التجريب في الرواية العربية الحديثة

أ/ الهادي بو ذيب قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة بجاية –
أ/ الهادي بو ذيب قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة بجاية –
المقدمة:
... أتناول في هذه المداخلة، موضوع التجريب في الرواية العربية الحديثة، وسأحاول إبراز إشكالية اصطلاحية، تتعلق أساسا بالتجريب من مفهومه الابستمولوجي، وكيفية تحويله إلى جمالية الكتابة الروائية، ونشير في هذا الإطار إلى أن مفردة مصطلح التجريب ترتبط تاريخيا، بتحولات البنية المعرفية، والجمالية في سياق نسق الثقافة الغربية ومركزيتها بخطاب الحداثة، وما يحمله هذا الخطاب من حمولات تاريخية وفلسفية وحضارية.
... أما عن التجريب في الرواية العربية الحديثة، فقد جاء هذا المصطلح مختلفا من ناحية الأصل، والشكل، وذلك يعود إلى عدة معطيات، بحكم المفارقة الزمنية والسياسية والحضارية، فالرواية العربية الحديثة، ويبدو واضحا أنه لم يول اهتمام جاد، ودقيق، وموضوعي، للبحث في المهاد الثقافي الذي أدت تفاعلاته المتنوعة إلى مخاض صعب، ومعقد، تبلورت ملامحة خلال عشرات السنين، ليكون ممارسة سردية دائمة التطور، والتجدد في هذا الشكل السردي الجديد للرواية" وعلى هذا الأساس ، قسمنا المداخلة إلى محورين أساسين:
1. المحور الأول: نركز فيه على مفهوم التجريب في بنية الثقافة الغربية، وتفاعلاته مع الشكل الروائي.
2. المحور الثاني: نبين من خلاله تصورات حول التجريب في الرواية العربية.
مفهوم التجريب في بنية الثقافة الغربية، وتفاعلاته مع الشكل الروائي
1/1: مفهوم التجريب:
يرتبط مفهوم التجريب، جوهريا، بخطاب الحداثة، على يؤكد على المعرفة العينية، والمباشرة، واستعمال القدرات العقلية، وإخضاعها لمنطق التجربة الحسية، للكشف عن القوانين، والفرضيات المادية المستخلصة من لدن الوعي بالموضوع، والواقع الموضوعي، الذي، تفرزه الظاهرة المدروسة سواء أكانت إنسانية اجتماعية أو طبيعية مادية، والحكم عليها من خلال نسبيتها الزمنية.
... وترسخ مفهوم التجريب، مع ظهور الاكتشافات العلمية والفلكية والفيزيائية، والبيولوجية التي عرفتها أوروبا، ويمكن رصد مفهوم التجريب في بنية الثقافة الغربية من خلال مكونين أساسين:
• مكون خطاب فلسفة الأنوار، والدعوة إلى التحرر العقلي من المعتقدات، وتراكماتها التاريخية والغيبية والأسطورية، وتجاوز الماضوية، وإحداث القطيعة الايستمولوجية للمعرفة القديمة.
• مكون ثورة العلوم التجريبية، وخطابها العلمي اتجاه الطبيعة والإنسان والوجود، وإيمانها بقدرة العلم وقوانينه الصارمة في دراسة حقيقتها في واقعها الماضوي والتجريب: "إننا نمارسه عندما نفرض المعاني والأحكام عندما نقيم الناس والأوضاع، وعندما ندرس الأفعال وأساليب التصرف، في مسار هذه الخبرات العقلية نكتشف أننا بشر ذوو حاجات ومشاكل، والبعض منها لا ينبع مباشرة من وجودنا المادي، ونحتاج إلى توصيات ملائمة، بعدئذ نبدأ بتطوير تلك الصور المفاهيمية الماوراء طبيعة والاصطناعية للغاية، كالشعور، والخيال، والفكر، والشك، والأمل، والزيف، واليوتوبيا، والنظرية والأسطورة".
وبهذا المعنى، فالتجريب هو قدرة الممارسة العقلية في احتكاكها وتفاعلها المباشر مع التجربة المتاحة التي تنتجها علاقة الذات بالموضوع، والتجريب المكون المنشأ لفعل الظاهرة المدركة، يحقق التصور المدرك، لنمط المفهوم المعلن في سياق العملية التجريبية والتي بدورها تفرز الخطاب المسند إليه.
1/2 : السياق:
تطور التجريب من مفردة لغوية إلى مفردة سياقية عاكسا بذلك تحولات تاريخية وسياسية وثقافية أدبية- روائية.
1/3: السياق التاريخي:
عرف الغرب الحداثي، تأزما تاريخيا، بظهور ظاهرة الحروب المدمرة التي أتت على الأخضر واليابس، فكانت الحرب العالمية الثانية، مخيبة لآمال خطاب الحداثة، ومشروعه التنويري الإنساني، وذلك بعد صعود الخطاب الفاشي العدائي في بنيته وبيئته، والذي جعل مفرداته تؤسس لمنظومة "تنشأ سلما متدرجا من النفي إلى غير النفي، معطيا الصفة العرقية للخصومات ما بين الإمبرياليين: في القمة الجرمان، ثم السلتي والألبي... واللاتيني"، مخالفة في جوهرها – يوتوبيا- الحداثة، وعنفوانها، وتطلعها الجمالي وابتهاجها الوجداني للمدينة المتخيلة، التي يحلم بها الإنسان وحنينه لأسطورته الأولى، ومدوناته الرمزية، وشغفه لتفكيك دلالتها، ومعرفة كينونة الحقيقة، وتوقه للقبض عليها واستقصاء هوامشها، وسرودها، والوقوف على لذة حكيها وإعادة صياغتها وتجريبها، ولكن هذا لم يكن إلا حلما، ليفتح عينيه من جديد، ليعانق لذة الخراب، أمام هول الفاجعة، وخراب التجربة، وغياب الشكل، وبشاعة الموقف والرماد الذي نسج المدينة المحملة بتجريب خطاب الذباب السارتري، وعبثية لامعقولية الانتظار (بكيت)، وشيئية، وفراغ الكراسي (يونسكو)، ومناخات القسوة والعنف (أداموف)، وإسقاط الكينونة (داروين)، وانكشاف اللاوعي من الوعي (فرويد)، وموت لذة الأسطورة (إيليا مرساد)، وشراهة الخبز (ماركس).
1/4: الشكل الروائي من المفهوم إلى النسق:
انبثق الشكل الروائي الغربي، من رحم الوعي البرجوازي، وقدرته على إرساء جمالية جديدة، تعكس مخياله البطولي الزاحف نحو التجديد والابتكار، فكانت الرواية في شكلها الابتدائي منشغلة بتحولات مرحلية حاملة على عاتقها "التنوع الاجتماعي واللساني من جهة، والأصوات الفردية واللغوية في تنوع أدبي منظم من جهة أخرى"، وإن كان سياق المرحلة مرتبطا جذريا بإشكالية المفهوم الجديد، وكيفية بروزه وتعبيره، وإرساء معالمه الأولى، فجاء الشكل الأول منفعلا بنيته الرومانسية الجديدة ووعيها الملحمي القديم- الجديد (الرواية)، محولا أشكالا قديمة (الملحمة) إلى أشكال جديدة (الرواية)، وفق نسق جديد، تمليه الاعتبارات الإيديولوجية والسياسية التي حمل لواءها البرجوازيون الجدد، فكانت الرواية بيانهم الجمالي، ووسيطا ثقافيا، ومعبرا لتواصلهم في تاريخ السرد العام.
1/5: الرواية الغربية والتجريب:
المتغير سمة الفن، والقطيعة أداته الرئيسية، والجدة والمغايرة والتجريب سمات الخطاب الثقافي الغربي العام، والرواية لا يمكن أن تخرج عن الحساسية الجديدة، التي أشاعها خطاب الحداثة، فكل الأشكال تتحول، بينما فيها الإنسان ذاته. والرواية مطالبة بأن تكون جديدة تساير المتغيرات، وتخلق قواعدها الجديدة دون الوقوع في التكرارية والاستهلاكية، وتجاوز الأنماط القديمة في الأسلوب والبناء والتقنية، ورسم الشخصيات ومنظورها، وتجريب أنماط وأشكال لم تكن مقترحة في الأصل، مع الإيمان أنه ليس هناك قالب جاهز، ولن يكون القالب الجديد المكتوب هو بيان الكتابة الروائية الجديدة، فالأشكال تموت بمجرد بروزها وقراءتها، والكتابة الروائية لا تحدد مفهومها إلا من خلال كتابتها الخاصة، وما ينتج عنها من مقروئية، ما هو إلا قراءة تحتفل بالشكل المقروء، بحسب صياغتها المقترحة.
والرواية الجديدة، ما هي إلا حكي للكلمات والأشياء والأشكال، وقدرتها على إنتاج الوصف، وتركيزها على التبئير الخارجي، ورفضها لمحورية الشخصيات وغيابها في كثير من الأحيان في الفضاء السردي أصبح من سماتها الجديدة.
ويمكن استخلاص بعض العناصر العامة التي تشكل الرواية التجريبية، وإن كانت هذه العناصر لا يمكن الاعتماد عليها في معرفة هذا الشكل الجديد، لأن الرواية الجديدة (التجريبية) لا تقوم إلا مفهوم خاص، ألا وهو (التجريب في التجريب).
6. الشخصيات: لم تعد رئيسية (عوضت بالكلمات أو الرموز...الخ).
7. التبئير: التبئير الخارجي (الرؤية من الخارج) هو أساس العملية السردية.
8. الوصف: حضور الوصف وكثافته وتغليبه على باقي القضايا الأخرى السردية.
9. اللغة الروائية: اللغة السردية متنوعة ومتعددة وابتكارية، تتعدد بتعدد المواقع التي يفرزها السياق السردي.
10. فاعل النوع: تتفاعل وتتداخل مع كثير من الأنواع الأدبية الأخرى، خاصة الخطاب السينمائي والمسرحي والفن التشكيلي.
2: تصورات حول التجريب في الرواية العربية:
إذا كان التجريب في الرواية الغربية ارتبط بخطاب الحداثة التنويري، ودعوته إلى تعدد المعارف وحواريتها، وهذا ما جعل الرواية الغربية تحتفل بكتابتها في حقل ثقافي قائم على تجريب الوعي وقدرته على التفكير بحرية، بعيدا عن سلطة المرجع الواحد، أو هيمنة المطلق، وفي السياق "رأت الرواية العربية النور في حقل ثقافي تلقيني مسيطر، والسيطرة لا تلغي النقيض، قوامه سلطة النص الديني المؤول ملحميا بلغة باختين، وسلطة البلاغة المؤولة دينيا تعين النص الديني مرجعا شموليا".
فالشروط الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي صاحبت ولادة الرواية العربية كجنس أدبي، مختلفة تماما عن ولادة الرواية الغربية، وذلك يعود- كما ذكرنا سابقا- لاختلاف الحقل الثقافي والمعرفي، مما يجعل التجريب في الكتابة الروائية العربية يحمل التصورات نفسها، التي عرفتها الرواية الغربية، ويمكن رصد حركة التجريب في الرواية العربية في متغيرات أساسية وفرعية:
2/1: المتغير الأول (البنيوي):
عرفت الرواية العربية حراكا بنيويا، تفكيكيا، من خلال السوسيولوجي، والممثل أساسا في التحولات التي عرفها المجتمع العربي في تغير بنياتها الاجتماعية والعمرانية، من مجتمع قروي إلى مجتمع مديني، وإن كان هذا التغير مرتبطا بخطابين أساسيين، وهما: خطاب الحداثة، وخطاب العنف الاستعماري. إن هذين الخطابين من العلامات الأولى في نشأة وتجريب الكتابة الروائية العربية، فهي إذن دعوة لاستثمار خطاب الحداثة بكل بنياته المعرفية والجمالية من جهة، ومواجهة عنف الخطاب الاستعماري من جهة أخرى. فالتجريب الأول في الكتابة الروائية- العربية- هو البحث عن هذا الشكل الجيد الوافد من الآخر وربطه بالمتغير القيمي المجتمعي، وإشكاليته الثقافية والسياسية.
2/2: المتغير الثاني (السياسي):
إن أهم حدثين سياسيين غيرا الجغرافيا السياسية للمجتمعات العربية، وأحدثا فيها صدمة تاريخية وثقافية وأدبية- روائية هما: احتلال فلسطين سنة 1948، وهزيمة 1967. فوقع الهزيمتين ترك ظلالة وأسئلته، والرواية العربية هي الأخرى معينة أيضا في إعادة صياغة أسئلتها، والبحث عن الإجابات الممكنة. فالواقع الجديد يقتضي شكلا جديدا في إعادة صياغة المرحلة مما سيحتم على كتاب الرواية اكتشاف الأدوات والأشكال، والانفتاح على المرجعيات والصيغ المختلفة في القص القديم والحديث، ثم تجريبها، واستخراج وابتكار تصور كتابي يشكل مفهوما جديدا في تجربة الرواية العربية الحديثة.
2/3: المتغير الثالث (جيل الحساسية الجديدة):
حمل الجيل الجديد، الذي ورث إرثا تقليديا في كتابة الرواية العربية من مقامات الهمذاني إلى محمد حسين هيكل (زينب)، فقرأ سرودها وجمالياتها، وتقبل بيانها الحكائي، وتمثلها باحتفالية، وقدس متحفيتها الجماعية، إلى أن وجد نفسه في مفترق الطرق، وأمام خيارات لم تكن من صنيعه، فواقعه المهزوم سياسيا (استعماريا) وثقافيا وأناه المشرنقة بين ماض وهمي، وواقع مقهور ومغشوش، واضطراب إيديولوجي، وغياب الرؤية والاتجاه والهدف، وشيوع روح القلق، وبروز الذات الفردية واندفاعها نحو المغامرة في الكتابة، والبحث عن الخصوصية والتفرد، والخروج عن ما هو مألوف، والعبث بالأشكال المتعارف عليها في كتابة الرواية، والاندفاع نحو تجارب جديدة، وتجريب كل ما هو غير ممكن، فهذه الروح الجديدة عند الجيل الجديد، أعطت للرواية العربية كما هائلا من الكتابات المتنوعة في الاشكال والصيغ والأدوات الفنية، ومنحت بذلك آفاقا جمالية وتجريبية، أضفت على المشهد السردي العربي المعاصر، مشاريع روائية متنوعة بتنوع كتابها، ولتدفع بذلك الخطاب النقدي العربي، بتجديد آلياته ومقاربته وأدواته النقدية، وتعامله بوعي نقدي، يستجيب لمتطلبات الوعي الجمالي (الروائي)، وتناغم معه من حيث الأدوات التجريبية.
إن التجريب في الرواية العربية الحديثة تكمن فاعليته الجمالية في مدى قدرة كتابها على طرح الأسئلة الجديدة، وصياغة الأشكال الجديدة.
المراجع المعتمدة:
10. السردية العربية الحديثة، تفكيك الخطاب الاستعماري، وإعادة تفسير النشأة. د/ عبد الله إبراهيم، المركز الثقاففي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2003.
11. لغز العقل: مشكلة العقل- الجسد في الفكر المعاصر، سرجيو مورافيا، تر: عدنان حسن، منشورات وزارة الثقافة السورية، 2002.
12. تاريخ الإيديولوجيات، ج3، المعرفة والسلطة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، فرنسوا شاتلية، تر: أنطوان حمص، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1997.
13. مدينة الإنسان: بيير مانينه (Piere Maneni)، تر: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2000
14. Esthetique et theorie du roman, Mikhail Bakhtine, Gallimard, 1978.
15. نحو رواية جديدة: آلا غروب غرييه، تر: مصطفى إبراهيم، دار المعارف، مصر، دت.
16. بحوث في الرواية الجديدة: ميشال بوتور: تر: فريد أنطونيوس، ط1، منشورات عويدات عويدات، 1971.
17. نظرية الرواية والرواية العربية، د/ فيصل دراج، المركز الثقافي.
السردية العربية الحديثة، تفكيك الخطاب الاستعماري، وإعادة تفسير النشأة. د/ عبد الله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2003، ص:6.
لغز العقل: مشكلة العقل- الجسد في الفكر المعاصر، سرجيو مورافيا: عدنان حسن، منشورات وزارة الثقافة السورية، 2002، ص:48.
تاريخ الإيديولوجيات، ج3، المعرفة والسلطة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، فرنسوا شاتلية، تر: أنطوان حمص، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1997، ص: 285/286.
، تر: فاطمة الجيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2000. (Piere Maneni انظر: مدينة الإنسان: بيير مانينه (
Esthetique et theorie du roman, Mikhail Bakhtine, Gallimard, 1978, P88.
انظر: نحو الرواية جديدة: آلان غروب غريية:، تر: مصطفى إبراهيم، دار المعارف، مصر، دت.
انظر: بحوث في الرواية الجديدة: ميشال بوتور: تر: فريد أنطونيوس، ط1 منشورات عويدات، 1971.
نظرية الرواية والرواية العربية، د/ فيصل دراج، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1999، ص: 148.