا نستطيع مع ذلك أن نتبين فيهما صوره المرأة بوضوح، وأن نصل الرغم من الظلال الرمزية الكثيفة التي غلف بها كلا الروائيين شخصيتي نجمة والجازية، فإننا نستطيع مع ذلك أن نتبين فيهما صوره المرأة بوضوح، وأن نصل إلى هذه النتيجة: أنهما في واقع الأمر امرأتان عاديتان، لا تختلفان عن كثير من النساء، وجمالهما ليس جمالا خارقا ولا نادر الوجود، لكن ما يميزه ويجعله شيئا غير عادي أنه جمال يحمل سحرا خاصا، وغموضا لا تفسير له، يفتن كل من يراهما من الرجال، ويسلبه إرادته، ويجعله أسير هواهما. هذا ما يعبر عنه مثلا أحد أبطال رواية نجمة حين يقول: "روى الكاتب نفسه أنه يوم رأى نجمة للمرة الأولى عن كثب قد اهتز قلبه لها بعنف. إنك لتجد نساء قادرات على كهربة الجو من حولهن، وإثارة الحديث عنهن..."(19). أما جازية فتبدو لعشاقها بدورها على النحو قريب من الوصف السابق لنجمة، يقول عنها الطيب بن الجبالي: "حقرت نفسي أمامها، امتلكني حزن غريب وأنا أرى نفسي تصغر كلما رفعت بصري إليها، إن جمالها مخيف، إذا ابتسمت يهتز الوجدان إليها، إذا تكلمت تنفتح النفس كلية لاحتضان كل ذبذبات صوتها"(20).
ومن يحدث نوع من الانزياح تتجاوز فيه شخصيتا الجازية ونجمة حدود الواقع والمألوف، وتتخطيان صفة كونهما امرأتين يهيم في حبهما الرجال ويتنافسون من أجل الظفر بهما، لتتخذا بعدا رمزيا وأسطوريا، تتلاشى فيه صورة المرأة شيئا فشيئا، لتحل محلها صورة الجزائر بجمالها وجلالها، بماضيها وحاضرها، بصبرها وجلدها، بآلامها وآمالها، ويصبح الخطاب الروائي خطايا مزدوجا، أشبه ما يكون بالحديث الصوفي الذي يحمل ظاهرا وباطنا، فيتحدث عن الجازية أو نجمة المرأة، في الوقت نفسه الذي يعني فيه الجزائر الوطن.
وقد ساعد على تسجيد هذه الدلالة المزدوجة أن الروائيين قد تعمدا في حديثهما عن حديثهما عن البطلتين أن يكون دائما بضمير الغائب، وأن يكون مبهما في معظم الأحيان، وبعيدا عن التعبير المباشر، لاسيما إذا تعلق الأمر بوصف جمالهما، ومفاتنهما الجسدية.
وهنا تتجلى لنا فيهما ميزة أخرى غربية ومتعارضة، تكسبها إحدى الصفات الأسطورية، ونعني بها ميزة الحضور والغياب في آن واحد، فهما دائمتا الغياب في معظم فصول الروايتين، لا تظهران إلا قليلا، ولا تتحدثان إلا أقل من ذلك، ولا يأتي ذكرهما في الغالب إلا بضمير الغائب – كما سبقت الإشارة – ولكنهما من جهة أخرى دائمتا الحضور، وبإلحاح قوي، يتجلى ذلك في حديث أبطال "نجمة" وفي تفكيرهم، فنجمة حاضرة معهم، أين ما كانوا وحيثما وجدوا، حين يجتمعون، وحين ينفردون بأنفسهم، في عنابة، أو قسنطينة، أو الناظور، في القطار المنطلق إلى عنابة، أو على ظهر الباخرة المتجهة إلى الحجاز، أو في ورشة السيد "ريكارد" أو في المعتقل، أو في السجن، يداعب طيفها أحلامهم، ويملأ عليهم حياتهم، ويخفف وطأة المعاناة عليهم، فنجمة هي المنطق والمنتهى في كل شيء في حياتهم.
وكذلك كانت الجازية غائبة وحاضرة دوما في حديث أهل القرية كلها، وحكايات الرعاة، وشطحات الدراويش، ومع الطيب في سجنهن وعائد في رحلة عودته، وفي اجتماع النساء عند النبع: "الجازية أخرجت الدشرة من سبات القرون، اعطتها حياة حافلة خصبة بدل حياتها الميتة، تضحك صباحا فتنشر ضحكتها أغاني عذابا في العشايا تغنيها الفتيات والرعاة(...) أشيعت حولها ألف خرافة، تفوق ما شاع من خرافات حول الجازية الهلالية..).
وهناك سمة أخرى مشتركة نجدها في شخصيتي نجمة والجازية على سواء، لها علاقة بالناحية الأسطورية، وهي ما أطلقت عليه إحدى الباحثات اسم "مظهر اللعنة" في شخصية "نجمة" (L’aspect maléfique) (22)، فهما اللتان يختلف الناس حولهما ويتنافسون ويتصارعون للظفر بهما، ولكن يبقى الوصول إليهما أمرا يكاد يكون مستحيلا، فإذا تحقق كان وبالا على صاحبه. يقول مصطفى، أحد عشاق نجمة: إنها ليست سوى "إرهاص الخيبة"(23)، ويصفها في موضع آخر بأنها "نجمة التي ستهلكنا، نجمة طالع شؤم قبيلتنا"(24). ونجمة نفسها تدرك هذه الحقيقة بكل وضوح، ولكنها تعتقد أنها هي الضحية، وهي السجينة، ولذلك تنتقم لنفسها من عشاقها وتقول: "سأحبسهم في سجني ما داموا يحبونني وسيكون القرار الفصل – بطول الزمن – في يد السجينة"(25).
والجازية من جهتها كانت مثل النجمة: ":النار تحرق كل من يقترب منها"(26)، فمن يتعلق بالجازية أو يتزوجها لا يهنأ بها، وتحل به اللعنة "قالت إن خطّابها تحيق بهم الكوارث قبل أن يتربع حلم الزواج في رؤوسهم"(27)، وحدث بالفعل، تجرأ عليها الأحمر، الطالب المتطوع، وراقصها في حفلة أقامها دراويش القرية فعثر عليه في اليوم التالي مقتولا، وتعلق بها الطيب بن لخضر الجبايلي وخطبها فجاء حادث مقتل الطالب المتطوع ليتهم بقتله ويلقى به في السجن، وهناك أناس آخرون غير الأحمر والطيب "تعذبوا، وسجنوا، وحلموا السنين الطويلة ليحصلوا على نظرة واحدة من الجازية ولم يستطيعوا"(28).
وحتى عدد عشاق "نجمة" وهم أربعة: مراد، والأخضر، ومصطفى، ورشيد، نجده يتكرر بالنسبة للجازية، فعشاقها بدورهم أربعة: الطيب بن الجبايلي، والأمر، وعايد، وابن الشامبيط. إلا أن التشابه يتوقف هنا عند هذا الحد، ليرسم كل كاتب لعشاق بطلته خلفية اجتماعية ونفسية خاصة، ودلالات سياسية مختلفة، فعشاق نجمة على تنافسهم الشديد، كانوا كلهم أصدقاء وإخوة في الوقت نفسه من الأب أوالأم من زواج ثان، أو ثالث، أو رابع، دون أن يكونوا دائما على علم بصلة القرابة الأخوية هذه، كما كانت تربطهم صلة القرابة بنجمة من جهة أخرى، فهي ابنة خالتهم "للا فاطمة" أم نجمة بالتبني، وكلهم من قبيلة "كبلوت" التي تقطن منطقة الناظور بالشرق الجزائري، ومن هنا فإن حب نجمة بالنسبة إليهم بقدر ما كان عامل فرقة وتنافر وتناحر، فد كان في القت نفسه عامل تكاتف وتوحيد يجمعهم على هدف واحد.
ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة لعشاق الجازية، فلم يكن هناك رابط يجمعهم تقريبا، إلا حب الجازية، وهو حب غير شريف دائما، وغير خالص لوجه الحب، تخالطه مصالح وأطماع ويشوبة الحقد والكراهية للمنافس، إلى درجة ارتكاب أشنع الأفعال ضده وهو القتل، وهذا ما حدث للأحمر، الطالب المتطوع، الذي تجاوز بجرأته في نظر أهل القرية كل حدود اللياقة، وتخطى القيم والأعراف بمراقصته الجازية، ومحاولته الكشف عن وجهها، فكان جزاؤه القتل غيلة.
والطالب الأحمر نفسه لم يكن حبه للجازية خالصا، لقد كان حبه لأفكاره – إن صح التعبير – أقوى من حبه للجازية، فعندما جاء القرية مع جموع الطلبة المتطوعين في الثورة الزراعية، جاء وفي ذهنه برنامج كامل، خيالي بعض الشيء، يريد تحقيقه على ارض الواقع، ليغير به وجه القرية، وعندما قابل الجازية "لم يتحدث أمامها عن حبه، تحدث عن عيون تسيل إلى أعلى، عن شموع تخرج من الأرض، عن مناجل تحصد لاأشعة، عن مستقبل يتجه كلية إلى المستقبل"(29).
ويعد ابن الشامبيط – الغائب للدراسة في أمريكا – من أكثر المتنافسين على الجازية جرأة وطمعا، وقد عبر عنهما والده بالمسارعة إلي خطبة الجازية، حتى يقطع الطريق على المنافسين الآخرين: "كان يريد أن يتوج اسمه بهالة النور التي صنعتها بندقية أبيها (أبي الجازية) ودماؤها، يريد مسح عار "الشمبطة" عن جبينه، كما قال السكان"(30).
ولكي نفهم قوة الدلاكة في كلمة "الشمبطة" ينبغي أن نعود بها إلى أصلها الفرنسي، فإسم "الشامبيط" الذي اشتق منه السكان المصدر: "شنبطة" (على عكس القاعدة بها في اللغة)، هو كلمة معربة ومختصرة من الفرنسية: Garde champêtre التي تعني: حارس الحقول أو الألياف، وقد جعل النظام الاستعماري من هذا الحارس عينا له على الأهالي، ويده التي تبطش بهم، فهو يراقبهم، ويفرض عليهم الأتاوات والغرامات الثقيلة، وينفد القرارات السلطة فيهم، وبحكم وظيفته هذه صار "الشامبيط" يرمز لأذناب الاستعمار ومخلفاته – وهذا الذي قصده الكاتب من هذا الإسم – وهؤلاء لم يكونوا غداة الاستقلال قلة، ولم يكونوا مستعدين للتخلي عن نفوذهم وامتيازاتهم التي حصلوا عليها في عهد الاستعمار، فكانوا يحاولون دائما أن يتكيفوا مع الظروف، ويبيضوا صفحتهم بأية وسيلة، وهكذا يتخلى ابن الشانبيط عن صفته الفردية، وعن مجرد كونه خاطبا للجازية، ليكشف عن وجه آخر يمثل طبقة بأكملها، لها مصالحها، ونفوذها، وأغراضها وتربط بالقوى الامبريالية الجديدة ممثلة في أمريكا، ويصبح طلب يد الجازية معناه الاستحواذ على مقدرات البلد وخيراته.
أدرك هذه الحقيقة وعبر عنها بوضوح الأخضر بن الجبايلي وهو يحاول أن يقنع ابنه بضرورة الزواج بالجازية حين قال له: "الجازية ليست فتاة، هي حياة، من دخلت داره فاض خيره، وعلا نجمة"(31). ومن هنا يكون الطيب بن الأخضر الجبايلي المتنافس الوحيد، ولعله المتنافس الأحق بها، الذي كان زاهدا في الجازية، لكنه سرعان ما غير رأيه واقتنع بعقله أولا بتأثير من والده، ثم بقلبه حين رآها وتحدث إليها، ومن دون المتنافسين الآخرين كان الطيب الشخص الوحيد الذي ارتاحت الجازية إليه، وقبلت الزواج منه، ولكنها عبرت في الوقت نفسه عن خوفها عليه "من دسائس الآخرين"(32).
وصدقت بالفعل توقعات الجازية، فقد وقع الطيب ضحية لدسائس الأعداء والأصدقاء على السواء، فاتهم بقتل الطالب الأحمر، وشهد عليه أهل القرية كلهم لا كرها فيه وحقدا عليه، ولكن تشريفا له وتعظيما، "شهدوا كلهم انه هو القاتل، ورضوا ذلك، لأن القتل في هذا المقام يستوجب الشرف، ومن ثمة فهو شرف للقاتل"(33)، ورضي الطيب بوضعه هذا مرغما.
أما عايد المهاجر، فقد عاد إلى أرض الآباء والأجداد خصيصا لطلب يد الجازية بغررض الاستقرار النهائي بأرض الوطن، ونزولا عند رغبة والده أيضا بضرورة العودة، لكنه فشل حتى في مجرد رؤية الجازية، وبعد أن تعلق قلبه بحجيلة بنت الأخضر بن الجبايلي، والد الطيب، وصل إلى هذه القناعة التي تتيم بكثير من الواقعية والعقلانية، قال مخاطبا الأحضر بن الجبايلي: "الجازية حلم، والأحلام لا تحقق لكل الناس، وأنا يا عم عاهدت أبي أن أعود، وقد عدت، وعاهدت أبي أن لا أزرع بذورري في الريح، ولكن في هذه التربة الطيبة، وفي أول يوم وصلت إلى هذه الدرشة شاءت الأقدار أن لا أتلاقى بالجازية، ولكن بحجيلة... فهل تقبلني يا عم قرينا لها؟"(34).
وهكذا يتحول الصراع من مجرد تنافس وصراع بين إخوة على حب حقيقي وشريف لامرأة دافعة الأول الشعور بالمسؤولية نحو القبيلة وأرض الأجداد، كما رأينا في "نجمة" إلى صراع مصالح وحرب طبقية في رواية "الجازية"، إلى صراع مصالح وحرب طبقية في رواية "الجازية والدراويش".
وهذا التحول لا يعبر في اعتقادنا على نظرة وطنية مثالية لدى ياسين، ولا نظرة واقعية متشائمة لا تخلو من ديماغوجية لدى بن هدوقة، ولكن نعتقد أنها نظرة فنية في كلا الحالتين، أملتها على الكاتبين أولا وقبل كل شيء ظروف الجزائر في مرحلتين مختلفتين اختلافا كليا: مرحلة ما قبل الاستقلال التي كانت تتطلب من أبناء الجزائر الكثير من التضحيات دون أن تعطيهم في المقابل أي مردود مادي، ومرحلة ما بعد الاستقلال التي اشتد فيها الصراع على جني المكاسب أكثر من الصراع على المبادئ. لكن، هناك أيضا النظرة الفنية الخاصة بكل كاتب، وكيفية التي يتصور بها الأشياء، ومن ثمة يصورها بها، وطريقة تعامله مع أدوات التعبير المختلفة، والإمكانات التي يتيحها له الفن الروائي عامة.
وهنا تتجلى لنا أصالة عبد الحميد بن هدوقة وقدرته على تمثل تجارب الآخرين، فقد كان تأثره بكاتب ياسين تأثرا ايجابيا مثمرا، أي أنه لم يعد في "الجازية" إنتاج ما كان ياسين قد أنتجه في "نجمة" وإنما يعني أنه تفاعل معه، وحاوره – حسب تعبير باختين – وأنتج شيئا آخر له أبعاده الفكرية الأصلية، وخصائصه الفنية المستقلة.
الإحالات:
(1) - راجع على سبيل المثال "الوساطة بين المتنبي وخصومه" لعلي بن عبد العزيز الجرجاني أو الموازنة بين الطائيين" للآمدي، فهما يوردان الأمثلة الكثيرة في هذا الصدد.
(2) - راجع: د. محمد غنيمي هلال "الأدب المقارن"، دار العودة، بيروت 1983، ص104.
(3) - هذا ما تذهب إليه مدرسة الأدب المقارن الأمريكية بزعامة ريني وليك.
(4) – لا يعني هذا أننا نتجاهل عن اختلاف اللغة من اختلاف في طريقة التفكير، أو في تصوير الأشياء، التي تنعكس بالضرورة في الكتابة، ولكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى دراسة مستقلة.
(5) – Hafid Gafaiti « Kateb Yacine, un homme une œuvre, un pays », (Entretien) Col
Voix Multiples Laphomic, Alger1986,p.24
(6) – ابن منظور "لسان العرب" مادة "جزي" طبعة دار صادر ودار بيروت، بيروت 1962.
(7) – لسان العرب، "مادة "نجم".
(8) – وقد ورد في العديد من أي القرآن مذكرا ايضا، ومنها مطلع سورة "انجم" حيث جاء الاسم فيها مذكرا بشكل واضح وصريح: (والنجم إذا هوى)
(9) – لسان العرب، مادة "نجم".
(10) - Kateb Yacine : « Le Polygone Etoilé » Ed. Du Seuil Paris, 1966.
(11) – راجع «Nedjma », Edition du Seuil, Paris, 1956, pp. 124, 129 134 أو "نجمة" ترجمة محمد قوبعة (نشر ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1987) الصفحات: 130، 135، 139. وقد اعتمدنا هذه الترجمة حين نورد الإستشهادات، حتى لا نضطر للترجمة من الاصل، لأننا رأيناها أقرب في روحها إلى الأصل من ترجمة السيدة مالك أبيض العيسى (منشورات دار الاتحاد، بيروت 1962)، حتى وإن تجاوزتها هذه الأخيرة في جمال العبارة.
(12) – راجع محمد المرزوقي "منازل الهلاليين في الشمال الإفريقي" في أعمال الندوة العالمية الأولى حول السيرة الهلالية التي عقدت في الحمامات بتونس في الفترة ما بين 26 و29 جوان 1980، نشر الدار التونسية للنشر، والمعهد القومي للآثار والفنون بتونس، تونس 1990، من ص 19 إلى ص 30، ولاسيما ص 27.
(13) – نجمة، ص 109.
(14) – عبد الحميد بن هدوقة "الجازية والدراويش" المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983، ص 25.
(15) – الجازية، ص 24، 25.
(16) – نجمة، ص 69.
(17) – نجمة، ص 70، 71.
(18) – الجازية، ص 77.
(19) – نجمة، ص 76.
(20) – الجازية، ص 76.
(21) – الجازية، ص 25.
(22) – Zoubida Boutaleb «Réalité et symbole dans Nédjema »,
O.P.U Alger 1983, p
(23) – نجمة، ص 87.
(24) – نجمة، ص 196.
(25) – نجمة، ص 69.
(26) – الجازية، ص 163.
(27) – الجازية، ص 152.
(28) – الجازية، ص 171.
(29) – الجازية، ص 18.
(30) – الجازية، ص 25.
(31) – الجازية، ص 73.
(32) – الجازية، ص 76.
(33) – الجازية، ص 97.
(34) – الجازية، ص 221.