التجريب وسؤال الحداثة في الرواية العربية الجزائرية

د. بوشوشة بن جمعة - جامعة تونس
د. بوشوشة بن جمعة - جامعة تونس
يمثّل التجريب/ والإبداع ثنائية يحكما التعاليق الجدلي والتكامل. "فالتجريب المستمرّ هو ما يهب الكتابة شرعيتها وتبريرها"(1)، ذلك لما يتوفر عليه من "سمات فذّة وآفاق غير محدودة"(2)، تعود في جوهرها إلى طبيعته الباحثة باستمرار عن المغاير من أشكال الكتابة الروائية وأدواتها، ذلك أنّ البحث يشكل أولى درجاته إذ بــ "دون بحث لا يوجد تجريب"(3). فالبحث "هو الذي يحفز الكاتب الروائي إلى تجاوز الأشكال المستهلكة والعقيمة، وإلى تجريب أدوات جديدة وخلق أشكال حية"(4).
ولّما كانت الرواية تمثل ذلك الجنس الأدبي المنفتح على سائر تشكّلات الفعل الإبداعي في شتّى صورة التراثية منها والمعاصرة، المحليّة منها والعالمية، والقادر على التفاعل معها عبر أشكال متعددة من التعاليق النصّي، تعكس اختلافا في المرجع وتنوعا في الرؤية من كاتب لآخر، فإنها تبقى مقبلة دوما على التجريب الذي تستمدّ منه تجدّد نسغها، وتطور آليات إنشائها، عالما روائيا "لا يزال بصدد التشكل"(5)، يعكس تنامي وعي كتابها النقدي بشروط ممارستها نوعا أدبيا يتعالى على الثوابت والحدود، من خلال مساءلة السابق من الكتابات ومساءلة ذاته دون التوغل بعيدا في مسالك المغامرة. فرواية التجريب "لا تخضع في بنيتها لنظام مسبق يحكمها، ولا إلى ذلك المنطق الخارجي الذي تحتكم إليه الأنماط التقليدية في الكتابة الروائية، إنما تستمد نظامها من داخلها وكذلك منطقها الخاص بها من خلال تكسير الميثاق السردي المتداول، والتخلص من نمطية بنياته"(6)، وذلك باختراق عمودية السرد والانزياح عنها على كافة مكونات الخطاب: 'الزمن - الرؤية - الصيغة...) ثمّ يجعل الخطاب "يستوعب أبنية خطابية متعددة: المسرحي والشعري والديني، والحكائي والشفوي والصحافي والسياسي والتاريخي... ويأتي تداخل الخطابات هنا وتعددها في إطار انفتاح الخطاب الروائي عليها، لتقوم بوظائفها في مجرى الخطاب، ويتضافر مع الطرائق الموظفة في بنائه. وهذا ما يجعلها تسهم جميعا، وكلاّ حسب خصوصياته في إثراء عالم الخطاب الروائي وتشكيل مكوّناته، وأخيرا تحقيق نوع من الانسجام في بنية الخطاب"(7). والاشتغال على اللغة بأفق حداثي يتم في ضوئه التعامل مع اللغة لا كأداة إبلاغ فحسب وإنما كفضاء إبداع يسهم في شعرنة الخطاب وتكثيف دلالاته الفكرية وأبعده الجمالية، ممّا يجعل الرواية تنفتح على أكثر من احتمال وتوقع، وهو ما يكسب القراءة طابعا خاصا ينهض على السعي إلى تفجير الأبعاد الخفية في النص، خاصة إذا كان هذا الأخير يتميز بسرده المتشعب ولغته الرمزية وبعده العجائبي.
وفي الواقع، فإن رواية التجريب، تستمدّ أبرز العلامات الدالة على حداثتها من مجمل تلك الخصوصيات، التي تضفي عليها مياسم الكتابة المغايرة للسائد السردي، والمتميزة عنه بحكم ما تتوفر عليه هذه الرواية من عناصر الإضافة النوعية، والتي تتفاوت من كاتب لآخر، إلاّ أنها تبقى دلاليا معبرّة عن الكتابة المضادة والتي لا تتردّد في المواجهة/ الآخر المتعدد الوجود، بعد أن تحررت في التفكير والتخيل واللغة مجسّدة بذلك:" جواب التجاوز على سؤال الإبداع اختيار المغامرة بديلا"(8).
وتكشف المدوّنة الروائية الجزائرية ذات التعبير العربي، على انخراط عدد مهمّ من نصوصها في مذهب التجريب، وإن تفاوت درجات وعي كتّابها بشروط وآليات، ما يستثمرونه من أشكال وتقنيات، بغية التعبير عن الإشكاليات المستحدثة الناجمة عن التحولات المتأزمة التي ما فتئت تشهدها مختلف المجتمع الجزائري منذ الاستقلال إلى الآن، وما نجم عنها من أحداث جعلت البحث عن أشكال تعبيرية جديدة يكون ضرورة في نظر الجيل الجديد من كتاب هذه الرواية الجزائرية، والذي تمثل له بـواسيني الأعرج، ورشيد بوجدرة، وجيلالي خلاص، والحبيب السائح، وغيرهم، وحتى من قبل رموز الجيل المؤسس كعبد الحميد بن هدوقة (1925-1996)، والطاهر وطار، خاصة وقد أخذت أسس التجريب الروائي: مقومات فكرية وأشكالا فنية تتبلور في المشرق العربي من خلال كتابات جيل الستينات في مصر، وبعد أن غدا الشكل الروائي منفتحا على أكثر من جنس أدبي، وشكل فني، وأفق إبداع، بتأثير من المنجزات السردية الغربية إبداعا نقديا.
وأمام كثرة التجارب الروائية الجزائرية التي انخرطت في مسالك التجريب، ولم يستطيع جميعها أن يكون مبدعا، ومن ثم منتجا لشكل جديد أو للغة جديدة، عمدنا إلى اختيار بعض نماذجها الدالة، والممثلة في نظرنا لهذا النوع من الرواية التجريبية الجزائرية وما شهده ولا يزال من تشكلات تستمد تجدّد نسغها من تجدّد رؤى كتابها المتسائلة عن الرواية: شروطا وأدوات ووظيفة في المجتمع، من خلال إعادة النظر في العلاقة بالذات والمجتمع واللغة. وهي نماذج كلّ من عبد الحميد بن هدوقة، والطاهر وطار، وواسني الأعرج ورشيد بوجدرة وجيلاني خلاص، وجميعها يعكس تبلور السمات المفيدة لهذا النمط من الكتابة الروائية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، والتي تشّكل عمر هذه الرواية العربية الجزائرية، وهو نمط بقدر ما يكشف عن علامات تقاطع بين تجارب هؤلاء الكتاب ونصوصهم فإنه يبيّن توفر علامات تمايز بين تجربة وأخرى، وحتى بين نص وآخر داخل التجربة الروائية الواحدة.
1- عبد الحميد بن هدوقة وتجريب التأسيس:
تتمثل قيمة تجربة عبد الحميد بن هدوقة الروائية في المشهد السردي الجزائري الحديث والمعاصر في طابعها التأسيسي، ذلك أنّ تحديد زمن نشأة الرواية الجزائرية ذات التعبير العربي، يقترن بظهور نصّ "ريح الجنوب" عام 1971(9)، والذي يعدّه النقاد أول رواية فنية جزائرية، مقارنة ببعض النماذج البدئية التي كانت تتحسس الطريق إلى الرواية، دون أن تعكس امتلاك أصحابها الوعي النقدي بشروط كتابتها(10).
ثمّ إنها تجربة تعكس - رغم هيمنة الثقافة التقليدية على صاحبها - نزعة تجريبية باحثة عن الأشكال التعبيرية الجديدة في الممارسة الروائية يعبر عنها الكاتب ذاته في قوله: "ككاتب أحاول أن أوظّف كلّ ما أعرف: السينما، التمثيل، الإذاعة، الأدب في الرواية، وبكون هذا التوظيف حاملا لعدة مضامين ومستويات(...) فمن السذاجة بمكان أن يبقى الكاتب هو نفسه، الكاتب يتطور فنيّا.."(11).
وهو تجريب يقترن لديه بتأصيل، حتّى لا يتحول إلى سبيل التغريب/ واللاإنتماء يقول: "ينبغي أن نحافظ على الأصالة ونحترمها. وهي مميّز لإبداعات في التقنيات المستعملة"(12). وهذا ما تجسّده نصوصه الروائية التي تعكس تطور وعيه بشروط كتابة الرواية وأدواتها الإجرائية، عبر البحث عن الأشكال الفنية الجديدة، القادرة على استيعاب الإشكاليات المستحدثة في المجتمع الجزائري، والتي أفرزتها مرحلة الاستقلال، بزخم تجاربها وما عكسته من تطلعات وانتهت إليه من إخفاقات، تعلّل التحوّلات المتأزّمة التي شهدتها مختلف أبنية المجتمع الجزائري في تاريخه الحديث والمعاصر وما نجم عنها من أحداث جسام.
ففي رواية "ريح الجنوب"، والتي طرح فيها الكاتب جدلية العلاقة بين المرأة/ والأرض على صعيد التحرّر(13)، تبدو العلامات الدّالة على تجريبيتها محتشمة، حيث يشكّل استثمار الكاتب المكثّف للحوار أبرز سماتها المفيدة، إذ يشتغل عليه وظيفيا للكشف عن الوضع البائس للمرأة الجزائرية في علاقتها بالآخر/ الرجل والمجتمع، عبر عدد من النماذج النسائية، هي نفيسة وخيرة والعجوز رحمة، وكذلك لإبراز العلاقة الصدامية بين الأجيال فيما يتّصل بالحديث عن الآخرة: الموت وما وراء الموت، من خلال استثمار عناصر المخيال الإسلامي (النار، الجنّة، النشر، البرزخ، القبر)، وكذلك تناول مسألة الثورة الزراعية وما أثارته من جدل بين الشباب المتطوّعين والإقطاعيين، كما عمد الكاتب إلى استثمار تقنية التذكر في استعادة جوانب من ماضي الشخصيات، وصور من تاريخ الثورة الجزائرية زمن التحري، فضلا عن استثمار لأبيات من قصيدة البردة للبوصيري وأخرى من الشعر الملحون عن المرأة للشيخ عبد الرحمان المجدوب، إلى جانب إفادته من تقنية الترسّل.
وتبقى نزعة الكاتب النقدية مهيمنة، ودالّة على موقفه الرافض للمعتقدات الغيبية السائدة في الأوساط الريفية، والمدين لسلطة الاستقلال التي تشكّل في نظره الامتداد لسلطة الاستعمار، وهو ما يعبّر عنه عابد بن القاضي في قوله: "حياتنا كلّها مرت في التخوّف والحذر. قبل الاستقلال كنا نعيش تحت الظلم، فتعوّدنا حياة الظلم، وجاء الاستقلال فإذا بظلم الأمس يستمرّ وتزداد عليه الضرائب الجديدة"(14).
وقد عبّرت هذه الرواية عن تجريبيتها رغم توفّرها على البعض من العلامات الدّالة على رواسب الرواية التقليدية، كالسارد العليم الذي يتولى الحكي، والبنية الحديثة ذات الشكل الثلاثي (ما قبل الحدث - الحدث - ما بعد الحدث).
ولئن كانت الرواية الثانية للكاتب "نهاية الأمس"(15)، تشترك والأولى في هذه المرواحة بين التقليد والحداثة، حيث يبقي الكاتب على سارده التقليدي، ويستثمر ذات التقنيات السردية، كالاشتغال المكثف على الحوار والتذكّر، والتضمين الشعري، القديم: اليوناني والعالمي الحديث: الشعر الحرّ من صوغ الكاتب ذاته، إلى جانب التضمين القرآني، وطرح قضية المرأة مجدّدا، فإنّ الإضافة الدالة تقتصر على اقترابه من المحرم الجنسي باحتشام دون الجرأة على اختراقه، وذلك من خلال تصويره المتهيّب من ضوابط البيئة وأحكام الأعراف لليلة زفاف رقية والبشير، في الحميمي من الطقوس، وذلك عبر التوسل بأفانين من الكلم.
غير أن الكاتب سيتجاوز موقفه المتهيّب هذا من المجرّم الجنسي في روايته: "بان الصبح"(16)، والتي صوّر فيها تداعي أبنية المجتمع التقليدي وبداية تشكل أخرى بدلها، عبر رسم السلوك المتحرّر للطالبة دليلة، والتي تقوم بالتعبير عن رأيها في مجتمع رجالي، وتتحمل مسؤوليتها كاملة بعد أن تمردّت على أحكام الأعراف وأخلاقيات/ العادات والتقاليد المتقادمة، من خلال استجابتها لغرائز أنوثتها وتحديها لأشكال جبن الرجل، ثّم عن طريق نقل ما يحدث في الحمام من ممارسات شاذة بين النساء. ويعمد الكاتب في السياق ذلك استثمار ذات التقنيات التي سبق له أن اشتغل عليها في نصيّه السابقين كالتذكر، والحوار والترسّل، والشعر، وإلى تأكيد مواقفه النقدية من السلطة في تهافتها السياسي، إذ "كلّهم يعبثون، لا رقيب، ولا حسيب"(17). ومن المجتمع في شتى مظاهر تخلّفه، ويتصدرها تخلّف نظرته للمرأة وموقفه منها، مما أسهم في التردي وضعها زمن الاستقلال. وهو ما تعبر عنه دليلة/ بطلة هذه الرواية في قولها: "وضعي كامرأة في مجتمع رجال هو الذي يحزنني... مأساتي أنني أحيا في مجتمع الرجال الصديق رجل، الأب، الأخ، الزوج، حتى بائع الخبز رجل؟ ليس سوى الرجال."(18).
والواقع فإنّ التجريب يدرك مداه من النضج ومن ثّم الإضافة في رواية الكاتب، "الجازية والدراويش"(19). فهي تشكل تحوّلا نوعيا في مسيرة إبداعيه الروائي وعلامة متميزة فيه، لما توفرت عليه من علامات دالة على توصّل إلى امتلاكه من عناصر وعي نقدي بشروط الرواية وأدواتها الجمالية في صياغة الرؤية والتعبير عن الموقف، وذلك عبر استثماره التراث الحكائي الشعبي، ممثلا في السيرة الهلالية، التي وظّف منها شخصية الجازية رمزا جماليا وفكريا لجزائر الاستقلال. وهو ما يؤكده في قوله: "ترمز الجازية إلى الجزائر. أردت أن أذهب بأسطورة الجازية إلى بعد فني وسياسي من خلال الجازية الروائية. أردت أن أعطيها قاعدة مادية وجدت بالفعل.وهي الجازية الشخصية السياسية رمز الجزائر القاصرة(...) أردت أن أكذّب كلام قارئة الكف، وأقول: ليس صحيحا، الشعب ليس قاصرا..."(20)، كما استثمر - في ذات السياق - عناصر التراث الشعبي/ الجزائري، والمغاربي وتتمثل في طقوس كلّ من الزردة والحضرة، والتي قام بأسطرة أجوائها التي تجاوزت الواقع إلى اللاواقع، عبر تداخل حركات الرقص ولعق المناجل المحمّأة، وحالات تجلّي الدراويش الصوفية وبكائهم، وأصوات الزرنة والبنادير، وأصداء قصف الرعود ووميض البروق وانهمار المطر وتساقط البرد، وهبوب العاصفة... التي أتت على الفلائح والغلال وأصابت الدشرة بدمار شديد... وهي الأسطرة التي طالت المكان والشخوص والأحداث على حدّ السواء. فقد ورد المكان مطلقا، غفلا من التحديد، يلّونه الغيب/ والخرافة، إذ "يقال عن الجامع أنه مدفون به سبعة! يعبّر السكان عن ذلك بعبارة متداولة بينهم: "سبعة يغباو وسبعة ينباو"(21)، واكتسبت الشخوص أبعادا أسطورية وخاصة شخصية الجازية التي أضفى عليها الكاتب نوعا من الكثافة الرمزية، عبر اشتغاله على لعبة الإضمار والمكاشفة، الواقعي والمتخيل، الحقيقي والحلمي، في صياغة حضورها النصّي. كما امتزجت- على حد تعبير الكاتب- "الأساطير بالأحداث. الماضي الطويل أحداث ثقوبا في ذاكرة الدشرة. فأصبحت كل الأحداث الماضية أساطير. وهكذا أصبح دراويش القرية ذوي كرامات..."(22) وقد أتاحت أشكال استثمار الكاتب لعناصر من المخيّلة الشعبية في بناء روايته، إمكانية اختراقه للبنية التقليدية للرواية، وذلك بتقسيمه فصولها الثمانية إلى أزمنة، تنبني على المراوحة بين الزمن والزمن الثاني. فجاءت الفصول الفردية موسومة بالزمن الأول، في حين وردت الفصول الزوجية موسومة بالزمن الثاني. فجاءت الفصول الفردية موسومة بالزمن الأول، في حين وردت الفصول الزوجية موسومة بالزمن الثاني. ويعبر عن الزمن الأول/ الفردي، صوت الطيب بن الأخضر السجين بتهمة قتل الطالب/ الأحمر. حاضره هو ماضيه. وهذا الأخير هو عبارة عن حديث داخلي بحكم ما يعيشه داخل السجن من حالة العزلة والوحدة أمّا الزمن الثاني فيعبّر عنه صوت عايد بن السائح، العائد من المهجر إلى قريته. وهو رمز جماعي يقترن بالحاضر، إذ يرسم الحياة اليومية لأهالي الدشرة. وقد استخدم الكاتب في صياغة المتن الحكائي ضمير المتكلم بديلا لضمائر الغائب الذي استعمله في رواياته الثلاث السابقة، إلى جانب استثماره آية قرآنية كلازمة: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت". وتوظيفه تقنيات التذكر والحلم والتداعي في صياغة خطابه السردي وتشكيل أنساقه، في لغة بلاغتها في بساطتها.
وتتركس النزعة النقدية لسلطة الاستقلال في هذه الرواية، من خلال تأكيد الكاتب لموقفه القائم على أنّ الجزائر بلد ليس قاصرا حتى يكون مطمعا للدول الأجنبية ومن ثّم فإنّ الشعب الجزائري ليس قاصرا كما تنظر إليه السلطة وتعامله، وإنّما هو جدير بأن يعامل في ضوء مبادئ الديمقراطية.
أمّا رواية الكاتب الأخيرة: "غدا يوم جديد"(23)، والتي أنشأها من وحي أحداث أكتوبر من عام 1988، حيث تتكرّر عبر مقاطع الرواية لازمة "أكتوبر أنطقني"(24)، فتعكس غنى في علامات التجريب وتنوعا في الأشكال الفنية والأنواع الأدبية المستثمرة، والتي تلاقحت مع هذه الرواية وأسهمت في إثرائها الدلالي والجمالي بالأساس.
فقد استثمر الكاتب في صياغة متنه الحكائي وبناء خطابه الروائي على تقنية التوالد السردي، حيث تتناسل الحكايات عن بعضها البعض وتتداخل في أنساق الحكي، ليجد القارئ نفيه أمام أكثر من قصة. فعن قصة العجوز/ الفتاة مسعودة والتي تتقاطع وقصة السارد/ الكاتب، وتشكّل القصّة الإطار، تتولد قصص قدور، وعزوز بن المرابط، ومحمد بن سعدون، والحبيب، والشيخ أحمد، وتتداخل إلى حدّ الالتباس أحيانا عندما يتشعب السرد الذي يعكس سحر الحكي الشفوي قبل أن يتم تدوينه. كما يستثمر الكاتب أكثر من نوع أدبي وشكل فنّي في صوغ عالم حكيه وتشكيل أنساقه الجمالية.
فتعالق الروائي والسيرس بيّن في هذه الرواية، إذ تدل عليه عديد العلامات الكاشفة عن استثمار الكاتب لعدة مكونات سيرته الذاتية، يعمد السارد إلى الإفصاح عنها في حكيه والتي نجد لها صدى في حياة الكاتب مثل حديثه عن جوانب من حياته في تونس وما كان من انتمائه طالبا إلى جامع الزيتونة...
وتتلاقح في هذه النص الرواية ونوع الاعترافات الذي يتخذ من الذات موضوعا ومن تجاربها الحياتية مدارا، وذلك عبر أشكال من المكاشفة تدرك مدى التعرية. وهو ما تؤكده العجوز مسعودة في أكثر من مقطع، بقولها: "أريد تعرية كاملة لحياتي أمام الناس كما هي عريانة أمام الله"(25)، فهي تدرك أنّ "الاعتراف بالذنب تكفير عنه".(26)
وتتداخل التخوم بين الرواية ونوع المذكرات عبر استعادة شخصية مسعودة والسارد، الكثير من وقائع الحياة الماضية والمقترنة بالكثير من الوقائع المتصلة بتاريخ الجزائر في زمني الاستعمار والاستقلال (19 جوان 1965-19 جوان 1988-1930- أكتوبر 1988- نوفمبر1954). وهي استعادة وظيفية، تكشف عن موقف الكاتب الرافض لحاضر الجزائر، والذي يعبر عنه في قوله على لسان السارد: "لا أكتمك أنّ ما يدفعني إلى الماضي هو رداءة هذا الحاضر الذي نراه"(27)، والمدين لسلطة الاستقلال التي شوّهت التاريخ النضالي لشعب الجزائر، فـ "من ذا كان يتصور أنّ نوفمبر العظيم يلد أكتوبر"(28)، وبذلك فإنّ الكاتب يحمل هذه السلطة مسؤولية ما انتهت إليه البلاد من فتنة ودمار وتهافت قيمي وسلوكي. ويتم ذلك عبر اشتغاله المكثف على تقنيات التذكر والتداعي والاستيهام والاستطراد والتقطيع.
ويتداخل السرد والشعر عبر تضمين الكاتب روايته العديد من أبيات الشعر العربي القديم، ومن الزجل الشعبي الجزائري، إلى جانب مقاطع من الشعر الحر، من نظمه مما أسهم في شعرنة لغة الخطاب الروائي وتكثيف أبعاده الذاتية، في التعبير عن أشكال معاناة الذات في علاقتها بالآخر / والعالم (29).
ويستمر الكاتب - في ذات السياق - نقدية الرواية من خلال الحديث عن شروط كتابتها وأدواتها وكيفية تقبل القارئ لها وقد صارت نصا. وهو ما تفصح عنه مسعودة لكاتب قصتها في أكثر من مقطع سردي، تقول :" أكتب القصة مبعثرة. لكن لا يبعد الزمن بين أحداثها.(...) أرجوك أكتب كل ذلك. لكن بصياغة أخرى. كلماتي أنا قديمة قد لا تجدب أحدا. أريد أن تكون قصتي جميلة. قصة بلا جمال تصبح حياة عادية"(30). وتضيف في مقطع آخر: "ما أريده هو أن يكون كل فصل من حياتي يشكل قصة مستقلة أو مكملة لغيره. يمكن أن يقرأ أيّ فصل بذاته لذاته. إذا مزق الكتاب وبقيت منه ورقات يمكن أن تتضمن قصة"(31). كل ذلك ولا يتهيب الكاتب من اختراق المحرم الجنسي بإثباته بيتا في اللواط وتضمينه الخوار بعض الكلمات النابية التي تأباها ضوابط الأخلاق وأحكام البيئة.
ويبقى التجريب في أعمال عبد الحميد بن هدوقة الروائية تأسيسيا، إذ بدا حيّيا في نصوصه "ريح الجنوب"، و"نهاية الأمس" و"بان الصبح"، قبل أن يتخلّى عن إهاب التقليد ليضرب في مسالك المغامرة الروائية في روايتيه الأخيرتين: "الجازية والدراويش" و"غدا يوم جديد"، توقا إلى المغايرة السردية. وهو ما جعله يحقق علامات إضافة نوعية للمشهد الروائي الجزائري المكتوب بالعربية، ستكرسها أعمال كاتب آخر تشترك في انخراطها في مذهب التجريب بحثا عن أفق حداثي في الكتابة الروائية، وهو طاهر وطّار.
1- الطاهر وطّار وتجريب التأصيل
إنّ التجريب في وعي الطاهر وطار الروائي، منظور نقدي من السائد السردي، يسعى باستمرار إلى اختراق ثوابته. وخلخلة قواعده، وهو ما دأب على تأكيده في أكثر من مقولة تضمنتها حواراته أو تصديراته لرواياته أو تعليقاته عمّا كتب عنه. فمن الضرب الأول نجده يفصح أنّ التجريب يرفض السكون إلى شكل فني محدد، كي لا يسقط في التقليد، يقول: "وقد خرجت من تجربتي في الكتابة بخلاصة وهي أن الالتزام بشكل معين بدعوى رفض الأشكال القديمة، هو وقوع في محافظة جديدة. الكتابة بداية جديدة. ميلاد، كل عمل له عالمه وتفاعله وعناصره، المسألة ليست ميكانيكية (32) ويرى- ضمن مقولات الضرب الثاني- في تصديره لروايته "تجربة في العشق" أنّ: "محاولة وضع قواعد لرواية جديدة أو تقنين الكتابة بعناوين مختلفة- دعوة رجعية تقودنا طال الزمان أو قصر إلى المحافظة، وإلى تقديس الشكل..."(33)، وأخيرا نجده يعقّب على الياس الخوري وما ذكره في روايته "الحوات والقصر"، بانّ للطاهر وطّار الكاتب طريقته الخاصة، بقوله: "إنّني كذلك، في كلّ ما فعلت وما سوف أعمل، لكن ليس بمعنى التجريب المخبري، وإنّما بمعنى إفساح المجال للمضمون ليتشكل، وللشكل ليتقولب مع المضمون، وليتحررّ في نفس الوقت من قالبيته"(34).
ففي رواية "اللاز"(35)، التي عمد فيها الكاتب إلى معالجة الصراع بين الثوار والاستعمار من جهة والثوار الشيوعيين وثوار جبهة التحرير الوطني الجزائرية من جهة إلى أخرى، يتم استثمار أبرز تقنيات الرواية الجديدة، وبعض عناصر التراث المحلي والعالمي. فقد استثمر تقنية الحلم في صوغ حكيه الروائي، حيث تنفتح الرواية على الشيخ الربعي والد قدور ينتظر دوره أمام مكتب منح الشهداء، وتنتهي على إفاقته على صوت الموظف وهو يطلب منه بطاقته لكي يسلمه المنحة. وهو الحلم الذي جعل السارد يستثمر التذكر في استعادة أحداث الماضي، والتداعي في عرضها، مّما أسهم في تكسير النظام التعاقبي للزمن السردي، وتقطيع الأحداث، حيث نجد كل شخصية من شخصيات الرواية تروى فصلا أو أكثر، حدثا أو جزءا من الحدث، فاسحة المجال لشخصية أخرى حتى تكمل الحكاية، مّما عدّة الرواة، ومن ثّم زوايا للنظر للحدث الواحد. كما تقصّد الكاتب تجريد المكان بعدم تحديد القرية/ الجبل وذلك حتى يكون في نظره" رمز لكل الجزائر"(36).
وقد استثمر التراث العالمي من خلال توظيفه شخصية تيريز دسيكويرو لتعميق الأبعاد الدرامية لشخصية زيدان، والتراث المحلي للزائري، بتوظيف الأمثال الشعبية لتأكيد الرؤى والمواقف. وقد مثل مثل "ما يبقى في الواد غير حجاره"، لازمة الرواية، بحكم كثافته الدلالية القائمة على أساس أنه لا يبقى إلا الحق أما الباطل فزائل، وهي النقدية السياسية التي تتردد على كامل مسار الرواية مشكلة إيقاعها الداحلي: "الصح.. الصح.. لا يبقى في البلاد غير الصح. الصح هو الحق.. وهذه البلاد ليس فيها حق، لكن سيأتي يوم، ولا يبقى في الوادي إلا الحجارة، إلا الصح. إلا الحق.."(37).
ولا يتهيب الطاهر وطار في سياق نقده الذاتي للثورة من الداخل وتنبيهه إلى ما يتهددها من مخاطر بسبب انحرافها عن المبادئ التي بشرت بها، من اختراق المحرم الديني، وبحديثه عن واقعه إلقاء حمو بالمولود الذي أنجبته منه ابنة المعلم خوخة في النار، وهو الفعل الذي تحرمه أحكام الشريعة الإسلامية، ثم اختراق المحرم الجنسي من خلال الحديث عن علاقة حمو الجنسية ببنات المعلم الثلاث: خوخة ودايخة ومباركة، والعلاقة الشاذة بين اللاز والضابط، وحادثتي اغتصاب زيدان لابنه عمه مريانة/ أم اللاز في الغابة، واغتصاب بعطوش لخالته حيزية علة مرآى من عمه الربيعي.
واستمر الكاتب في صوغ حكيه سجلاّت كلام متعدّدة ومتنوعّة، جعلت من لغة الخطاب الروائي لغات تتفاعل فيها العامية والفصحى، الواقعي السياسي والتراثي، المحلي والعالمي.
أما في روايته الثانية: "الزلزال"(38)، والتي يطرح فيها إشكالية الثورة الزراعية وأثرها في الطبقة الإقطاعية، من خلال شخصية عبد المجيد بو الأرواح نموذجا دالا عليها، والباحثة كامل مسار الرواية عن أقارب لها بمدينة قسنطينة، تكتب لهم الأرض حتى لا تطالها التأميمات، فإن العلامة التجريبية البارزة، والتي حققت لهذه الرواية أصالتها وتميزها، تمثل في استثمار الكاتب لمعمارية مدينة قسنطينة في بناء روايته، التي قسمها إلى سبعة عناوين، وهي: باب القنطرة، سيدي مسيد، سيدي راشد، مجار الغنم، جسر المصعد، جسر الشياطين، جسر الهواء، فضلا عن الصخرة المنشطرة إلى نصفين والتي قسمت المدينة إلى قسمين، غداة زلزال عام 1947.
وقد استثمر تنمية التناص باشتغاله على النص القرآني ممثلا في سورة الزلزلة من جهة، وعلى النص الخلدوني من المقدمة، والذي يقرن العرب بخراب العمران. فالنص الديني يوظف لإبراز وقع قوانين الثورة الزراعية والتأميمات علة الطبقة الإقطاعية، والذي يشبه الزلزال، ثم للكشف عما طرأ على معالم مدينة قسنطينة من تغيرات، فلم" يبق من قسنطينة سوى المساجد والزوايا والأضرحة والحمامات وأفران الأدمغة المشوية، حتى هذه الأشياء فقدت كلها محتواها. المساجد يؤذن فيها بالكهرباء، وبالأسطوانات بغير سرعتها، والزوايا صارت تكميليات وثانويات والحمامات لم تبق سوى كنائف ومباول"(39)، وأخيرا لإبراز ما طال أقارب عبد المجيد بو الأرواح من تحولات في أدوارهم الحياتية أذهلته وعمقت زلزلة كيانه، التي عبرت عنها أشكال سخطه إلى حد السب والشتيمة، وأشكال تذرعه إلى سيدي راشد حتى يفشل مشروع الحكومة ويحول دون تأميمها لأراضيه.
أما النص الخلدوني فيوظف- هو الآخر- للتعبير عن نقدية الكاتب السياسية لجزائر السبعينات في ظل الصراعات التي ولدتها الثورة الزراعية والتأميمات، وللوضع العربي بصفة عامة في خلافاته الدائبة، وصراعاته الداخلية والقطرية التي لا تنتهي يقول: "نحن هنا عرب لا ننتمي غلى العرب - بايعنا أبا بكر في السقيفة، ثم رخنا نهمس في آذان علي وأنصاره.. بايعنا عمر وقتلنا عمر. نصّبنا عثمان وبايعنا عليّا مليون مرّة وقتلناه مليون مرة. نمدح معاوية ونذمه، نقيم المذاهب ونحطّمها. ننطلق من السنة وننتهي إلى البدعة"(40).
ويشتغل الكاتب في صوغ متنه الحكائي بكثافة على الحوار المسرحي في بعديه المباشر وخاصة الداخلي قصد تعرية كيان الشخصية الإقطاعية على الآخر في ظل التحولات الديمقراطية التي كانت تشهدها الجزائر في مطلع السبعينيات. وهي التحولات التي تشكل السؤال المركزي لروايته: "عرس البغل"(41).
وهي رواية تصور- على خد تعبير الطاهر وطار: "أعراس البورجوازية الوطنية عندما تثور على الإقطاع باسم الطبقة العاملة. هذه ثورة عميقة، بدون دوافع، فقط إحساس وتبن وليست دوافع طبيعية"(42). وتستمد تجريبيتها من نزعة كاتبها التأصيلية، بتوظيفه التراث العربي- الإسلامي وأعلامه، في تشكيل شخصية الحاج كيان وتكثيف أبعادها الجمالية والدلالية. وهي شخصية زيتونية تمور تراثا، أدبيا وسياسيا وثوريا وفلسفيا وصوفيا، عبر استثمار الكاتب لشخصيات المتنبي وسيف الدولة وأخته خولة، وحمدان قرمط وزكروية بين مهورية وعبدان والحسين الاهوازي والحلاج الغزالي وغيرهم... ويوضح الكاتب خلفية هذا التوظيف التراثي في قوله: "أنا رجل باديسي، زيتوني. أنا كلي تراث... هذا عالمي"(43). وهو توظيف منتج جماليا ودلاليا يعبر عن نقدية الكاتب للسلطة السياسية زمن الاستقلال وإدانته لممارسات جورها. وهو ما يفصح عنه بقوله: "كل شيء ظاهر لباطن إلا العدل. كل شيء، باطن لظاهر إلا الجور. املأوا الدنيا عدلا كما ملئت جورا..'(44).
وقد عمد الكاتب إلى إطلاق المكان بعدم تحديده موقع المبغى وكذلك المقبرة، فضلا عن إضفائه صيغا رمزية على أسماء شخصياته كالحاج كيان والعناية وحياة النفوس وزمردة، وتنويعة أصوات الخطاب السردي إلى جانب حضوره كشخصية روائية، واستثماره أغاني شعبية جزائرية وعربية، عمقت الأبعاد الدرامية لشخصيات الماخور.
أمّا التجريب في الرواية "العشق والموت في الزمن الحراشي الكتاب الثاني للاز"(45)، فيتجلّى بالأساس في استثمار الأسطوري في الروائي، بتحول شخصية الللاز اللقيط في رواية "اللاز" إلى ولي صالح، ينسب إليه الخرافي من الحكايات، والعجيب من الأفعال، إذ يتجاوز حود الزمان والمكان ليقترن بالمطلق واللانهاية، فيكون رمز الحقيقة/ الجوهر. ويستثمر الكاتب- في ذات السياق- التراث وأعلامه، المخلّي منه خلال حضور كاتب ياسين وجميلة بو حيرد، والعالمي عبر استعادة شخصيات بابلو نيرودا ومايكوفسكي وكامي وهمنغواي وبراهما وشكسبير وغيرهم، مما يجعل وعي الطاهر وطار بالتراث يتجاوز حدود المحلية الضيقة غلى العالمية، كما يستثمر نوع المذكرات من خلال قيام الطالبة المتطوعة جميلة بتدوين مذكرات المناضل، الشباح المكي، فضلا عن توظيف المثل/ اللازمة في رواية "اللاز" ما يبقى في الوادي غير حجاره"، مجددا، وعديد الأمثال الجزائرية الأخرى، إلى جانب حضور الذات الكاتبة شخصية روائية، تعبر عن ذات النقدية لسلطة الاستقلال في جزائر السبعينات، وما آلت إليه الثورة من مظاهر انحراف عن الأصيل من مبادئها التي بشرت بها زمن حلاب التحرير. وهي الثورة التي يدركها الطاهر وطار فعلا متجددا وفي صيرورة دائمة بقوله:
لكل عصر لاز
لكل عصر جميلة
الثورة التي تتوقف على لاز معين، أو على جميلة معينة، هي ثورة جامدة، تدور في الفراغ"(46).
وتمثل رواية "الحوت والقصر"(47) نصّا متميزا في تجريب الطاهر وطار، من خلال استثماره لكل من الأسطورة والتراث الصوفي والخيال العلمي، في تشكيل عوالمها الجمالية وصياغة أبعادها الدلالية.
فتوظيف الأسطوري في الروائي، يتجلّى في الصفات الملحية التي وسمت شخصية على الحوات/ رمزا للخير في صراعه مع قوى الشرّ: عصابات اللصوص والقصر بعلي الحوّات، من بتر للذراع اليمنى فاليسرى قبل قطع اللسان.
وتتكثف العلامات الدالة على هذه الأسطورة من خلال تغلّب على الحوات وهو في طريقه إلى القصر على كل المصاعب والمخاطر التي اعترضته وهو يمر بالقرى السبع المعادية للقصر وإن كانت تبدي له الموالاة فبشكل مرضي، ثم ببقاء السمكة/ النذر حيّة، وامتلاكها القدرة على الكلام عبر محاورة على الحوّات، وقبل أن تتحول حصانا بسبعة أجنحة يرفعه من القصر وقد لحقه أذاه ليحطّ به في قرية التصوّف. ثم باقتلاع أعين سكان هذه القرية من قبل الغزاة، وهو فعل يردّد أصداء أسطورة أوديب اليونانية وما كان من سمل عينيه. هذا إلى جانب إخفاء الكاتب صفة الإطلاق على الفضاءات التي وردت غير محدّدة، تحمل أسماء غرائبية، كغابة الوعول، ووادي الإبكار وقرى التحفظ والحظة والتصّوف،.. وكذلك كان شأن الشخصيات التي حملت هي الأخرى أسماء رمزية أسهمت في تكثيف أبعادها الجمالية والفكرية: على الحوات، العذراء، الحكيم...
وما استثمر الكاتب التراث الصوفي، من خلال توظيف عنصر الرحلة وحالات الوجد التي تسم أهالي قرية التصوف، والحنين إلى الحق إلى حد البكاء. وهو يعلل استخدام عديد المصطلحات المنتمية إلى المعجم الصوفي مثل: سيدنا- مولانا- تاج نوراني- العهد الصوفي- الحجة.. قطب الأقطاب- الحقيقة.
وعمد الكاتب أيضا إلى استثمار الخيال العلمي في رسم معمارية قرية الأعداء واختراع حكيم قرية الحظة ذلك العقار الذي يصير الذكر خصيا ويهيج الأنثى، إلى جانب اكتشاف أحد شبان ذات القرية العقار المضاد الذي يعيد الرجولة ويهيج الأنوثة. ثم في حديث أحد أهالي قرية الأعداء/ أو مدينة الأباة، عن الحاسة السابعة عشر، و "هي حاسة التزود الذاتي. تغني الإنسان عن كل شيء...(48).
وتدرك نقدية الطاهر وطار السياسية مداها في هذه الرواية والتي يعدها أخطر من كل رواياته السابقة التي كتبها في التعامل مع السلطة، " لأنها تحلل مباشرة طبيعة السلطة وتصدر عليها حكما"(49).
وتخفت أصداء التجريب في روايتي الطاهر وطار: "تجربة في العشق"(50)، و"الشمعة والدهاليز"(51)، وتنحسر العلامات الدالة عليه، لتضيق بذلك آفاقه، قبل أن تستعيد البعض من توهجها في نصه الأخير: "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي"(52).
ففي "تجربة في العشق"، يستثمر الكاتب اللامعقول للتعبير عن الواقع اللامعقول في بعديه المجلي والعربي، فيتم الاشتغال بكثافة على تقنيات التداعي والحلم والهذيان وتتشعب تبعا لذلك أنساق الخطاب السردي إلى حد التتويه، وتتداخل عناصر الوجود إلى حد الالتباس، تختلط الأصوات واللغات، وتتشظى الحكايات، ويحضر الأعلام الإغريق والعرب والأعاجم القدامى والمحدثين، على اختلاف مجالات إبداعهم، في أنساق تكرس التنافر إذ ترفض التناسق، وتتشكل في ضوء كل ذلك لوحات متداخلة لا تأبه بنظام، منطقها الخاص من رفضها منطق الأشياء، وكأن مجنون الرواية قد فرض على الكاتب تشكيل نص مغاير للسائد السردي. وهو الكاتب الذي يحضر شخصية روائية تلتبي بالمجنون تارة، وتستقل عنه أخرى، وإن كان العشق إلى حد التوحد الحال المشتركة بينهما. وهو العشق المتلبس بالجنون الذي يشكل الحال العالقة في واقع اللاعقل، وينحت كتابة الجنون عن واقع اللامنطق. وهو ما يفصح عنه السارد/ المجنون في قوله: "فمما لاشك فيه أن حالة الجنون، هي الحالة الأقرب، إلى التصور، وإلى الفهم، وإلى الأذهان، في جميع المستويات. وهي، لعلها، الحالة الطريفة، المنسجمة مع الذوق العام"(53).
ويعلل الطاهر وطار استثماره للامعقول في تشكيل روايته هذه في قوله: "وإذا سألنا ما هي الصلة بين اللامعقول والواقع، فإن الجواب مفجع. وأنا أقول: "إنهما على صلة حميمة، حيث أن واقعا في العالم الثالث واقع لا معقولي، وإلا ما معنى أن نسمع مثلا أن رابطة من الضباط في بلد عربي تحرق ملايين الكتب، لتضع كتيبا صغيرا لا معني له بديلا لكل المعاني؟ هذا الواقع كنا نقرؤه في الميثيولوجيات الرومانية والإغريقية. كنا نعرفه عن كاليغولا أو قاراقوش أو غيرهم. وها نخن نعيش ذلك اليوم في القرن العشرين. فبأي شيء أعبر عن اللامعقول، إذا لم أوظف اللامعقول نفسه"(54).
أما نص "الشمعة والدهاليز"، فلا يحمل علامات دالة على إضافة في تجريب الطاهر وطار، حيث أعاد فيه الكاتب استثمار التراث العربي الإسلامي والعالمي وأعلامه، وكذلك تعامل مع ذات التقنيات السردية التي وظفها في رواياته السابقة كالتذكر والحلم والتداعي والتوالد الحكائي وتنويع سجلات لغة الخطاب السردي، والتي تراوحت في هذه لرواية بين اللغة الشعرية للشاعر المثقف واللغة الدينية لمهندس النفط القيادي الإسلامي. ويستثمر الكاتب هذه الشخصية لنقد التيار الإسلامي في الجزائر وإدانة أشكال ممارسته.
وهي ذات الرؤى والمواقف النقدية التي يعبر عنها في روايته الأخيرة "الولي الطاهر يعود مقامه الزكي"(55) إزاء الجماعات الإسلامية الجزائرية. ويستثمر الكاتب مجددا التراث الصوفي الذي سبق له أن وظّفه في روايته "عرس بغل" وخاصة "الحوّات والقصر"، وكذلك التراث الشعبي في بعديه الديني والخرافي، إلى جانب استثماره التاريخ العربي الإسلامي: وقائع تتجلى في حروب الردّة وأعلامها يتصدرهم: خالد بن الوليد وامتدادا جغرافيا يشمل القاهرة وأفغانستان والجزائر ماضيا وحاضرا، كلّ ذلك عبر شخصية الولي الذي يمور تراثا وتاريخيا وحضارة أسهم جميعها في إغناء أبعاده الجمالية والدلالية، دون إقصاء ما يتوفر عليه من عناصر سيرية بينة.
وهكذا استمدت تجريبية الطاهر وطار تميزها من نزعة صاحبها التأصيلية للكتابة الروائية، من حلال استثماره للتراث العربي/ الإسلامي، دون أن يحول ذلك بينه وبين الانفتاح على التراث العالمي وإفادته منه.
2-1 واسني الأعرج: التجريب وسؤال الحداثة
يعلن التجريب لدى واسيني الأعرج القطيعة مع أنساق السرد التقليدي في نمطها الواقعي، ليمعن في مغامرة مفتوحة على أكثر من أفق كتابة، تجدد نسغها من صيرورة بحثها عن المغاير من أشكال السرد، وأنساق الخطاب، ومستويات اللغة، قصد بلورة رؤية الذات في علاقتها بالعالم، وصياغة الموقف النقدي من الراهن الاجتماعي والسياسي في تحولاته المتأزمة التي وسمت مرحلة الجزائر المستقلة، وكانت تستدعي تحولات في جماليات النص السردي، حتى يكون قادرا على استيعاب الإشكاليات المستجدة والتحديات المتولدة عنها. فكان أن تحول التجريب إلى هاجس يتصدّر شواغل واسيني الأعرج الفكرية والجمالية، إذ يمثل السؤال المركزي الذي يتردّد صداه في كل نصوصه الروائية. وهو سؤال يقترن بإشكاليتين نقديتين، تمثّل المثاقفة أولاهما ، بحكم أن الرواية "من حيث كونها نصّا متمايزا في بنياته وفي آفاقه وفي أسسه التي يرتكن إليها فرضتها" (الرواية) علاقات غير متكافئة مع ثقافة الآخر"(56)، في حين يمثل التأصيل ثانيتهما. وهو يتأسس على "البحث عن الأنا من خلال تاريخ هذا الأنا،(...)، والبحث عن الأنا من خلال الآخر(...)، من أجل خلق ذات متحررة، لها علاقاتها بتاريخها وحضارتها، مّما يعطيها تمايزاتها، ولها علاقاتها مع الآخر المتقدم/ المتنور، مّما يعطيها مكانا داخل العصر الذي تعيشه استهلاكا، وتحاول أن تعيشه كممارسة فكرية/ حضارية."(57).
تعكس تجربة واسيني الأعرج الروائية هذا التقاطع بين سؤال المثاقفة/ وسؤال التأصيل، وهي تمارس مغامرة التجريب بحثا عن المغاير من أشكال الكتابة وأدوات السرد، مما جعلها تكون تجربة المغامرة الباحثة عن المختلف من الأنساق الجمالية، القادرة على صياغة إشكاليات الجزائر في تاريخها الحديث والمعاصر، وبلورة المواقف النقدية منها. وهو ما يبرز أن التجريب لدى واسيني الأعرج وليد وعي بشروط الكتابة الروائية فعلا إبداعيا يستمد تجدد نسغه من تجديد أشكاله عبر مغامرة بحث لا تنتهي لبقائها منفتحة عن اللامحدود من الاحتمالات والتوقعات، وكذلك عن وعي بخصائص المرحلة التاريخية لجزائر الاستقلال، وما تطرحه من إشكاليات وما تولده من تحديات. كل ذلك دون إقصاء للذات التي تتعالق سيرة فردية/ مع سيرة المجتمع، بحكم جدلية العلاقة القائمة بينهما، مما يعلل تداخل الميثاقين الروائي والسردي في كل نصوص واسيني الأعرج الروائية. وهو تداخل يجعل الذات/ والآخر وجهين دالين عن تقاطب أساس يميز عالمه الروائي ويشكل سمة دالة عليه وهو تقاطب الذات والوطن.
ويكشف واسيني الأعرج عن جدلية المثاقفة والتأصيل، وفعلها في مغامرة التجريب الروائي، في قوله: "ساعدتني الثقافة الغربية عامة، والفرنسية خاصة علة عملية الاختراق، ولكن الإشكال الذي طرح أمامي، يتمثّل في كيفية القيام بعملية الاختراق. هل بالسقوط في التجربة الغربية بشكلانيتها أم بالاستفادة منها وتحويل هذه الإثارة إلى فاعلية ثقافية تستند إلى المحلية. ولهذا استندت إلى التراث كمتكئ لتأكيد هذه المحلية بدون الإخلال بالجانب البنائي لمفهوم الرواية، لأن العقلية المحلية لا تسمح بهذا النقل السلبي للتجربة الغربية ولأنها بالأساس يغيب المنطق فيها وتحضر الأسطورة التي يحكمها منطقها الخاص. فأنا استندت إلى هذه الأسطورة لإثبات كياني الثقافي والاجتماعي واستندت إلى الأداة التي لم تصبح بالأساس غربية، لأن مفهوم العالمية قد دخلها"(58).
وهكذا فإن التجريب- في تصور واسيني الأعرج- فعل إبداعي حداثي، يستمدّ العلامات الدّالة على حداثته من تلك المزاوجة بين ثقافة/ الأنا، الأصلية، وثقافة/ الآخر الغربية، وهي المزاوجة التي تكسب مذهب التجريب الروائي لدى هذا الكاتب ميسم الاختلاف، الذي تجسده نصوصه الروائية.
تكشف رواية "وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر"(59). عن مظاهر عديدة، تنهض مؤشرات دالة على انخراطها ضمن مسالك التجريب. فالتخوم بين الروائي/ والسيري تتداخل، مما يربك العلاقة بين ميثاقي الرواية والسيرة الذاتية، وذلك من خلال استعادة الكاتب لجوانب من طفولته البائسة، ونضال والده النقابي بفرنسا قبل أن يستشهد في حرب التحرير. فكان اشتغاله على الذاكرة، والتداعي، والحلم، السبيل إلى اختراقه الأنساق التقليدية للسرد، واستبدالها بأخرى تقوم على تداخل الأزمنة لا على تعاقبها. كما يوحي التقسيم الخارجي للرواية باستيحاء الكاتب لبنية نص "ألف ليلة وليلة". من خلال تسميته القسم الأول، بالليلة الأولى والثاني بالليلة الثانية. وهو الاستيحاء الذي سيتحول إلى استثمار في نصّه "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف- رمل الماية"(60). وقد استوحى كذلك شكل الرحلة في وسمة أحد فصول القسم الثاني بـ "هوامش الرحلة". كما استثمر في تشكيل متنه الحكائي وصياغة أنساق خطابه السردي، النص الوثيقة من خلال استغلال قصاصات عديدة الصحف التونسية والعربية والأجنبية الخاصة بمحاكمة الأمين العام للإتحاد التونسي للشغل: الحبيب عاشور ورفاقه من النقابيين على إثر الأحداث التي شهدتها تونس في غضون شهر جانفي من عام 1978(61). كما تعمد الكاتب إضفاء صفة الإطلاق على المكان بغرض الإيحاء بكون هذه القضية وما عقبها من أحداث يمكن أن تحدث في أي بلد عربي آخر أو أي بلد من بلدان العالم الثالث، وبذلك يخترق المفهوم التقليدي للمكان الذي تحرص استحضار حكاية تفاحة بنت منصور.
وتتضافر كلّ هذه المظاهر الدالة على انخراط هذه الرواية ضمن مذهب التجريب، للتأكيد على حداثة ممارسة واسيني الأعرج للرواية، وصياغة الموقف النقدي من السلطة في قمعها ومن الصحافة العربية في تخلف خطابها وتهافت رؤاها.
ويتابع واسيني الأعرج مذهبه التجريبي في روايته "ما تبقى من سيرة لخضر حمروش"(62)، والتي تطرح قضية "التاريخ النضالي للحزب الشيوعي الجزائري إبان حرب التحرير من منظور نقدي يعارض التاريخ الرسمي الذي دونته السلطة عن هذا الحزب"(63). وهي القضية ذاتها التي تواتر طرحها في أكثر من نص روائي جزائري، كــ"الللاز"، للطاهر وطار(64)، و"التفكيك"، لرشيد بوجدرة (65). مما يجعل هذا النصوص تحاور التاريخ الرسمي قبل أن تنتهي على تدميره وإنشاء تاريخها الخاص عن الحزب الشيوعي الجزائري على أنقاضه.
وتتكرر في هذه الرواية أبرز مظاهر التجريب التي وسمت رواية الكاتب السابقة من استثمار تقنيات التذكر والحلم والتداعي، والأغاني الشعبية المغاربية والأمثال، مما يجعل الإضافة كامنة في مظهرين، أولهما استثمار عنصر من عناصر التراث الشعبي يتمثل في الزردة وما يميزها من طقوس وثانيهما اختراق السائد من أعراف البيئة وأحكامها الأخلاقية من خلال شخصية البغي مريم الروخ وتصوير أشكال من الشذوذ الجنسي، كاغتصاب المختار لزوجة عيسى القط ومضاجعة الكلب الألماني لزميلة مريم.
ويبدو الموقف النقدي جليا في إدانة السلطة الحاكمة لتقصيرها إزاء المجاهدين الأصيلين، وقد ازدادت أوضاعهم بؤسا زمن الاستقلال بعد أن تم تجاهلهم والتنكر لماضيهم النضالي.
وتعد روايته الثالثة: "نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري"(66)، بحق، تحولا نوعيا في مسيرة الهلالية تجريبه الروائي بحكم نزوعه في كتابتها إلى التأصيل الروائي، من خلال استثمار السيرة الهلالية، من منظور نقدي، يتأسس على استعادة هذا النص التراثي الشعبي، ومجادلته قبل تدميره وإنشاء النص البديل/ الخاص: وهو تغريبة صالح بن عامر الزوفري في ظل بني كلبون/ السلطة الحاكمة في جزائر الاستقلال (67)، مما يفيد أن معارضة الكاتب لنص التغريبة الأصل: تغريبة بني هلال، انتهت به غلى مفارقته بإنتاج نص تغريبة جديدة يختلف عن الأول في الزمان والمكان وأبنية الشخصيات وأبعادها ولغة الحكي والحوار(68). وهو ما يشكل اختراقا لقدسية التراث السردي "ونوعا من التحرير من وطأة هذا التراث دون إنكار ما له من قيمة"(69).
ويكشف الكاتب ذاته عن خلفيات هذا الاختراق، في قوله: "أخذت السيرة الهلالية في هذه الرواية كمتكئ شعبي للكتابة الروائية. فلما فتحت عيني كنت أسمع بأبي زيد الهلالي، غير أنني وقد أدركت مرحلة الوعي، تفطنت إلى أن المقياس الذي طرح لتقديم أبي زيد بطلا كان مقياسا إقطاعيا. فمن خلال إطلاعي على ثلاث وثائق من السيرة الهلالية: نسخة مدرسية، وثانية مهذبة، وثالثة رديئة، لم أقتنع لا بالأولى، ولا بالثانية، ولا بالثالثة، التي وجدت فيها أن كل المظاهر الجنسية قد مر عليها مقص الرقابة، لإعطاء صورة مثالية عن أبي زيد، وتساءلت: "هل هو حقيقة بطل بالمفهوم الشعبي؟ كبطل بالنسبة لي كان يعبر عن الملوك، إذ كان رأس الحربة في الغزو، يجبي الأموال للأمير حسن بن سرحان. لم يعجبني، كان طاغية، بالمفهوم العام هو بطل والذين كتبوا التاريخ ربطوه بالواقع الإقطاعي، من هنا أحسست بضرورة إعادة النظر في تاريخ هذا البطل الشعبي، فأعطيته صورة أخرى حتى أغير المفهوم العام له...(69).
وقد أنتجت تقنية التناص التي بنى الكاتب عليها روايته، عديد العلامات الدالة على مفارقة هذا النص الروائي، للأصل التراثي. فهذا الأخير ينسب إلى الجماعة/ بني هلال، بينما تنتسب تغريبة الرواية إلى فرد، صالح بن عامر الزوفري، والذي تحول من مجاهد زمن الثورة إلى مهرب على الحدود الجزائرية- المغربية زمن الاستقلال. وهي المنطقة التي تقع فيها قرية سيدي بوجبان/ موطن الكاتب/ مما يكشف عن تعالق الرواية والسيرة. ثم فضاء التغريبة/ الأصل: مصر، بينما تمثل جزائر الاستقلال من خلال مدن مسيردا وسيدي بلعباس ووهران، فضاء تغريبة الرواية.
ولئن تناغمت شخصية لونجا: أرملة الإمام وعشيقه صالح ابن عامر الزوفري وشخصية الجازية بحكم اشتراكهما في الجمال، والترمل، والوحدة، فإن شخصية صالح بن عامر الزوفري تفارق شخصية أبي زيد إذ تعارضها. فتجردها من كل معالم البطولة، لتقرنها بالمتهافت من القيم وأنماط السلوك، فــ "أبو زيد الذي اتكلنا عليه لم يكن أكثر من مهرج سياسي صغير، رضع من حليب الملوك، ذاق حلاوة الملك، فلم يستطيع لحظة واحدة ترك أثداء بلاد نجد"(70)، وبناء على ذلك فـ "لا أحد من هؤلاء الناس على استعداد لأن يتحول إلى أبي زيد، قواد بني هلال، لا أحد، مازال دم الشهداء يجري في عروقنا..(71). وتتواصل ذات المفارقة بين صالح وكلا من الحسن بن سرحان ودياب، واللذين خصها بالسلبي من الصفات. وهي مفارقة تعود في الأصل غلى دفاع أولئك الثلاثة: أبو زيد والحسن بن سرحان ودياب عن الملك ودفاع صالح بطل تغريبة الرواية عن الضعفاء والمقهورين من المهمشين والمستغلين.
وقد استمر الكاتب إلى جانب نص السيرة الهلالية نص المقريزي "إغاثة الأمة في كشف الغمة"، والذي يعيد فيه مؤلفه ما يعانيه الناس من ضيم إلى سوء تدبير الحكام، فضلا عن استثماره لعدد من الحكايات الخرافية، كحكياتي علي ورأس الغول والزير سالم، وتوظيف شخصية الحكاء: سيدي علي التوناني قصد معارضتها فمفارقتها هي الأخرى، من خلال تكذيب مروياتها عن السيرة الهلالية: "آه يا التوناني، أنت لم تدون إلا الكذب، حروفك كانت مدفوعة سلفا من طرف الناس الذين سجلت انتصاراتهم"(72). كما جاءت شخصية الراوي في عدد من المقاطع السردية متداخلة مع شخصية صالح بن عامر الزوفري، وفي البعض الآخر منفصلة عنها، شأنها في ذلك شأن شخصية صالح بن عامر الزوفري، وفي البعض الآخر منفصلة عنها، وانفصالها عنه في آن. إنه تعدد الرواة الذي ولد تعدد الرؤى وكذلك تعدد مستويات الكلام الذي تداخل فيه الفصيح والدارجة الجزائرية واللغة الفرنسية، واغتنت جماليته وأبعاده بفضل استثمار الكاتب لعدد من الأغاني الجزائرية والمغربية والأمثال الشعبية.
كل هذا، وتعبر الرواية عن موقفها المعارض لسلطة بني كلبون زمن الاستقلال، والتي تشكل- في نظره- امتدادا لسلطة الاستعمار، بحكم احتداد بؤس أغلبية فئات الشعب ومن ضمنها فئة المجاهدين الذين صنعوا الاستقلال، إلا أنهم وجدوا أنفسهم مهمشين في ظله.
أما رواية "مصرع أحلام مريم الوديعة"(73) فيتركز التجريب فيها على اللغة المتشعرنة التي تعكس التعالق بين السردي/ والشعري. وقد وفق الكاتب إلى الانزياح بها عن اللغة أو التفاصح الذي وسم عديد الروايات التي رام أصحابها الاشتغال على اللغة بأفق حداثي يجعل منها فضاء إبداع لا سبيل إخبار/ أو تواصل فحسب، وهو ما نمثل له بهذا المقطع: "لسنا لعنة المدينة يا مريم الوديعة. لن تمنعنا تفاصيل الحزن عن عيش حالة الفرح حتى الموت، قلبك واسع سعة السواحل التي أنجبتك، وجميل مثل هذه الأنجم التي أجبروها على النوم في متاحف المدينة"(74). وقد أسهمت هذه اللغة المتشعرنة في إضفاء مناخات درامية على عالم الرواية فضاء قمعيا يوحي بالسجن أكثر منه بالحرية وشخصية تعيش على إيقاع الفاجعة بعد دمر السارجان سفيان الجازوتي- وقد سكن دماغها- إرادتها في إبداع قصيدة الذات/ والإلهام لا قصيدة الرقيب/ والإرغام. فيكون الإضراب عن الكتابة الشعرية، موجبا لعقاب القتل.
وقد عمد الكاتب إلى أسطورة شخصية مريم/ الرمز الشفيف للوطن/ الجزائر، بأن جعلها "البنية التي سقطت من رحم موجة هربت من ظل مجهول وتكسرت على متاعب صخور الشط المهجور..."(75)، بعد أن أكلت الحرب إخوتها السبعة وحققت أحلامهم كما تقصد إبقاء الراوي بدون اسم، وجعله يلتبس بالكاتب في العديد من مقاطع الرواية، مما يجعل هذه الأخيرة تلتبس بالسيرة، وقد تعددت الأصوات السردية، ومن ثم الرؤى، فتجاوزت أصوات السارد والكاتب والجماعة والتراث السردي من خلال استدعاء شخصيتي دون كيشوت من الأدب الإسباني وخازوق من ألف ليلة، وسفيان الجازوني: السارجان المرابط بدماغ الشاعر قصد مراقبة ما يكتبه من شعر وممارسة أبشع أنواع القمع عليه. وقد تعددت المستويات اللغوية في الخطاب السردي من خلال تهجين لغة الخطاب التي تجاوز فيها كل من الفصيح والدارجة الجزائرية واللغة الأعجمية. وقد أضفى عليها استثمار الكاتب لعدد من الأغاني الشعبية الجزائرية، طابعا غنائيا يردد إيقاع الفاجعة والمأساة.
صورة أحرى لطبيعة علاقة المثقف بالسلطة ترسمها هذه الرواية، لتصوغ من خلالها موقف الإدانة للممارسات القمعية للسلطة إزاء المثقفين، والذين تعد معارضتهم لها عداء.
وهي ذات القضية التي يطرحها واسيني الأعرج مجددا في روايته: "ضمير الغائب أو الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر"(76)، وتبدو سؤالا مركزيا لجميع أعماله الروائية. فهي رواية تطرح إمكانية تجاوز المثقف للسلطة، وتؤكد من خلال شخصية الصحفي الحسين بن المهدي بن محمد عسر تحقيق مثل التطلع في ظل سلطة قمعية، حيث ينتهي بحث هذا الصحفي عن حقيقة والده إن كان مناضلا أو خائنا إلى الجنون بعد مغامرة تحولت إلى طقس خرافي.
وتوحي بنية الشكل الخارجي للرواية إلى استثمار كاتبها لفن الرحلة في عنونة فصليها الأساسين ببداية الرحلة، كما وظف النص الوثيقة من خلال قصاصه صحفية، تفيد بتحول الحسين بن المهدي بن محمد الصحفي إلى باريس للتداوي على إثر إصابته بداء في الدماغ، وهو الذي كان يكتب ركن: شيء من الأرشيف فكانت هذه القصاصة القادح لأحداث الرواية، والمنتج لمتنها الحكائي، كما استثمر الكاتب العجائي في مدخل الرواية المواسم بــ "فاتحة الراوي"، من خلال "زحف ملايين بل بلايين الزواحف التي تشبه علقا أسود مثل القطران تسلط على أوراق الجرائد فقضمها، وعلى الحيطان فخرمها، وعلى أفواه الناس فزمها، وعلى الوجوه المتعبة فحفرها واستقر بين تجاعيدها وقتا طويلا وعلى الأرض فأفسد تربتها ولم تعد تنجب إلا اليابس. علق أسود لا عيون له ولا أرجل..."(77). كل ذلك فضلا عن توظيف تقنيات التذكر والتداعي والحلم.
هي رواية بقدر ما تنتقد الوجه القمعي للسلطة والوضع المتهافت للصحافة، فإنها تستشرف "وضعا قاسيا كان في طور التكوين، لينفجر عام 1988، ويتحول بعدها في سنة 1993 إلى مأساة."(78).
ويقطع التجريب مسافات أبعد وأغوارا أعمق في رواية "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف- رمل الماية"(79)، حيث يستثمر الكاتب نص "ألف ليلة وليلة"، بحثا عن سحر جديد للحكاية من خلال التراث عبر غواية السؤال، ولذة المجادلة، وفتنة الاختراق لهذا النص/ الأصل، على أكثر من صعيد. فمنذ العنوان يتم اختراق عدد الليالي بإضافة ست إليها، بحجة غياب الدليل على انتهاء حكايات شهرزاد عند حدود الليلة الأولى بعد الألف، ومن ثم يتم التركيز على الليلة السابعة بعد الألف، ووردت الليلة الأولى بعد الألف، ومن ثم يتم التركيز على الليلة السابعة بعد الألف، ووردت الليلة مقترنة بالفاجعة، مما يفيد أن زمن الموت لم ينته عند حدود الليلة الأولى بعد الألف، بتوقف شهرزاد عن الحكاية، بل نجده يتواصل مع أختها دنيازاد التي تقوم مقامها، فتواصل الحكاية طوال الليلة السابعة بعد الألف، وهي ليلة استمرت زمنا لامحدودا على خلاف الليالي الألف لتفترن بالمطلق، فتتحول بذلك دنيازاد من الصمت إلى النطق، لتكشف عن الحقائق التي تعرفها عن الملك/ شهريار وعن الأسرار التي كانت أختها شهرزاد تخفيها عن مولاها شهريار خوفا من بطشه. وهو ما جعل الحكاية تخسر سحرها منذ أن تآلفت شهرزاد مع ملكها. فيكون بذلك الانزياح عن النص/ الأصل، بتبادل الأدوار بين شهرزاد ودنيازاد، وبمفارقة حكايات هذه الأخيرة لتلك التي كانت تسردها أختها شهرزاد لشهريار، بحكم امتلاكها جرأة الحديث عن المسكوت عنه، في السياسة، في زمن آخر، غير زمنها الخرافي، هو الزمن الذي نعيشه، فيتم بذلك انزياح الحكاية عن زمنها الأول. فتسرد دنيازاد لشهريار "الفواجع والمواجع والتاريخ الذي نسي (؟) كتاب الدواوين تسجيله في كتاب الأمة. المجلد والمطرز بالقاطيفة الملونة"(80)، وذلك من خلال استثمارها لحكايات البشير الموريسكي قوال غرناطة، عن سقوط ممالك الأندلس وآخرها غرناطة أمام الأسبان، وما نجم عنه من مآسي لحقت بالعرب المسلمين، تشكل حكاية البشير الموريسكي نموذجا دالا عليها. ويستثمر الكاتب جوانب من هذا التاريخ الموريسكي ليرسم من خلاله تاريخ الجزائر الحديث في التسعينات، وهي تعيش على وقع الفتنة، الشبيهة بتلك التي كانت دائرة بين العرب والمسلمين في الأندلس، وكانت السبب في إضاعتهم الوطن. كما ستثمر في نطاق اشتغاله المكثف على تقنية التناص، عديد عناصر التراث، بتوظيفه الجمالي/ والدلالي لشخصيات أبي ذر الغفاري والحلاج، وابن رشد، ولقصة أهل الكهف مثلما وردت في القرآن، وللأغاني الشعبية التي تضفي على لغة السرد إيقاع الفاجعة. كل ذلك لرسم صورة البشير الموريسكي/ عاشق غرناطة الذي "تنبأ بسقوط ممالك الموت فقتله سحر الحكاية"(81). وهي سيرة تحمل الكثير من العلامات الدالة على تداخلها وسيرة الذات الكاتبة، من جهة، وعلى نقديتها للتاريخ الأندلسي المدون، وكذلك للتاريخ الرسمي الجزائري زمن الثورة وبعدها. وهي النقدية التي تواصل حضورها في رواية "سيدة المقام مرثيات اليوم الحزين"(82)، من خلال استثمار أدوات تجريبية أخرى.
تكشف هذه الرواية عن أفق آخر للتجريب أدركته مغامرة الكاتب، ويتجلى في استثماره الفنون في إنتاج نصه وتشكيل عوالمه الفكرية والجمالية. فيتعامل مع الرسم من خلال لوحات الفنان محمد بن خدة، ومع الرقص من خلال رقصة شهرزاد وبالية البربرية، خاصة وأن ريم بطلة الرواية راقصة بالي، وماكسيموفا أستاذة رقص، ومع الموسيقى العربية من خلال الشيخ عبد الغفور وعبد المجيد مسعود، والغربية من خلال أعمال تشايكوفسكي وكوساكوف وموزارات وبرليوز وفاغنر وسترافالسكي وإيقربوشن، ومع فن الصورة، من خلال صورة راقصة البلية كاتيا ماكسيموفا، وأخيرا مع الشعر من خلال الشاعرة صفية كتو. وينضاف إلى كل ذلك استثمار الكاتب للنص/ الوثيقة، الذي يقوم شهادة على الحضر المأزوم لجزائر التسعينات والاشتغال طوال الرواية على التلاعب بين الروائي والسيري، في لغة سردية هجينة، تتعدد فيها مستويات الكلام، من فصيح، ودارج جزائري وأعجمي فرنسي، وتتنوع سجلاته. وهي لغة متشعرنة تردد أصداء الفاجعة بحكم مأساة البطلة مريم، راقصة البالية، والتي تصر على عيش حلمها الطفولي وممارسة طقوس الوجود، داخل عوالم الموسيقى والرقص، على الرغم من الألم الذي تسببه لها الرصاصة التي تسكن دماغها منذ حوادث أكتوبر 1988، ومن قهر بني كلبون/ السلطة الحاكمة، وقمع حراس النوايا/ الإسلاميين لها. وهي رمز شفيف للوطن/ الجزائر وما يعيشه من واقع مأساوي بسبب الفتنة، ولذات الراوي الملتبسة بذات الكاتب، والواقعة هي الأخرى بين مطرقة القتلة الإسلاميين وسندان سلطة بني كلبون، في بلاد "تسير نحو تفتت كبير. خسرت ماضيها ومستقبلها. وهي الآن تسير نحو خسران حاضرها..."(83). كما عمد الكاتب إلى اختراق أحكام البيئة وضوابط أعرافها الأخلاقية من خلال تصويره فعل الاغتصاب الوحشي الذي تعرضت له مريم من قبل زوجها، وكاشفت السارد/ الكاتب به في قولها" وصرخت لم يسمعني أحد. وضع قطعة كتان أبيض في فمي. شعرت بالاختناق. رأسي يدور. الأرض تدور. وهو يتعدد كالوباء، كالطاعون. ثم بدأت الإغفاءة تأتي مع الكابوس اليومي. ورأيت وجهه يكبر ويصغر. الألم يمزق بطني. كان النهش قد بدأ. ثم غبت نهائيا داخل سواد، ضيعت فيه أشكال الأشياء المحيطة بي. لم أكن أعلم ماذا فعل بي بالضبط قبل أن أستيقظ على الرغم من الألم وهول الكارثة"(84). ويشكل فعل الاغتصاب هذا رمزا شفيفا، ذا بعد سياسي، يوحى باغتصاب بني كلبون/ السلطة الحاكمة، وكذلك حراس النوايا/ فقهاء الظلام من الإسلاميين، جزائر الاستقلال وتناحرهم في سبيل الظفر بحكمها. وهذا ما يعلل نقد الكاتب المزدوج لكلا الطرفين، وإدانته للمتهافت من أشكال ممارستها.
وهي ذات الإدانة التي تعبر عنها رواية: "ذاكرة الماء"(85)، من خلال استثمارها لأكثر من أداة وتقنية في سياق إمعان كاتبها في مغامرة التجريب الباحثة عن آفاق حداثية في أشكال الكتابة الروائية وإن كان الكثير من الأدوات والتقنيات المستعملة، قد تم استثمارها في الروايات السابقة، شأن التعالق بين السيرة والرواية، والتناص بين السرد والشعر، واستثمار النص. الوثيقة من خلال الاشتغال على عدد من وفير من قصاصات الصحف الجزائرية، "كالوطن"، و"الشعب"، و"المجاهد" و"الخبر"، والحامل لعدد من قرارات المؤسسات الحكومية، ولحوادث الاغتيال، فضلا عن استثمار الصورة من خلال توظيف صورة عائلية أخذت بحمام الوردة في الستينات من القرن الماضي، والأغاني والأمثال الشعبية الجزائرية، والترسل. ولعل العنصر التجريبي الجديد يتمثل في تقسيم الفصول إلى أزمنة فيزيائية يحكمها نظام التعاقب، وجميعها لا يتجاوز مدى أربع عشر ساعة. وقد استثمر الكاتب في صياغة متنها الحكائي جماليات كتابة اليوميات/ والمذكرات، ولغة خطاب متعددة المستويات، ومتنوعة السجلات، ترسم محنة/ الذات، رجع صدى لوطن/ المحنة، وهي الجدلية التي تنهض عليها رواية الكاتب: "حارسة الظلال"(86) من خلا إنبائها على قصتي: الصحافي الإسباني فاسكيس سيرفانتس دالميليا، والموظف بوزارة الثقافة والإعلام الجزائرية: حسان.
يتحول الحضور المحتشم لشخصية دون كيشون، في نص: "مصرع مريم الوديعة"، إلى حضور رئيسي في هذه الرواية، من خلال شخصية سيرفانس دالميليا الصحفي الإسباني الذي يزور الجزائر متعقبا آثار جده الذي أسره القراصنة الأتراك بها مدة خمس سنوات، في مناخات الفتنة التي الفتنة التي تعصف بالبلاد، وعقب إعلان الجماعات الإسلامية، عزمها على قتل الأجانب. تبدأ رحلة بحثه في عدد من نواحي الجزائر العاصمة لتنتهي باختطافه من قبل أجهزة المخابرات والتحقيق معه بتهمة الجوسسة. ومن هنا تبدأ قصة حسيسن الموظف في وزارة الثقافة، والذي رافق الأسباني في رحلة بحثه عن مخلفات جده دونكيشوت. فيتم اقتياده إلى دهاليز المحققين، ليغادرها مقطوع الذكر واللسان فيتحول إلى كيان خاو فاقد القدرة على الإخصاب، وعاجز عن النطق، يذكر بشخصية "لي الحوات" في الرواية "الحوات والقصر" للطاهر وطار(76)، غير أن على الحوات يستعيد في النهاية أعضاءه المقطوعة بعد أن تداعي القصر وتحقق حلم المتصوفة، بينما يظل حسين محروما من الإخصاب، والكلام/ النطق.
وتتعدد الأشكال التي يعمد الكاتب إلى استثمارها في تشكيل عوالم هذه الرواية، فهو يوظف الرحلة التي قادت كلا من الجد كون كيشوت والحفيد إلى الجزائر، في زمنين مختلفين، غير أنهما يشهدان ذات المصير وهو السجن، كما يستثمر الخصائص الجمالية للمذكرات، من خلال ما قام به الصحفي الإسباني دالميليا من تدوين لمشاهداته أثناء زيارته لعديد معالم الجزائر العاصمة، ثم ما كان من أمر اعتقاله والتحقيق معه من قبل أجهزة أمن الدولة، وتحضر بعض عناصر الرواية البوليسية، من خلال اختطاف دالميليا واستنطاقه، واعتقال حسين معه، بممارسة أفظع أشكال التعذيب الجسدي عليه.
كل ذلك على وقع مناخات الحرب الأهلية الدامية التي تشهدها جزائر التسعينات، وما يطبعها من ممارسات قهر وقمع، تفقد الإنسان إنسانيته، بعد أن تدمر إرادته/ وجسده على حد سواء، مما يعلل إدانة الكاتب مرة أخرى لبني كلبون/ السلطة الحاكمة والإسلاميين الذين يعدهم عملاء للسلطة وأحد وجوهها. وهو الموقف الثابت لـواسيني الأعرج في كل أعماله، وآخرها روايته: "شرفات بحر الشمال"(88). وهي نص يضج التقنيات والعناصر التي عمد الكاتب إلى استثمارها دون أن يضيف إليها جديدا، ماعدا توظيفه لفن النحت من جهة، ورسمه الجمالي لفضاء المنفى من جهة أخرى. وهما عنصران يحملان الرؤية السياسية لوطن/ المحنة وآثارها على كينونة الذات الكاتبة وصيرورتها. وهي رؤية ناقدة ومدينة للسلطة/ والجماعات الإسلامية على حد سواء، إذ يحمل كلا منهما، ما آلت إليه البلاد من دمار وما أصاب العباد من أشكال تهافت وانكسارات، وما انتهوا إليه من مصائر فاجعة. كل ذلك عبر الاشتغال على تقنية التوالد الحكائي، حيث يتفرع عن قصة السارد/ ياسين، والذي يمثل الشخصية المركزية التي تدور في فلكها سائر شخصيات الرواية، وعدد مهم من القصص، تنتظم في أنساق تقوم على التداخل والمراوحة مع بعضها البعض، مغنية بذلك المتن الحكائي، ومنوعة أنساق الخطاب ومعددة الرؤى السردية في آن، من خلال لغة تتعدد فيها مستويات الكلام وسجلات الكتابة، بسبب ثراء روافدها، ومن ثم تلاحقها مع الشعر/ في غنائيته، ومع التصوف/ في وجده، ومع القرآن/ في إعجازه، ومع المسرح/ في حواريته، ومع الدارجة الجزائرية في بلاغتها، ومع الفرنسية ومت تجسده من سلطة المثاقفة. هي شرفات الكتابة يشرعها الكاتب، من منفاه، ليشرف من خلالها على محنة الذات/ والوطن، عبر تداعيات ذاكرة جريحة حاضرا وماضيا. ويظل التجريب في وعي واسيني الأعرج وممارسته الروائية سؤالا حداثيا متجددا، ومنفتحا على أفاق لا تحد أشكال الكتابة وأدواتها.
4-1 رشيد بوجدرة: التجريب بين غواية اللغة ومتاهة السرد
يوغل التجريب لدى رشيد بوجدرة في مسالك المغامرة الشكلية عامة واللغوية خاصة، من خلال اشتغاله على اللغة بأفق حداثي، يحولها من أداة إبلاغ/ وتواصل إلى فضاء إبداع، يخترق الكائن من تجلياتها الكامن من طاقتها.
توحي رواية "التفكيك"- أولى نصوص رشيد بوجدرة المكتوبة بالعربية-(89)، بطابعها التجريبي، حيث سيتأكد لاحقا تعمد كاتبها تفكيك نسق سردها وخطابها، مما يشكل علامة دالة على حداثتها من خلال اختراقها لنظام السرد التقليدي القائم على التعاقب لا على التداخل. ثم إن بنية شكلها توزعت على أحد عشر فصلا لا تحمل أرقاما ولا عناوين، يمكن إعادة ترتيبها على غير الشكل الذي وردت عليه. واستثمر الكاتب الصورة/الوثيقة، في تشكيل عالم روايته. وهي صورة لخمسة مناضلين شيوعيين، هم بو علي طالب، والدكتور كينون، وأحمد أنيال، ومحمد بودربالة، والطاهر الغمري، استشهد بعضهم زمن حرب التحرير، وتمت تصفية البعض الآخر من قبل جبهة التحرير الوطني الجزائري، وتمكن آخرهم -الطاهر الغمري- من النجاة ليتولى سرد قصص نضاله ورفاقه. وهو الذي يمارس حياة بائسة على أطراف مدينة الجزائر، زمن الاستقلال. فيكون اشتغاله المكثف على الذاكرة، لكي يستعيد التاريخ- الثورة، بغية الكتابة المضادة للتاريخ الرسمي لثورة التحرير الجزائرية، والذي تجني على الشيوعيين. وهي ذات التقنية التي سبق للطاهر وطار أن وظفها في روايته "اللاز" من خلال جعله الشيخ الربيعي، يروي قصة زيدان ورفاقه من الشيوعيين، الذين قامت جبهة التحرير بتصفيتهم لرفضهم التخلي عن معتقدهم الشيوعي والانتساب إليها، وكذلك واسيني الأعرج في روايته "ما تبقى من سيرة لخضر حمروش" مما يجعل الطاهر الغمري يتقاطع مع كل من زيدان ولخضر حمروش.
وتمثل شخصية سالمة/ الموظفة بالأرشيف، القادح لذاكرة الطاهر الغمري في استعادتها تاريخ الزمن الأول/الماضي النضالي المشترك ورفاقه الشهداء، وهي ذات الظاهر التي نجدها في رواية "العشق والموت في الزمن الحراش" للطاهر وطار، من خلال قدح شخصية جميلة لذاكرة الشباح المكي.
وقد استثمر الكاتب في كتابة التاريخ المضاد للثورة بالإضافة إلى تقنية التذكر، تقنيات الحلم والتداعي والاستطراد، مما جعل السرد يتشظى ومن ثم تتشابك أنساق عناصره إلى مدى المتاهة. كما استثمر تقنية التوالد السردي، بتضمين قصة الطاهر الغمري والتي تشكل القصة الإطار، عددا من القصص الأخرى، لرفاقه الشهداء، وسالمة. وهي القصص التي يعوضها السارد/ الطاهر الغمري في نسق سردي متداخل ومتشعب، من خلال استثمار لعبة الضمائر، والتداعي، والحلم، والاستطراد عبر الإكثار من الأقواس والتكرار، بواسطة لغة تتعدد فيها مستويات الكلام: الفصيح والدارج والأعجمي، وتتنوع سجلاته، وتتشعب أنساق عباراته وجمله. وهي في كل ذلك، لا تتهيب من اختراق المنظومة السياسية من خلال نقدتها للتاريخ الرسمي للثورة الجزائرية وتدوين التاريخ المضاد الذي ينصف النضال الشيوعي في حرب التحرير وصنع الاستقلال، كما أنها تفجر منظومة الأعراف والأخلاق، عبر الإلحاح على إدمان الطاهر العمري للعادة السرية، وحديث سالمة عن لطيف أخيها الخنثى وممارساته الشاذة، ثم كشفها عن حادثة الاغتصاب الذي تعرضت له وكان السبب في ممارستها لحياة متحررة لا ضوابط أخلاقية تحديدها، فضلا عن استثمار مقاطع من شعر بشار بن برد الإباحي، والأمثال الشعبية، في أسلوب يحاكي أسلوب اليوميات، وينشأ ليلا، مما يجعل ليليات الطاهر الغمري تذكر بليليات طبيبة الأمراض التناسلية في رواية "ليليات امرأة آرق"(90). وهي نص يكرس مذهب رشيد بوجدرة التجريي، على صعيد بنية الشكل، وانساق اللغة والخطاب، والموقف من المنظومة المقدسة للأعراف الدينية والأخلاقية.
وتتجلى أولى علامات التجريب في هذه الرواية، في استثمار كاتبها لنص ألف ليلة، بتقسيمها إلى ليال خمس، ثم بإيغاله الحفر في الحرام الجنسي والديني، من خلال حكايات طبيبة الأمراض التناسلية عن جسدها وعالم أنوثتها وحالات التياعة وتأثيمه، وهزائمه، عند مفاجأة الطمث لها للمرة الأولى، ثم عند افتضاض بكارتها من قبل رجل عشقته، مما ولد لديها عنفا وكراهية ضد الرجال، في مجتمع يرى في المرأة العربية وما تعيشه من أوضاع إشكالية في مجتمعاتها، تحرم عليها البوح بأشكال معاناتها أنثى، وتلزم عليها الصمت. وهو ما تفصح في قوله: "هذا ما علمني الرجال إياه... علموني أن أقهر قلبي. ألا أتركه يتعصر"(91). فيكون انطواؤها على الذات، واستبداد كابوس الانتحار بها، إلا أنها تقرر في الأخير أن تكتب ليلياتها، محاولة منها لفهم بعض المعضلات التي صادفتها، منذ أن بدأت تفهم مرارة الحياة، وما ينطبع الواقع به من سواد(92).
وتصوغ هذه الليليات عبر استخدام تقنيات التذكر، والتداعي والاستيهام والاستطراد، والحلم، واستثمار الخصائص الجمالية لكتابة المذكرات، واليوميات، فضلا عن استلهام بعض عناصر العجيب، من خلال رؤيتها الكابوسية لمشهد مسخ الأب، بتحوله إلى إحدى الرخويات، كما شكلت بنية هذه الليليات باستثمار تقنية التوالد السردي، عبر عرضها- ضمن قصتها الإطار- عددا من القصص، لأخيها لطيف، الشاذ جنسيا، وللخطاط المعتوه، الشاذ هو الآخر، ولعدد من مرضاها من النساء وعلاقاتهن بأزواجهن. وتعرض الساردة- وهي تدون ليلياتها- لفعل الكتابة، حال تشكله، مما يمثل علامة تجريبية دالة على وعيها بشروط الكتابة وأدواتها، إذ تقول: "أكتب... أكتب... وصريف القلم من المأثورة الجنائزية أو الأرجوزة والفائدة من كل ذلك صريف القلم. ليس إلا(93).
غير أن الحفر في الحرام يتجاوز الجنس إلى الدين، من خلال تعبير السارد عن انزعاجه من صوت المؤذن، وهو ذات الانزعاج الذي يعبر عنه المجنون في فصل "الكابوس" من رواية "تجربة العشق"، للطاهر وطار(94). فتنعت المؤذن بالهمجية والغطرسة، وتصف صوته بانقضاض الصاعقة المفاجئ(95).
ويتابع رشيد بوجدرة نزعته التجريبية في رواية: "معركة الزقاق"(96)، بمزيد من الإيغال في مسالك المغامرة السردية. فالعنوان يوحي منذ البدء باستثمار الكاتب التاريخ العربي الإسلامي، عبر استعادته وقائع معركة الزقاق التي خاضها طارق بن زياد ضد الاسبان، ومكنه كسبها من فتح الأندلس. فيكون الاشتغال المكثف على ذاكرة طارق بن زياد التاريخية، عبر أشكال من التداعي، واستنادا غلى نصوص كتاب التاريخ، كان السارد يتولى تعريبها بإلحاح من والده قبل أن يقوم بمجادلتها. فيعرض تاريخ فتح الأندلس عبر اللحظات المتأزمة، عقب ظهور علامات صراع بين القائد طارق بن زياد وأميره موسى بن نصير الذي حركته الغيرة بعد النص الذي حققه قائده في معركة الزقاق التي فتحت الأندلس. وتتشابك لقطات هذا التاريخ البعيد/ في بعده القومي، وأخرى مستمدة من تاريخ الجزائر الحديث، زمن حرب التحرير، بعضها مشرق يردد صدى البطولات والانتصارات، وبعضها الآخر قاتم يعرض للخيانات التي تخللت الثورة، والمظالم التي ارتكبها هذه الأخيرة في حق الكثير من أبنائها خاصة الشيوعيين منهم. ويشتغل الكاتب في عرضه لهذا التاريخ القومي/ والوطني الجزائري خاصة الشيوعيين منهم. ويشتغل الكاتب في عرضه لهذا التاريخ القومي/ والوطني الجزائري، على استثمار الوصف للواقع المرئي في إعادة تشكيل وقائع معركة الزقاق، وخاصة للمنمنمة، التي تقوم في هذه الرواية، مقابلا للصورة التي جمعت الطاهر الغمري ورفاقه الأربعة من المناضلين الشيوعيين في رواية: "التفكيك". وقد مثلت المنمنمة "المسوغ الفني لتناول موضوع المعركة. فكانت معركة ضد اللون والأبعاد والمجهول والقداسة والغيرة."(97) ويعرض هذا التاريخ في بعديه القومي/ والوطني عبر منظور نقدي للكاتب يتأسس على المعارضة التي تنتهي إلى المفارقة، من خلال إنتاج كتابتها التاريخية المضادة، والتي لا تتهيب من إثارة الأسئلة حول المصداقية التاريخية لخطبة طارق بن زياد، ولما تم تدوينه عن ثورة التحرير الجزائرية. وتطال هذه المعارضة التراث الشعري العربي القديم، من خلال اختراق قدسيته، بتحويل مطلع أحد نماذجه المشهورة من الجمال اللفظي والدلالي إلى القبح/ المستهجن"(98).
ويتمثل هذا التاريخ المتكأ لعرض جزئيا الواقع اليومي وزخم الحياة الفردية/ والجماعية في آن. فيتم اختراق السارد/ الكاتب لمنظومة الأعراف والأخلاق من خلال الحديث عن دم النجاسة (خرقة الأم المعلقة على أحد أغصان توتة البيت)‘ فتكون صفعة الأم عقابا له على محاولته إدراك المحرم، واكتشاف "أم أمه ليست ملاكا لا ينجس"(99). وتلتها صفعة الأب وإقصاؤه من البيت، لرفضه الإذعان لسلطة قمعه، خاصة وقد "أدرك أن الذي نجسها هو صاحب القرار الذي أقصاه من عتباته، فما عاد له ملجأ حاضن غيرها. هي الممحونة في حياتها (نزق عليها)، وفي جسدهم (دم حيضها)، لأنه لا يرى أمه إلا قدسية عذراء أبدا"(100). وهي الرؤية التي جلبت له أذى فلقة المؤدب الضرير، بعد أن رفض كتابة ما أملاه عليه: "قال، اكتب، ويسألونك عن المحيض قل هو أذى. قلت: لن أكتب، أمي طاهرة. قال: أكتب وإلا فلقناك. قلت: اضرب. فضرب وأدمى القدمن. ثم مشيت على الجرح راكضا إليها أطالب بحقي في فهم هذه المعضلة"(101). وهي الرؤية/الموقف التي تعكس الثورة على المحرم (قل هو أذى)، وعلى سلطة الأب القمعية/المقصية للآخر/ والمدمرة لإرادته، وعلى زيف الكتابات التاريخية- في معظمها- وأكاذيبها الملفقة، حول تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس، أو تاريخ الجزائر الحديث زمن حرب التحرير. وقد توخى السارد في بلورتها سردا متشبعا إلى حد التتويه، ينبني على تداخل الكثير من تقنيات الكتابة كالتذكر، والتداعي، والاستطراد والهذيان، والاستلهام، وفوضى الوعي... فتشظت الجمل والعبارات، إذ داخلتها الأرقام والمعادلات الرياضية الصرفة، وتعددت سجلات الكلام الذي تداخل فيه الفصيح والدارج واللغات الفرنسية والإسبانية والألمانية، إلى جانب محاكاة لغة الإعجاز في العديد من المقاطع السردية، مما يعمق فعل التوليد الذي يمارسه النص على القارئ على صعيد المتن الحكائي، والحدث السردي، وأنساق الخطاب ومستويات اللغة، عبر ذاكرة تواجه نتانة التاريخ والواقع والكلمات من خلال البحث عن الأصيل من عناصر الكيان الفردي/ الجماعي، دون التهيب من اختراق للمقدس، ونقده قبل القطع معه، ويدلل عليها- إلى جانب السارد- أستاذ التاريخ بن عاشور من خلال مقارباته العقلانية للتاريخ بعيدا عن الأهواء أو المطامع.
وتواصل هذه الكتابة المضادة للتاريخ الرسمي، الجزائري، والمعبرة عن نزعة رشيد بوجدرة النقدية في مجمل رواياته، في رواية "فوضى الأشياء"(102). وهي رواية تشي منذ عنوانها بطابعها التجريي، باعتبار أن الفوضى التي "تدخل في إطار مجرى الأشياء (أو في إطار الفوضى الكامنة في أعماق الأشياء)"(103)، تطال بنية الشكل التي عكست نظام سرد لا يخضع إلى التعاقب الزمني في حكي الأحداث وإنما إلى التداخل بين الأزمنة، من خلال تقسيم المتن الحكائي إلى ثلاثة أجزاء، تشترك في الانتماء غلى الماضي إلا أنها تختلف في الترتيب الزمني للأحداث، حيت يتصل الجزء الأول بتاريخ: 10/10/1988: بداية الحرب الأهلية الجزائرية، عقب أحداث أكتوبر من ذات السنة، بينما يتعلق الثاني بتاريخ 10/02/ 1956 ليشكل ارتدادا إلى زمن حرب التحرير الجزائرية ويرسم صورا من نضال المجاهدين الشيوعيين وما ارتكبه الاستعمار من فظائع قتل ودمار، أما الجزء الثالث والأخير فيقترن بتاريخ 11/02/1957، ويرسم ذات أحداث المقاومة وما تزامن معها من ممارسات وحشية للاستعمار الفرنسي، إزاء المجاهدين الجزائريين. وهذه الاستعادة للتواريخ الثلاثة ووقائعها، جعلت النص يتأسس على الذاكرة عبر الاشتغال المكثف على تقنية التذكر، إلى جانب استثمار تقنيات التداعي والاستطراد والحلم، مما يعلل هيمنة السرد الاسترجاعي في بعيه الذاتي والموضوعي، فضلا عن استثمار الكاتب في عرض عناصر متنه الحكائي لتقنيات أخرى متعددة، أسهمت مجتمعة في تشعيب السرد وتشظيته، إلى مدى الفوضى والنتاهة، كالترسل، من خلال إثبات بطاقات الأب حسان، المسافر باستمرار إلى مدائن العالم المختلفة، والشعر عبر استثمار مقاطع صوفية لرابعة العدوية، والغناء بتوظيف مقطع أغنية شرقية كلازمة تتكرر، والنص القرآني من خلال استثمار ذات الآية من سورة النساء: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى..."، والتي سبق له استعملها لازمة جمالية/ ودلالية في روايته السابقة: "معركة الزقاق". وهي الآية التي كانت سبيله لاختراق الحرام/ الجنسي من خلال اكتشاف دم حيض الأم على خرقتها الخاصة المنشورة على حبل غسيلها الخاص المخفي وراء التوتة القديمة، وكانت السبب في عقاب/ الصفع الذي لقيه من الأم من كلتا الروايتين. ويوغل الكاتب في اختراق الحرام/الجنسي بنقله المشاهد الحسية بين السارد والفتاة الفرنسية سيلين، متجاوزا ضوابط البيئة وأحكام الأعراف، في لغة لا تتهيب من اختراق المقدس إلى المدنس، عبر عبارات عارية، فضلا عن تعدد سجلاتها وتنوع مستوياتها التي يتداخل فيها الفصيح والدارج والأعجمي، فتتشظى الجمل وتتوتر أنساق الخطاب التركيبية والأسلوبية والدلالية، إذ تتشعب إلى حد تتويه المتقبل/القارئ. وتشكل هذه اللعبة اللغوية في تشكيل رشيد بوجدرة لعوالم سرده، إحدى السمات المفيدة والدالة على خصوصية تجربته الروائية، بتحول اللغة من أداة إبلاغ إلى فضاء إبداع منفتح على اللامحدود من الاحتمالات الفكرية والجمالية. وهي ذات السمات التي تكون مذهب جيلالي خلاص الروائي.
5-1 جيلاني خلاص وتجريب فتنة التجريد
تكرس تجربة جيلالي خلاص الروائية القطيعة مع أشكال السرد التقليدي، بإيغالها في مسالك المغامرة السردية، إذ يشكل فعل التجريب سؤالها المركزي. وهو ما يفصح عنه الكاتب ذاته في قوله: "كل رواية أكتبها أريد أن تتجاوز الأخرى. كل مشروع روائي تحطيم للمشروع الروائي الذي كتبته. عندما أنهي رواية، أرى ضرورة كتابة أخرى، حتى أعوض عدم اقتناعي بالرواية التي أعطيتها للمطبعة. وهذا مطلب الأفضلية. فعندما أطالب بالثورة، أثور على نفسي ي المضامين التي أطرحها، وفي الأشكال التي أكتبها. أرى أن المتخيل دائما ثورة واستمرارية للثورة التي قد لا تتحقق اليوم، ولكن لابد أن تتحقق. فالأدب سفر اللانهاية"(104).
يبدأ التجريب في روايته الأولى: "رائحة الكلب"(105). منذ التصدير باستثمار قول لابن طفيل من كتابه "حي بن يقظان"، قبل أن يتكرس لاحقا من خلال بنية الشكل الخارجي، بعنونة الفصول بالكلمة الأولى التي يبدأ بها كل منها: "قبل، للحظة، لبرهة، ثانية، الساعة، الآن، عندما، يوم، منذ، قبيل، الليلة، حين، وقت"، وكلها عبارات تفيد الزمن في بعديه: الماضي والحاضر، حيث تتم في الزمن الأول استعادة وقائع من ثورة التحرير، وجوانب من طفولة السارد وشبابه، عبر الاشتغال على تقنيات التذكر والحلم والتداعي والاستيهام والاستطراد. ويقع التركيز في الزمن الثاني على أشكال تهافت الراهن في خطاب تلونه النزعة النقدية الرافضة لما يأتيه رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي من ممارسات تجسد مذهبهم الانتهازي والوصولي.
وتنبني الرواية على المراوحة بين هذين الزمنين إلى مدى يتحول فيه الزمن إلى زمن زئبقي يعسر ضبط معالمه وحدوده، بفعل الهذيان والحلم والكابوس والذاكرة، مما يشعب السرد، إذ تتشظى الجمل والعبارات وأنساق الزمن، يفعل استثمار الكاتب لتقنية التوالد السردي عبر كامل مسار الرواية، وانفتاح الأقواس التي تريد بالسارد غلى الماضي الفردي/والجماعي، ويتفاوت الاعتراض بين القوسين من حيث الطول والقصر، فيندر الحوار ليفسح المجال إلى تداعي رؤى الأحلام والكوبسة التي تتداخل فيها التخوم بين الواقعي والمتخيل، الذاتي والموضوعي خاصة وأن نهاية الرواية تكشف أن كل وقائع حكيها لم تكن سوى أحلام وكوابيس لسارد وإن تقصد الكاتب إغفال اسمه، فإن تجميع شظايا السرد وأشتاته وإعادة تركيبها في آخر الرواية يكشف عن الجانب السيري، من خلال تصوير السارد/الكاتب جوانب من الطفولة اليائسة في القرية، وأشكالا من الضياع عند التحول إلى المدينة، ثم عبر الحديث عن فعل الكتابة وهو ينجز هذه الرواية المشتقة من كينونة الكاتب ومغامرته الوجودية: "الليلة شرعت في تحبير تلك الرواية التي طالما حدثتكم عنها، وقرأت لكم بعض فصولها الوهمية، أو رأيتموني وتسيل"(106). ثم يضيف: "منذ وعيت وأنا أنتظر هذه الليلة، أن أكتب رواية، وهل تلك الرواية إلا حياتي"(107).
ويتم في سياق هذا التداخل بين الميثاقين الروائي والسير ذاتي اختراق المحرم الجنسي، عبر مشاهدة السارد للأفلام الإباحية ثم من خلال تصويره المشاهد الساخنة التي جمعته بكل من وهيبة وسليمة، في لغة عارية، لا تتهيب من تسمية الأشياء بأسمائها، إذ لا ترهبها أحكام البيئة ولا ضوابط الأعراف.
ويمعن الكاتب في مذهبه التجريبي، في روايته الثانية "حمائم الشفق"(108)، بمزيد الإيغال في التجريد الذي تنوعت مظاهره وتعددت علاماته الجمالية والدلالية في آن. فقد عمد إلى تقسيم فصول روايته إلى ضمائر، وأبقى شخصية السارد والتي تمثل الشخصية الأساسية في الرواية غفلا من التسمية، إلى جانب عدم تعيين المدينة التي يسود تاريخها على مدى خمسة قرون، بأسطرتها من خلال إضفاء الطابع الغرائبي على معماريتها، وإن كانت رمزيتها شفيفية، بإحالتها إلى الجزائر العاصمة والوطن. وهي المدينة التي يخصها بعشق صوفي يدرك مدى التوحد. ويستثمر فن الرسم من خلال شخصية السارد/الفنان التشكيلي التي تغضب لوحاته سلطة المشيخة التي تأمر بخطفه، وتحكم بالجنون القسري على رفيقته جميلة ابنة بوجبل المناضل الذي استشهد زمن الثورة. وهنا يعمد الكاتب إلى نقد السلطة القامعة للصوت المعارض والتي تشكل نوعا من الامتداد لسلطة الاستعمار، فيعرض حكاية بوجبل وزوجته الجوهر في الزمن الماضي متماثلة وحكاية الرسام وجميلة/المهندسة المعمارية في الزمن الحاضر، وتتقاطع الحكايتان فيمثل الرسام الامتداد للأب في حين تجسد جميلة الامتداد للأم في عشقها للزوج والوطن. ويجرب الكاتب الاستغناء عن الحوار بتكثيف الاشتغال على السرد والوصف، متوسلا بتقنيات التداعي والحلم والهذيان والتذكر إلى جانب استثمار الأقواس، مما يسهم في تشظي السرد وانساق الخطاب التي قامت على المراوحة بين حالات الوعي/ واللاوعي، اليقظة/والحلم/ والرؤيا العقل/ والجنون، الواقع/ واللاواقع، وأخيرا الروائي/ والسيري بحكم توظيف الكاتب لعدد من مكونات سيرته الذاتية في متنه الحكائي.
ويطال التجريب اللغة التي تعددت فيها مستويات الكلام، وسجلات القول، وتنوعت فتراوحت بين الفصحى والدارجة، ولغة الحكاية، ولغة الأغنية العربية الفصيحة والشعبية، والأغنية الأجنبية. مما جعل الأسلوب يتميز بالتوالد اللغوي في تشكيل الصور على اختلاف مصادر خيالها، وتنوع أبعادها الرمزية الجمالية والدلالية، وبالجرأة على اختراق المحرم/ الجنسي من خلال تكرار مقطع غنائي إباحي. كان السارد/ الرسام يمارس على إيقاعه طقوس الجنس مع جميلة.
ويبدأ التجريب في رواية الكاتب الثالثة: "عواصف جزيرة الطيور"(109) باستثمار قول للأمير عبد القادر الجزائري، يكشف عن التاريخ المأساوي للجزائر منذ قديم الزمان، وهو مأخوذ من كتاب "تحفة الزائر في تاريخ الجزائر". ثم يقوم بتقسيم روايته إلى قسمين: يحمل الأول عنوان: "النوارس تحتمي بالغيوم"، في حين يوسم الثاني بـ "الدمعة التي تحولت إلى قطرة ملح". وقد عمد إلى كتابتها بنوعين من الخط فخص الخط الرقيق بالماضي القريب لجزائر الاستقلال، والذي يبدأ بأحداث 5 أكتوبر1988 التي شكلت بداية الحرب الأهلية الجزائرية ويتواصل على مدى التسعينات من القرن العشرين، بينما خص الخط السميك بتاريخ الجزائر القديم منذ الغزو الإسباني له في 13 ماي1509 إلى الغزو الفرنسي في فجر 05 جويلية 1830، مما يجعل الكاتب يستثمر تقنية التذكر بالأساس من خلال الاشتغال المكثف على الذاكرة، في استعادة أحداث الزمن الأول المتعلقة بالجزائر عبر التاريخ، ووقائع الزمن الثاني المتصلة بالجزائر التسعينات من القرن العشرين وما تعيشه من حرب أهلية دموية. ويتداخل الزمنان إذ يتشعب السرد بفعل استخدام تقنيتي التداعي والحلم، وتتشظى أنساق الخطاب، عبر استثمار تقنية التناص، بتضمين الرواية بعض أشعار الأمير عبد القادر الجزائري الوطنية، إلى جانب مقاطع من خطبه وبعض مواقفه الواردة في كتاب يحي بوعزيز: "الأمير عبد القادر رائد الكفاح الوطني"، فيعرض الكاتب سيرة نضال الأمير عبد القادر ضد الاستعمار الفرنسي، نموذجا لمسيرة كفاح الشعب الجزائري ضد الغزاة الفرنسيين وكل من سبقهم. وتتداخل في سياق هذا العرض بطولات الأمير والمجاهدين وخيانات المشايخ والسلطة الحاكمة التي لم تتردد في قمع حركة الجهاد ضد الدخيل الأجنبي.
ثم إن معارضة الكاتب لتاريخ الجزائر القديم، ما تستثمر النص/ الوثيقة التاريخية، والذي يشكل التاريخ الرسمي، فإنها تفارقه لتكتب التاريخ المضاد/ الذي تقصدت السلطة السكوت عنه. وهو ما تجسد جوانب منه بطولات المجاهد بومعزة وما يروي عنه من وقائع ملحمية في مقاومة الاستعمار الفرنسي، وقد أسر إلى جانب الأمير عبد القادر من قبل سلطات الاحتلال آنذاك.
وتكشف هذه المعارضة عن نزهة الكاتب النقدية، من خلال موقفه النقدي من السلطة الحاكمة في جزائر الثمانينات والتسعينات بالأساس، لممارسات قمعها للصوت المعارض، مما يجعلها تشكل الامتداد لسلطة الاستعمار في تدميرها إرادة المقاومة الشعبية، بما تقوم به من أشكال عسف وقهر. ففي الماضي يسجن الأمير عبد القادر من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي بسبب مقاومته لها بالكلمة والسلاح وفي الحاضر يسجن السارد/ الصحافي، بتهمة المساس "بأمن المشيخة ومحاولة تشويه الشيخ الأكبر حامي"(110)، وذلك لرغبته الكشف عن حقيقة موت الجثث الأربعة التي لفظها البحر على الساحل، كما يستثمر الكاتب ذات التقنية- أي التناص- بتضمين روايته مقاطع من روايته السابقة "حمائم الشفق"، تتعلق بقصة اختطاف الكاتب منصور وإخفائه قبل إغراقه في البحر من قبل إحدى الجماعات المسلحة.
وقد وظف الكاتب كعادته الأقواس المفتوحة، إلى جانب استثماره تقنية الترسل، بكتابة السارد/السجين، الرسائل لحبيبته فتيحة، وهي ذات الرسائل التي سيستثمرها لاحقا في روايته "الحب في المناطق المحرمة" ويتبادلها كل من وليد ووسيلة. ويستعيد- في ذات السياق- جوانب من سيرة القديس سان أوغسطين، فضلا عن استثمار الحكاية الشعبية التي تسرد تاريخ مدينة الجزائر وما تعرضت له من محن غزو في التاريخ الوسيط والحديث، وهي مدينة/البيضاء التي أضفى عليهما طابعا أسطوريا جعلها تبدو غريبة/ وعجائبية، إذ "تشبه إلى حد كبير هيكلا عظيما لكبش أسطوري قد يكون أراد أن يبلغ شاطئ البحر، غير أن المنية وافته لسبب من الأسباب، فتمدد بكل ثقله فوق ساحل الخليج، موليا الماء ظهره وممددا قوائمه في سفح الرابية، بينما أرجله في البحر، إذ لا يظهر إلا قرناه المتكسران، المقلمان وفكه الأسفل المقلم."(111)
كل ذلك، ويتعالق في هذه الرواية الميثاقان الروائي والسير ذاتي، من خلال حضور شخصية المؤلف، وحديثه عن طفولته البائسة، ونصوصه الروائية.
وأخيرا نجد الكاتب في روايته الأخيرة "الحب في المناطق المحرمة"(112)، يستثمر في التصدير بيتين للشاعر أبي الطيب المتنبي، يؤكدان على شعوره بالغربة وسط قومه ثم يعمد في تشكيل عوالم حكيه إلى استخدام تقنية التوالد السردي بنوع من التشعيب، من خلال تناسل الحكايات وتداخلها على مستوى العرض، بتقطيعها والمراوحة في سرجها بين أكثر من صوت سردي. فتبدأ الرواية بقصة سلوى التي سبتها إحدى الجماعات الإسلامية المسلحة، وقد تمكنت من الهرب، على إثر تحرير صديقها وليد لها خوفا عليها من بطش أمير الجماعة بها، والاستحواذ عليها، مثلما فعل مع صديقتها حكيمة التي مثل بجسدها صباحا بعد أن رفضته ليلا. ثم ترد قصة مقتل الشيخ عبد الباقي انتقاما منه لتوليه إنقاذها، فقصة وسيلة التي غادرت البلاد مع مطلع التسعينات على إثر الزلزال الذي حل لها، وأخيرا قصة صديقها وليد الذي خير الاختفاء في تلك الفترة خوفا على حياته، وتتخلل قصته، حكاية اغتيال صديقه الكاتب جمال.
ويستثمر الكاتب في ذات السياق- تقنية التناص بتضمين نصه هذا مقاطع من روايته السابقة: "عواصف جزيرة الطيور"، وذلك بإثباته مجددا الرسالة التي كتبها السارد/الصحافي في سجن إلى حبيبته فتيحة، التي صار اسمها في هذه الرواية وسيلة، وكذلك قصة اختطاف سالم/ الصحافي من قبل إحدى الجماعات الإسلامية وإخفائه قبل تصفيته والتخلص من جثته بإلقائها في البحر، كما استثمر مقاطع أخرى من روايته "حمائم الشفق"، تتصل بالزلزال الذي هز بيته وكاد يودي بحياته، مما كرس حضور السيري في الروائي، من خلال الحضور السافر لشخصية المؤلف وطلبه من إحدى الشخصيات/وسيلة، أن تقرأ روايته السابقة: "لابد أن تقرئي روايتي عواصف جزيرة الطيور. لقد أحضرتها لك خصيصا."(113). فضلا عن عديد العلامات الأخرى المبثوثة في ثنايا النص والتي تجد لها مرجعيتها في حياة الكاتب، كتوليه خطة مدير المركز الثقافي لمدينة الجزائر، وما كان من تعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة. ويستخدم الكاتب في عرض كل هذا تقنية المذكرات إلى جانب التشكيل البصري للكتابة، عبر تنويع الخط إلى سميك ورقيق، فضلا عن استثماره مجددا الأغنية العربية.
ويتم خلال كل ذلك اختراق الحرام الجنسي عبر تصوير الكاتب لمشهد تمثيل الجماعة الإسلامية بجسد الفتاة حليمة، ثم من خلال الحديث عن الممارسة الشاذة لوليد مع سلوى، وكذلك جماعة مع المومس المصرية في ماخور أحد معسكرات تدريب الجماعات الإسلامي في مدينة بيشاور الباكستانية، وأخيرا طقوس عشقه مع حبيبته وسيلة التي التقى بها مجددا بعد فراق دام ثماني سنوات.
وتبقى نزعة الكاتب النقدية للجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر بينه من خلال تقصده فضح أشكال تهافتها الأخلاقي، ومظاهر قمعها الدموي، ووحشية ممارساتها الفظيعة مع أفراد الشعب الجزائري، ليؤكد بطلان كل ادعاءاتها، إذ يرى أنها "برهنت أن خلافها مع السلطة في قضية استرجاع الشمس، لم يكن إلا خدعة استعملتها تلك الجماعات لنهب خيرات السكان العزل، وتقتيل كل من يقف في وجهها"(114).
إن حداثة الرواية العربية الجزائرية ترتبط بالتجريب أفقا لتحقيق المغايرة الروائية عبر الضرب في مسالك المغامرة الشكلية واللغوية. وهو ما جعلها تستثمر العديد من العناصر التي كانت مغيبة داخل المشهد الأدبي الجزائري عامة والروائي خاصة. كتوظيف أشكال التراث المحلي، والعربي الإسلامي والعالمي، واستلهام التاريخ في شتى تجلياته وأبعاده واقتحام المحرمات السياسية والدينية والجنسية. كل ذلك في كنف التفاعل مع الموروث الروائي العالمي ومنجزاته الحديثة والمعاصرة، في صوغ حكائي خلخل الميثاق السردي السائد وما ينبني عليه من أنساق مألوفة، وجعل من اللغة فضاء إبداع لا سبيل إبلاغ فحسب. فكان اختراق إسار اللغة الواحدة إلى أفق التعدد اللغوي، وكانت شعرنة اللغة علامة دالة على عمق الأبعاد الدرامية للتجارب المحكية، الفردية والجماعية على حد سواء، وهي كلها علامات دالة على حداثة هذه الرواية ومكوناتها الحكائية النصية، في ضوء مساءلتها لذاتها شروطا وأدوات، من خلال الحضور النقدي لكل من المؤلف والقارئ، وهو حضور منتج جماليا ودلاليا.
غير أن مستقبل هذه الرواية العربية الجزائرية يبقى رهينا بخلق مشهد نقدي جديد يتجاوز أشكال الصراع الأيديولوجي ليحتكم إلى أسئلة أكثر إنتاجية وعمقا وتأثيرا في المجتمع الجزائري وفي مشهده الإبداعي في شتى تشكلاته المعاصرة.
الهوامش
- أحمد المديني: الخطاب الروائي العربي/ الخطاب المستحيل، مجلة "الطريق"، العدد الثالث، آب- أغسطس، 1981، عدد خاص: في الرواية العربية البناء الفني وحركة الواقع الاجتماعي، ص78.
- جابر الواقع الاجتماعي، ص78.
- جابر عصفور: مجلة فصول، المجلد14، العدد1، القاهرة ربيع1995.
- عز الدين المدني: الأدب التجريبي، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1972، ص27
- ناتالي ساروت: الكتابة الروائية بحث دائم، ضمن كتاب "الرواية والواقع" منشورات عيون، الدار البيضاء، 1988،ص12.
- مصطفى الكيلاني: إشكاليات الرواية التونسية، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، بيت الحكمة- قرطاج- تونس، 109،ص199.
- بوشوشة بن جمعة: اتجاهات الرواية في المغرب العربي، تونس،1999، ص365.
- سعيد يقطين: القراءة والتجربة، دار الثقافة الجديدة، الدار البيضاء، 1985، ص295.
- عبد الرحيم العلام: سؤال الحداثة في الرواية المغربية، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء1999، ص10.
- عبد الحميد بن هدوقة: ريح الجنوب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى، 1971.
تمثل المحاولات الأولى في الرواية العربية الجزائري، في نصوص:
رضا حوحو: غادة أم القرى، مطبعة التليسي، تونس، 1947.
عبد المجيد الشافعي: الطالب المنكوب، دار الكتب العربية، تونس، 1951.
نور الدين بوجدرة: الحريق، الشركة التونسية للفنون والرسم، تونس1957.
محمد المنيع: صوت الغرام، مطبعة البعث، قسنطينة،1969
(11) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية، أسئلة الكتابة والصيرورة، دار سحر للنشر، تونس، 1998، ص38-40.
(12) المرجع نفسه
(13) يقول عبد الحميد بن هدوقة بهذا الصدد: "ربطت في هذه الرواية قضية المرأة بقضية الأرض، إيمانا مني بأن المجتمع الجزائري لابد أن تتغير نظرته للمرأة. فبدون أن يقع حل لمشكلة المرأة في الجزائر، وفي المجتمع العربي الإسلامي عامة، لا يمكن أن يحصل تغيير حقيقي... إن تحرر المرأة رهين تحرر المجتمع اقتصاديا والبنى الاقتصادية هي أساس التغير. فالجزائر مجتمع زراعي يتعامل مع الأرض بوسائل بدائية، لا يمكنه أن يتعامل مع المرأة بطريقة حضارية، وبدون تتغير علائق الاقتصاد لا تغير العلائق الاجتماعية."
انظر بوشوشة بن جمعة، الرواية العربية الجزائرية،... سبق ذكره ص41 وما بعدها.
(14) عبد الحميد بن هدوقة: ريح الجنوب، المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط3، 1976.
(15) عبد الحميد بن هدوقة: نهاية الأمس، ط1، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط2، 1975. مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس 1987.
(16) عبد الحميد بن هدوقة: بان الصبح، المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر، 1980.
(17) المصدر نفسه: ص21.
(18) المصدر نفسه: ص81.
(19) عبد الحميد بن هدوقة: الجازية والدراويش، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983.
(20) بوشوشة بن جمعة، الرواية العربية الجزائرية،... سبق ذكره، ص48.
(21) عبد الحميد بن هدوقة: الجازية والدراويش، ص57.
(22) المصدر نفسه: ص50.
(23) عبد الحميد بن هدوقة: غدا يوم جديد، دار الآداب، بيروت، 1993
(24) المصدر نفسه: ص11.
(25) المصدر نفسه: ص15.
(26) المصدر نفسه: ص63.
(27) المصدر نفسه
(28) المصدر نفسه: ص16-17
(29) المصدر نفسه انظر الصفحات: 5-106-127-144-145.
(30) المصدر نفسه: ص13
(31) المصدر نفسه: ص41
(32) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية...، سبق ذكره، ص22
(33) الطاهر وطار: تجربة في العشق، مؤسسة عيبال، نيقوسيا (قبرص) 1987، ص7.
(34) المصدر نفسه: ص8
(35) الطاهر وطار: اللاز، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1981.
(36) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية،...سبق ذكره، ص23.
(37) المرجع نفسه: ص42
(38) الطاهر وطار: الزلزال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط3، 1980، الطبعة الأولى صدرت سنة 1974.
(39) المصدر نفسه: ص203، 204.
(40) المصدر نفسه: ص170
(41) الطاهر وطار: عرس بغل، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982، الطبعة الأولى سنة 1978.
(42) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية... سبق ذكره، ص20
(43) المرجع نفسه: ص24
(44) الطاهر وطار: عرس بغل، ... ص105
(45) الطاهر وطار: العشق والموت في الزمن الحراشي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980.
(46) المصدر نفسه: ص78
(47) الطاهر وطار: الحوات والقصر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1980
(48) المصدر نفسه: ص115
(49) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية،... سبق ذكره، ص22.
(50) الطاهر وطار: تجربة في العشق، دار الاجتهاد، الجزائر، 1989.
(51) الطاهر وطار: الشمعة والدهاليز، منشورات التبيين، الجزائر، 1995
(52) الطاهر وطار: الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، منشورات التبيين، الجزائر،1999.
(53) الطاهر وطار: تجربة في العشق،... ص17
(54) عبد العزيز غرمول: الطاهر وطار، مدار الزمن القادم، "مجلة الحياة الثقافية" (تونس)، العدد32، السنة 1984.
(55) الطاهر وطار: الولي الطاهر يعود غلى مقامه الزكي، منشورات التبيين، الجزائر، 1999.
(56) واسيني الأعرج: مأزق الرواية العربية: أسئلة النشأة، أسئلة المثاقفة، مجلة المسائلة، الجزائر، ربيع- صيف 1993، ص67.
(57) المرجع نفسه، ص68
(58) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية: أسئلة الكتابة والصيرورة، دار سحر، تونس، 1998، ص83. ويفصح عن منظوره للتجديد في ممارسته الروائية في قوله في الصفحة 87: "إن الرغبة في التجديد هي التي تحفزني دوما على تجاوز الواقعية التقليدية في كتابتي الروائية. فالحياة إذا لم تجدد تموت. والإنسان إذا لم يجدد يموت هو الآخر. وعليه فإن الرواية كأي شكل أدبي لا يمكن أن تعيش إلا بهذه النزعة التجديدية التي تدخل ضمن الإطار"
(59) واسيني الأعرج: وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1982، ط2، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983 (جزآن).
(60) واسيني الأعرج: فاجعة الليلة السابعة بعد الألف- رمل الماية، لافوميك، دار الاجتهاد، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر (1983).
(61) يكشف واسيني الأعرج عن خلفيات كتابة الرواية في قوله: "وقد كتبت هذه الرواية في خضم الأزمة النقابية- فعدت إلى المحاكمات التي تضمنتها الصحف التونسية والعربية والعالمية لأضمن لنفسي جانب المعلومات، وحتى أعطي لهذا الجانب مصداقيته الواقعية والفنية، ذلك أنني قد أفدت من تلك المحاكمات تقنيا. كما وظفت هذه المادة الإعلامية التي اطلعت عليها لنقد واقع الكتابة الصحفية في البلاد العربية والتي تزيف الواقع وتحرف الحقيقة بتحويلها النقابيين غلى قطاع طرق "انظر بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية: أسئلة الكتابة والصيرورة، ص90.
(62) واسيني الأعرج: ما تبقى من سيرة لخضر حمروش، دار الحرمق، دمشق، سورية. 1982
(63) يكشف واسيني الأعرج عن بعض خلفيات كتابته لهذه الرواية وعن حقيقة بطلها لخضر حمروش في قوله: "أردت أن أتناول في هذه الرواية التاريخ النضالي للحزب الشيوعي الجزائري حول مسألة الأرض. فأعدت قراءة حركة هذا الحزب في إطار الحركة الشيوعية العالمية ، إذ أعتقد أنه لابد من الاجتهاد داخل التاريخ، فأنا لا يهمني التاريخ كمادة جاهزة وإنما يهمني من الجانب المعلوماتي أما توظيفه أدبيا فقضية أخرى. وسيرة بطل الرواية لخضر حمروش واقعية مستلهمة من سيرة عجوز جزائري التقيت به في مكان مهمل في جهة سيدي بلعباس أثناء حملة تطوعية، فجلست معه، وإذا به أخذ يحكي لي عن تاريخ حياته النضالي". انظر: بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية".. ص92 وما بعدها.
(64) الطاهر وطار: اللاز، شركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط3، 1981
(65) رشيد بوجدرة: التفكيك، المؤسسة الوطنية، الجزائر، 1984
(66) واسيني الأعرج: نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1983
(67) ترددت صيغة: "بني كلبون"، رمزا دالا على السلطة الحاكية في جزائر الاستقلال، في رواية سابقة لهذه الرواية وهي: "زمن النمرود"، للحبيب السائح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1981.
(68) انظر: بوشوشة بن جمعة: اتجاهات الرواية في المغرب العربي، تونس1999 ص: 451-470
(69) سيزا قاسم: مجلة فصول المجلد2، العدد2، القاهرة، 1982، ص144.
(70) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية، ص91-92.
(71) واسيني الأعرج: نوار اللوز وتغريبة صالح بن عامر الزوفري،... ص122.
(72) المصدر نفسه: ص94.
(73) المصدر نفسه: ص13.
(74) واسيني الأعرج: مصرع أحلام مريم الوديعة، ط1، دار الحدث، بيروت، لبنان 1984، ط2، منشورات الفضاء الحر، الجزائر، 2001. وقد لاحظنا عديد علامات الاختلاف بين الطبعتين، إذ يبدو أن الكاتب أدخل عديد التحويرات على الرواية/الأصل وهو يعيد صياغتها وتجهيزها للطبعة الثانية. ويمكن أن نشير إلى بعضها على سبيل الذكر لا الحصر. فقد أسقط من عنوان الطبعة الثانية كلمة مصرع التي وردت في صيغة عنوان الطبعة الأولى، وقام بصياغة عناوين لجميع الفصول، التي وردت في الطبعة الأولى حاملة لأرقام...
(75) المصدر نفسه
(76) المصدر نفسه
(77) نشرت هذه الرواية أول مرة متسلسلة في جريدة "المساء" عام 1986، ثم طبعت من قبل اتحاد الكتاب العرب، دمشق- سورية. 1999، وطبعة ثانية ضمن منشورات الفضاء الحر، الجزائر، 2001.
(78) واسيني الأعرج، ضمير الغائب أو الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر، منشورات الفضاء الحر، الجزائر، 2001، ص7-8.
(79) المصدر نفسه، الغلاف.
(80) واسيني الأعرج: فاجعة الليلة السابعة بعد الألف، رمل الماية لافوميك، دار الاجتهاد، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1993 (جزآن)
(81) المصدر نفسه: الغلاف.
(82) المصدر نفسه
(83) واسيني الأعرج: سيدة المقام مرثيات اليوم الحزين، ط1، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 1996، ط2، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1997، ط3، منشورات الفضاء الحر، الجزائر، 2001.
(84) المصدر نفسه
(85) المصدر نفسه: ص113-114
(86) واسيني الأعرج: ذاكرة الماء، ط1، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 1977، ط2، منشورات الفضاء الحر، الجزائر، 2001.
(87) واسيني الأعرج: حارسة الظلال، الطبعة الفرنسية، 1996، الطبعة العربية الأولى، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 1999، ط2، منشورات الفضاء الحر، الجزائر، 2001.
(88) الطاهر وطار: الحوات والقصر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1980
(89) واسيني الأعرج: شرفات بحر الشمال، منشورات الفضاء الحر، الجزائر2001.
(90) رشيد بوجدرة: التفكيك، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1980.
(91) رشيد بوجدرة: ليليات امرأة آرق، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985.
(92) المصدر نفسه: ص18-19
(93) المصدر نفسه: ص 30-31-123
(94) الطاهر وطار: تجربة في العشق، دار الاجتهاد، الجزائر، 1989.
(95) رشيد بوجدرة: ليليات امرأة آرق،... ص40.
(96) رشيد بوجدرة: معركة الزقاق، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986.
(97) الحبيب السائح: معركة الزقاق،... فعل التتويه، مجلة المساءلة- العدد الأول- ربيع 1991، ص35.
(98) المرجع نفسه: ص32
(99) المقصود بيت الشاعر كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول... والذي تول إلى بالت سعاد فقلبي اليوم مبلول... انظر ص42
(100) المرجع نفسه
(101) رشيد بوجدرة: معركة الزقاق،...ص83
(102) رشيد بوجدرة: فوضى الأشياء، دار بوشان للنشر، الجزائر، 1990.
(103) المصدر نفسه: ص221
(104) بوشوشة بن جمعة: الرواية العربية الجزائرية،... ص58.
(105) جيلاني خلاص: رائحة الكلب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985.
(106) المصدر نفسه: ص119.
(107) المصدر نفسه: ص120.
(108) جيلاني خلاص: حمائم الشفق، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985.
(109) جيلاني خلاص: عواصف جزيرة الطيور، منشورات مارينور، الجزائر، 1985.
(110) المصدر نفسه: ص46
(111) المصدر نفسه: ص19
(112) جيلاني خلاص: الحب في المناطق المحرمة، دار الجديد، الجزائر، 2000.
(113) المصدر نفسه: ص44
(114) المصدر نفسه: ص43